وقال ابن رُشْد المالكي: (( اختلف العلماء في وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة فكره ذلك مالك في الفرض، وأجازه في النفل ))(1).
وقال النووي: (( وعن مالك رحمه الله أيضاً استحباب الوضع في النفل والإرسال في الفرض، وهو الذي رجحه البصريون من أصحابه ))(2).
وقال العلامة الشهيد السماوي: (( وأما الإمام مالك بن أنس إمام أهل السنة فقد كره وضع إحدى اليدين على الأخرى في الفرض، وأجاز ذلك في النفل كما ذكر ابن رشد، والظاهر أن آثار الفعل لم تصح عنده، ولو صحت لقال بسنيته، فمنع منه الفرض دون النفل ))(3).
الرواية الثانية: أن الضم لا يجوز في الفريضة ولا يستحب في النافلة.
قال القرطبي وهو يحكي آراء المالكية: (( لا توضع ـ يعني اليدين ـ في فريضة ولا نافلة؛ لأن ذلك من باب الاعتماد، ولا يجوز في الفرض ولا يستحب في النفل ))(4).
وقال ابن عبد البر في (التمهيد)(5): ((قال مالك: وضع اليدين إحداهما على الآخرى في الصلاة إنما يفعل ذلك في النوافل من طول القيام، قال: وتركه أحب إلي )).
وقال النووي في (المجموع): ((وروى عنه ابن القاسم الإرسال، وهو الأشهر، وعليه جميع أهل المغرب من أصحابه أو جمهورهم ))(6).
وقال (في شرح صحيح مسلم) بعد ذكر رواية الإرسال عن مالك: ((وهذه رواية جمهور أصحابه وهي الأشهر عندهم ))(7).
وقال الحافظ ابن حجر: (( وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال، وصار إليه أكثر أصحابه ))(8)، ومثل قول ابن حجر قال العلامة الأمير في (سبل السلام)(9)، والزرقاني في (شرح الموطأ) (10).
__________
(1) بداية المجتهد 3/136 (النهاية).
(2) شرح صحيح مسلم 4/114.
(3) الغطمطم الزخار 5/49.
(4) جامع أحكام القرآن 20/220.
(5) التمهيد 20/74.
(6) المجموع 3/247.
(7) شرح صحيح مسلم 4/114.
(8) فتح الباري 2/178.
(9) سبل السلام 1/169.
(10) شرح الموطأ 1/454.(1/21)
وذكر ابن القيم الأحاديث التي رويت في الضم، ثم قال: (( وردت هذه الآثار برواية ابن القاسم عن مالك: تركه أحب إلي ))(1).
وقال الشوكاني: (( ونقله ـ أي الإرسال ـ ابن القاسم عن مالك، وخالفه ابن الحكم فنقل عن مالك الوضع، والرواية الأولى عنه هي رواية جمهور أصحابه، وهي المشهورة عندهم ))(2).
وقال المباركفوري في ذكر الروايات عن مالك: ((إحداها ـ وهي المشهورة عنه ـ أنه يرسل يديه كما نقله صاحب (الهداية) والسرخسي في (محيطه) وغيرهما عن مالك، وقد ذكر العلامة أبو محمد عبد الله الشاسي المالكي في كتابه (عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة)، والزرقاني في (شرح الموطّأ) أن إرسال اليدين رواية ابن القاسم عن مالك، وزاد الزرقاني أن هذا هو الذي صار إليه أكثر أصحابه ))(3).
وقال العلامة الفضيل: (( عبارة مالك تعني أنه لا يعرفه أهل المدينة ولا يعلمونه، ولهذا فالمالكية جميعاً لا يعملونه اليوم، ويقول فقهاء المالكية في مؤلفاتهم: إن الإرسال في الصلاة هو إجماع أهل المدينة المنورة )) (4).
وقال صاحب (الاستنارة): (( ومعلوم أن مذهب المالكية هو الإرسال وما زال إلى التاريخ ))(5).
المذهب الثاني: التخيير بين الضم والإرسال، ذكر ذلك العلامة أبو محمد الشاسي(6)، والمباركفوري في تحفة الأحوذي(7)، وهي رواية مغمورة، ولعلها مجرد ترجيح من أحد المالكية.
المذهب الثالث: الضم مندوب، ذكر الشاسي أنها رواية مطرف وابن الماجشون عن مالك(8)، وقال المباركفوري: ذكره العيني في شرح (الهداية)(9).
وذكر النووي أن ابن عبد الحكم نقل عن مالك الوضع(10).
__________
(1) أعلام الموقعين 2/383.
(2) نيل الأوطار 2/201.
(3) تحفة الأحوذي 2/83. وانظر عقد الجواهر الثمينة 1/132.
(4) رسالتان 9 ـ 10.
(5) الاستنارة 75.
(6) عقد الجواهر الثمينة 1/132.
(7) تحفة ألأحوذي 2/83.
(8) عقد الجواهر الثمينة 1/132.
(9) تحفة الأحوذي 2/83.
(10) المجموع 3/312.(1/22)
قال المبارك فوري: (( هو الذي ذكره مالك في (الموطأ) ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره ))(1).
وهذه رواية ضعيفة لمخالفتها المشهور عنه وما عليه جمهور أصحابه.
فإن قال قائل: قد روى مالك في (الموطّأ) حديث سهل بن سعد في الضم، و(الموطأ) عند المالكية عمدة.
