* وقال الشيرازي ـ وهو يذكر صفة المصلي أثناء القيام ـ: (( يسدل منكبيه ويضع كفيه على فخذيه ))(1).
* وذكر السيد محمد باقر الصدر: أن التكتف (الضم) في الصلاة من الزيادة التي لا تجوز في الصلاة(2).
ثم اختلفوا في حكم صلاة من فعله على عدة أقوال:
القول الأول: أنها تبطل صلاته، قال العلامة العاملي: (( القول بالبطلان هو المشهور بين الأصحاب، ونقل الشيخ ـ يعني الطوسي ـ والمرتضى فيه الإجماع ))(3).
وقال العلامة الكركي: (( هو حرام في الصلاة عند أكثر الأصحاب ومبطل ))(4).
وعده الشهيد الثاني في مبطلات الصلاة(5).
وقال العلامة الحلي: (( التكفير مبطل للصلاة ـ وهو: وضع اليمين على الشمال في القراءة ـ عند علمائنا لإجماع الفرقة عليه ))(6).
وقال العلامة النِّراقي: (( حرمته في الصلاة مشهورة، صرح بها في (الانتصار) و(الخلاف) و(النهاية) و(الجمل) و(السرائر) و(الوسيلة) و(الغنية) و(النافع) و(المنتهى) و(التذكرة) و(نهاية الأحكام) و(التحرير) و(الإرشاد) و(القواعد) و(شرحه) و(الروضة) وغيرها ))(7).
وقال الشيخ محمد جواد مغنية: (( ذهب أكثر الفقهاء ـ يعني فقهاء الإمامية ـ إلى أنه حرام ومبطل للصلاة )) (8).
واحتجوا على كونه مبطلاً للصلاة بحجج، منها:
ـ أنه فِعْلُ كثير خارج عن الصلاة.
ـ أن أفعال الصلاة متلقاة من الشارع، ولم يشرع الضم في رأيهم؛ لأنهم لا يعتدون بما روي في ذلك من روايات.
ـ أن الاحتياط يقضي بترك ذلك؛ لأنه قد وقع الخلاف فيه دون الإرسال.
ـ أنه قد روي عن الصادق النهي عنه، والنهي يقتضي التحريم(9).
__________
(1) المسائل الإسلامية 283 المسألة رقم 985.
(2) الفتاوى الواضحة 524 المسألة رقم 156.
(3) مدارك الأحكام 3/459.
(4) جامع المقاصد 2/344.
(5) اللمعة الدمشقية 1/235.
(6) تذكرة الفقهاء 3/295.
(7) مستند الشيعة 7/ 16 ـ 17.
(8) فقه الإمام جعفر الصادق 1/187.
(9) انظر مدارك الأحكام 3/459 ـ 460، وجامع المقاصد 2/344.(1/16)
القول الثاني: أنه حرام غير مبطل للصلاة.
قال العلامة النِّراقي: (( ثم أنه هل هو موجب لبطلان الصلاة؟ كما صرح به كثير من المحرمين؛ ومنهم والدي ـ رحمه الله تعالى ـ في بحث المنافيات من (التحفة الرضوية) أو لا؟ كما في (شرح الإرشاد) للأردبيلي، و(الروضة) و(المسالك)، ووالدي ـ رحمه الله ـ في بحث القيام من الكتاب المذكور. الحق هو الثاني للأصل الخالي عن المعارض مطلقاً، إلا ما استدل به من الإجماع البسيط في (الخلاف)، والمركب المصرح به في كلام الثانيين ـ يعني المحقق الثاني في (جامع المقاصد)، والشهيد الثاني في (روض الجنان) ـ وكونه فعلاً كثيراً، وأصل الاشتغال، وتوقيفية العبادة، ولزوم الزيادة في الصلاة، والكل ضعيف يظهر وجهه مما مر مراراً ))(1).
القول الثالث: أن تركه مستحب وفعله مكروه.
أشار إلى ذلك العلامة العاملي فقال: (( وخالف في ذلك ـ أي في كونه مبطلاً للصلاة ـ ابن الجنيد، حيث جعل تركه مستحباً، وأبو الصلاح حيث جعل فعله مكروهاً، واستوجهه في (المعتبر) ))(2).
واحتج أصحاب هذا القول بأن الأحاديث دلت على استحباب وضع اليدين على الفخذين محاذياً للركبتين، ولم تدل على الوجوب، ولم يتناول النهي وضعها في موضع معين، فكان للمكلف وضعها كيف يشاء. وأن ما ورد من إجماع على أنه مبطل للصلاة غير معلوم، خصوصاً مع وجود المخالف من أكابر الفضلاء. وأن من الضعف بمكان القول بأنه فعل كثير؛ لأن الفعل الكثير هو ما لا يُعَدَّ فاعله معه مصلياً في العادة. وأنه لم يثبت تحريمه كما لم يثبت تشريعه، فكان للمكلف وضعها كيف يشاء، وعدم تشريعه لا يدل على تحريمه.
__________
(1) مستند الشيعة 7/ 18 ـ 19.
(2) مدارك الأحكام 3/459، جامع المقاصد 2/344.(1/17)
وأجابوا على القول بأن الاحتياط يقضي بطرح ذلك، بأن الأوامر المطلقة بالصلاة دالة بإطلاقها على عدم المنع، وحملوا النهي عن التَّشَبُّه بالمجوس في ذلك على الكراهة؛ لأن مخالفتهم غير واجبة؛ لأنهم قد يفعلوا بعض ما يجب، فيكون الأمر بمخالفتهم لا على الوجوب.
وأجيب عليهم بأن ظاهر النهي التحريم، وكون مخالفتهم غير واجبة لا يقدح؛ لأن وجوبها حيث لا يدل دليل على الضِّد؛ لأن العام المخصص حجة في الباقي، على أنه لو تم ما ذكروه فإنها لا تتحقق الكراهة أيضاً؛ لأن مخالفتهم في الواجب حرام(1).
وفرق الشهيد الصدر بينما فُعِل منه بقصد أنه مشروع، وما فعل بقصد آخر، فقال: (( وضع إحدى اليدين على الأخرى في حال الصلاة غير مطلوب شرعاً ومن صنع ذلك قاصداً أنه مطلوب ومحبوب للشرع، فقد فعل حراماً؛ لأنه شَرَّع، ومن أتى به ولم يقصد أنه جزء من الصلاة فصلاته تقع صحيحة، وأما إذا قصد أنه جزء من الصلاة فصلاته باطلة ما لم يكن معتقداً خطأ بأنه جزء (2).
ولعله يريد بذلك ما فعل للتقية، ويُفهم من آخر كلامه أن من فعله معتقداً أنه جزء من الصلاة فإن صلاته لا تبطل وإن كان خطأ.
أدلة الإمامية
يَعتبر الإماميةُ أقوالَ الأئمة الاثني عشر حجة ودليلاً، وهي عندهم بمنزلة الحديث النبوي، باعتبارها صادرة من المعصوم في نظرهم، وقد استدلوا على ما ذهبوا إليه ـ من ذلك ـ بأدلة كثيرة منها:
(1) - روى أبو جعفر الطوسي، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر من حديث طويل في صفة الصلاة، أنه قال: (( وأسدل منكبيك وأرسل يديك ))(3).
(2) - عن أبي عبد الله عليه السلام ـ في حديث ـ أنه لما صلى قام مستقبل القبلة منتصباً، فأرسل يديه جميعاً على فخذيه قد ضَمَّ أصابعه(4).
__________
(1) مدارك الأحكام 3/460 جامع المقاصد 2/344 ـ 345.
(2) الفتاوى الواضحة 534.
(3) وسائل الشيعة 5/511.
(4) وسائل الشيعة 5/511.(1/18)
(3) - عن أبي جعفر عليه السلام قال: (( إذا قمت إلى الصلاة فلا تلصق قدمك بالأخرى ودع بينهما فصلاً إصبعاً أقل ذلك إلى شبر أكثره، وأسدل منكبيك، وأرسل يديك ولا تشبك أصابعك، وليكونا على فخذيك قبالة ركبتيك ))(1).
(4) - وروي أيضاً عن أبي جعفر أنه قال: ((لا تُكَفِّر إنما يصنع ذلك المجوس ))(2).
(5) - وروى أيضاً فقال: (( وعن أحدهما ـ يعني الصادق والباقر ـ أنه سئل عن وضع اليمنى على اليسرى، فقال: ذلك التَّكْفِير فلا تفعل )). ونحوه حكى الشيخ محمد جواد مغنية(3).