قيل له: مجرد الرواية لا تدل على العمل بظاهرها، إضافة إلى أن عمدة المالكية في الفقه هو كتاب (المدونة)؛ لأنها مؤلفة بعد (الموطّأ)، أشار إلى ذلك غير واحد(2).
وقال ابن حجر: قال الحسيني في مقدمة (التذكرة): (الموطأ) لمالك هو مذهبه الذي يدين الله به أتباعه ويقلدونه. ثم تعقبه ابن حجر بقوله: ليس الأمر عند المالكية كما ذكر، بل اعتمادهم في الأحكام والفتوى على ما رواه ابن القاسم عن مالك ـ يعني (المدونة) ـ سواء وافق ما في (الموطأ) أم لا(3).
والأوْلَى أن يقال: قد ثبت عن مالك القول بالإرسال، فما روي من طريقه في (الموطّأ) أو غيره يجب أن يحمل على معنى يتلاءم مع ما ثبت عنه أنه كان يفعله.
أدلة الإرسال عند المالكية
(1) - البقاء على الأصل، فالمالكية يرون أن الإرسال هو الأصل في هيئة الإنسان أثناء القيام، وعلى ذلك لا يحتاجون إلى غير دليل القيام، والضَّم حركة زائدة على المأمور به، فلا تثبت إلا بدليل.
(2) - أن الضم غير معروف عند السلف، ولو عرفه مالك وأصحابه لما عدلوا عنه، إذ لا دافع لهم في تركه، إلا عدم ثبوت الدليل .
(3) - أن الضم ينافي الخشوع المأمور به؛ لأنه حالة من الاعتماد والانشداد.
(4) - أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عَلَّم المسيء صلاته ولم يذكر وضع اليدين إحداهما على الأخرى.
__________
(1) عون المعبود 2/455. وعزي الزرقاني في شرح الموطأ 4/454 هذا القول إلى ابن عبد البر ، ولم أقف عليه في التمهيد.
(2) العلامة الفضيل في الرسالتان 9.والحارث بن عبد الوارث في الاستنارة 75.
(3) تعجيل المنفعة 4.(1/23)
(5) - أن أشهر أحاديث صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يَرِد فيها ذكر الضم، ومن أشهر تلك الروايات:
ما روي عن أبي حُمَيْدٍ السّاعِدِيّ فقد سُمِع - وهو في عَشْرَة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، منهم أبي قتادة الأنصاري، (وأبي هريرة، وأبي أسيد، وسهل بن سعد)- يقول: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قالوا: لم ؟ فالله ما كنت أقدمنا له صحبةً ولا أكثرنا له إتياناً. قال: بلى، قالوا: فاعْرِض.
فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائماً ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، فإذا أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم قال: الله أكبر، وركع، ثم اعتدل، فلم يصوب رأسه ولم يقنع، ووضع يديه على ركبتيه (وفرج بين أصابعه ثم هصر ظهره ) ثم قال: سمع الله لمن حمده، ورفع يديه واعتدل، حتى يرجع كل عظم في موضعه معتدلاً، ثم أهوى إلى الأرض ساجداً، ثم قال: الله أكبر، ثم جافى عضديه عن إبطه، وفتح أصابع رجليه، (وأمكن أنفه وجبهته وأمكن الأرض بكفيه وركبتيه وصدور قدميه) ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها، ثم اعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه معتدلاً، ثم أهوى ساجداً، ثم قال: الله أكبر، ثم ثنى رجله وقعد واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه، ثم نهض.(1/24)
ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك، حتى إذا قام من السجدتين كبر ورفع يديه، حتى يحاذي بهما منكبيه، كما صنع حين افتتح الصلاة، ثم صنع كذلك حتى كانت الركعة التي تنقضي فيها صلاته أخّر رجله اليسرى وقعد على شقه متوركاً، ( فافترش رجله اليسرى وأقبل بصدر اليمنى على قبلته ووضع كفه اليمنى على ركبته اليمنى وكفه اليسرى على ركبته اليسرى وأشار بأصبعه)، ثم سلم(1).
هذا وعشرة من الصحابة يراقبونه مراقبة شديدة لعله يخطئ أو يسهو فيعترضون عليه، إذ هو في مقام النَّقد، فلما انتهى قالوا: صدقت هكذا كان يصلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فمراعاته لوصف جميع هيآت الصلاة، وعدم ذكره لوضع الكف على الكف يوكد على أن ذلك لم يكن معروفاً في الصلاة عندهم.
وقد ألف الشيخ محمد بن يوسف المالكي كتاباً سماه: (نصرة الفقيه السالك في الرد على منكر السدل في مذهب مالك).
الفصل الثالث
في ذكر من روي عنه الإرسال من الصحابة والتابعين
__________
(1) هذا لفظ الترمذي 2/105 رقم (304)، وما بين الأقواس من مصادر الحديث الأخرى، فقد أخرجه البخاري 2/11، وأبو داود 1 رقم (730 ـ 734) والنسائي 2/211، وابن ماجة 1/337، وابن خزيمة 1/ رقم (587، 651، 700)، وأحمد بن حنبل في المسند 5/424، وابن حبان 5 رقم (1866، 1867، 1869، 1870، 1871، 1876)، وابن أبي شيبة 1/235، والبيهقي في السنن 2/116. وصححه غير واحد، وهو من أشهر الأحاديث الواردة في صفة الصلاة.وقد شذ ابن حزم فذكر ه في المحلى 3/30، وفيه ذكر الوضع، ولم يوافقه على ذلك أحد من الحفاظ.(1/25)