(6) - وروى الشيخ الصدوق عن الإمام جعفر بن محمد الصادق أنه قال ـ من كلام طويل ـ : (( لا تكفر إنما يصنع ذلك المجوس، وأرسل يديك وضعها على فخذيك، قبالة ركبتيك فإنه أحرى أن تهتم بصلاتك، ولا تشتغل عنها نفسك ))(4).
(7) - وعن علي بن الحسين عليه السلام أنه قال: (( وضع الرجل إحدى يديه على الأخرى في الصلاة عمل، وليس في الصلاة عمل ))(5).
(8) - وعن علي عليه السلام أنه قال: (( لا يجمع المسلم يديه في صلاته وهو قائم بين يدي الله عز وجل يتشبه بأهل الكفر ـ يعني المجوس ))(6).
وهنالك عشرات الروايات في كتبهم عن سائر الأئمة الاثني عشر، أقتصر منها على ما سبق.
hg
الفصل الثاني
الإرسال في مذهب إمام أهل السنة مالك بن أنس
يعتبر الإمام مالك بن أنس من أكابر أئمة الحديث والفقه، فقد جمع بين الدقة في رواية الأحاديث وحسن النظر في معانيها، إلى جانب أن وجوده في مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبيئته وتعلمه من مشايخها مَكَّنه من التعرف عن كثب على الكثير مما مضى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، خصوصاً في المسائل العملية التي ورثها أهل المدينة في عصره عن جيل الصحابة رضوان الله عليهم.
__________
(1) وسائل الشيعة 5/511.
(2) تهذيب الأحكام 2/83 ـ 84.
(3) فقه الإمام الصادق 1/187.
(4) من لا يحضره الفقيه 1/214.
(5) قرب الإسناد 208 (809).
(6) وسائل الشيعة 7/267.(1/19)
وقد كان إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليديه عند القيام في صلاة الفريضة من الأشياء المعروفة المألوفة عند أهل المدينة في الصدر الأول، مما جعل الإمام مالك مع شدة بحثه وتقصيه يقول ـ عندما سئل عن وضع الكف على الكف في الصلاة ـ: (( لا أعرفه في الفريضة )). وهو ثقة يحكي عن واقع يعيشه ويشاهده.
ونظراً إلى مكانة الإمام مالك العلمية، وقربه من عصر التشريع، وموقعه المتقدم بين أئمة أهل السنة، كان لكلمته في هذا الباب وزن كبير، مما جعل بعض المتحيزين يسعون إلى الخلاص مما روي عنه في هذه المسألة، فتارة يكتمونها، وتارة يروون عنه معارضاً لها، وتارة يفلسفونها فلسفة بعيدة، فيزعمون أن الإمام مالك ما ترك الضم في الصلاة إلا لأنه ضُرِب على يده، فكان لا يستطيع أن يمسكها على صدره، وهذا تأويل غير مجد حتى مع صحة الحادثة؛ لأنه إن كان ضُرب على يده فلم يُضْرَب على لسانه، حتى يقول: (( لا أعرفه في الفريضة ))!!
ولكي يكون المطلع على بينة من الأمر، سنضع بين يديه بعض التفاصيل المتعلقة بما روي عن الإمام مالك في هذه المسألة فنقول:
اشتهر عن الإمام مالك بن أنس القول بالإرسال، وعليه مضى كبار أصحابه، وروي عنه التخيير بين الإرسال والضم، وحكي آخرون عنه أن الضم مندوب، فهذه ثلاثة مذاهب، سنفصلها جميعاً فيما يلي:
المذهب الأول: الإرسال، وهو الأشهر والأكثر رواية، وعليه جمهور أصحابه، وأتباعه ممن لم يتأثر بالمذاهب الأخرى، كما هو الحال في سائر المذاهب، وقد روي عنه في ذلك روايات:
الرواية الأولى: الإرسال وكراهة الضم في صلاة الفريضة، وجواز الضم في النافلة.
ففي (مدونة فقه الإمام مالك): (( عن ابن القاسم قال: سئل مالك عن الضم، فقال: لا أعرفه في الفريضة. وكان يكرهه ))(1).
__________
(1) المدونة 1/76.(1/20)