استدل علماء الزيدية على ما ذهبوا إليه من أن إرسال اليدين عند القيام في الصلاة هو المشروع بمجموعة من الأدلة، مع أنهم ومَن وافقهم لا يحتاجون إلى دليل في ذلك؛ لأنهم باقون على الأصل، وإنما يلزم من أتي برافع عن الأصل، أو ادعي شرعية ما اخْتَلَفَ في شرعيته أئمةُ الإسلام، وإنما ذكرنا هذه الأدلة تنبيها على عدم دقة دعاوى عدم وجود دليل على الإرسال، فعن الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير أنه قال: "وما علمت أنه روى أحد من أهل البيت وشيعتهم حديثاً واحداً في النهي عن وضع الكف على الكف في الصلاة(1).
وقال العلامة الحسن بن علي السقاف: وأما الإسبال ـ وهو: إرسال اليدين دون وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة الذي يفعله بعض الناس ـ فالسنة بخلافه(2).
ولعمري لقد تسرع كل من الحافظ الوزير والعلامة السقاف في هذا الحكم؛ لأن ما نورده من الروايات من كتب أهل البيت يشهد بغلطهما.
ومما يحسن التنبيه عليه هنا أنه لا يصح أن تُقَيَّم أدلة القائلين بالإرسال على قواعد مخالفيهم في تقييم الأدلة، فلا يقال: هذا الحديث ضعفه ابن معين أو الذهبي أو الشوكاني أو أتباعهم؛ أو أنه لا يوجد في كتاب البخاري أو مسلم أو الترمذي أو أبي داود أو غيرهم من المحدثين، ولكن تقيَّم على قواعد الزيدية أنفسهم، فإن ذلك أقرب إلى الحق والانصاف، إذ الكل يعتقد أن ما لديه هو الأصح وأن على بقية المسلمين التمسك به.
فمن أدلة الزيدية على ما ذهبوا إليه من ترجيح الإرسال في الصلاة ما يلي:
(1) - روى الحافظ محمد بن منصور المرادي، عن الإمام القاسم الرسي، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إذا كنت في الصلاة قائماً فلا تضع يدك اليمنى على اليسرى، ولا اليسرى على اليمنى، فإن ذلك تكفير أهل الكتاب، ولكن أرسلهما إرسالاً، فإنه أحرى أن لا تشغل قلبك عن الصلاة )).
__________
(1) العواصم والقواصم 3/14.
(2) صحيح صفة صلاة النبي 83.(1/11)


احتج به الإمام القاسم بن محمد في (الاعتصام)(1)، والعلامة صلاح بن المهدي في (لطف الغفار)(2).
(2) - روى الإمام محمد المرتضى (ت310هـ)، عن أبيه الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن الإمام القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب في كتاب (المناهي)(3) بالإسناد من طريق آبائه، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه نهى أن يجعل الرجل يده على يده على صدره في الصلاة، وقال: ذلك مِنْ فعل اليهود، وأمر أن يرسلهما.
احتج بهذا الحديث الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد في الاعتصام(4)، والشهيد محمد بن صالح السماوي في (الغطمطم)(5) وقال: هذا إسناد في نهاية الصحة، كيف لا، ورجاله تلك السلسلة النبوية المطهرة بتطهير الله ورسوله؟
وصحح سنده شيخنا العلامة المحقق بدر الدين الحوثي في كتاب (التبيين)(6). ولا أعلم أحداً من علماء الزيدية ضعف هذه الرواية، أو شكك في صحتها.
(3) - أخرج الحافظ محمد بن منصور أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه نهى أن يدخل إحدى يديه تحت الأخرى على صدره وهو يصلي، وقال: ذلك فعل اليهود، وأمر أن يرسلهما(7).
احتج به الإمام المنصور بالله في (الاعتصام)(8)، والعلامة السماوي في (الغطمطم)(9).
__________
(1) الاعتصام 1/362.
(2) لطف الغفار الموصل إلى هداية الأفكار مخطوط 496.
(3) المجموعة الفاخرة 247 مخطوط.
(4) الاعتصام 1/363.
(5) الغطمطم الزخار 5/48.
(6) التبيين في الضم والتأمين 8.
(7) كتاب المناهي ـ مخطوط ـ.
(8) الاعتصام 1/362 و2/13. وقد أسقط أيضاً من المطبوع: وذلك من فعل اليهود. وهو ثابت في جميع النسخ المخطوطة.
(9) الغطمطم الزخار 5/48.(1/12)


ولفظه في (لطف الغفار): أمر صلى الله عليه وآله وسلم أن يرسل يديه إذا كان قائماً في الصلاة، ونهى أن يدخل إحدى يديه تحت الأخرى على صدره، وقال: ذلك فعال اليهود، وأمره أن يرسلهما(1).
ويشهد لما تقدم من غير طريق أهل البيت، ما أخرج ابن أبي شيبة - وهو من كبار محدثي أهل السنة - عن وكيع، عن يوسف بن ميمون، عن الحسن البصري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كأني أنظر إلى أحبار بني إسرائيل واضعي أيمانهم على شمائلهم في الصلاة ))(2). ورواه السيوطي في (الجامع الكبير)، وقال العلامة الشهيد محمد بن صالح السماوي: إسناده إلى الحسن صحيح(3). أقول: وقد ثبت عن الحسن البصري رحمه الله، أنه قال: كل شيء أقوله قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو عن علي بن أبي طالب(4).
(4) - أخرج الحافظ محمد بن منصور المرادي، في كتاب (المناهي)(5) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى الرجل أن يجعل يده على يده في صدره وهو يصلي، أو يده على فِيْهِ وهو يصلي، وقال: كذلك المغلول، وأمر أن يرسل يديه إذا كان قائماً في الصلاة.
احتج به الإمام القاسم بن محمد في (الاعتصام)(6)، والعلامة أحمد بن محمد الشرفي في كتابه (ضياء ذوي الأبصار في الأدلة على الأزهار)(7)، والمحقق الشهيد محمد بن صالح السماوي في (الغطمطم)(8) وجزم بصحته.
__________
(1) لطف الغفار الموصل إلى هداية الأفكار مخطوط 496.
(2) مصنف ابن أبي شيبة 1/343 (3937).
(3) الغطمطم الزخار 5/48.
(4) قواعد التحديث للقاسمي 148.
(5) كتاب المناهي ـ مخطوط ـ.
(6) الاعتصام 1/362 و 2/13. وقد أُسقط من المطبوع، قوله: وذلك من فعل اليهود. وهو ثابت في جميع النسخ المخطوطة.
(7) ضياء ذوي الأبصار في الأدلة على الأزهار 1/77 مخطوط.
(8) الغطمطم 5/48.(1/13)


ويشهد لهذا من غير طريق أهل البيت، ما روى ابن القيم: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن التكفير(1). فقال: ويكره أن يجعلهما على الصدر، وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه نهى عن التكفير، وهو وضع اليدين على الصدر.
(5) - أن أكثر أحاديث صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يَرِد فيها ذكر الضم، قال ابن رُشْد القرطبي: (( رأى قوم أن الآثار التي أَثْبَتَتْ ذلك ـ يعني الضم ـ اقتضت الزيادة على الآثار التي لم تنقل فيها هذه الزيادة، وأن الزيادة يجب أن يصار إليها، ورأى قوم أن الأوجب المصير إلى الآثار التي ليست فيها هذه الزيادة؛ لأنها أكثر، ولكون هذه ليست مناسبة لأفعال الصلاة، وإنما هي من باب الاستعانة؛ ولذلك أجازها مالك في النَّفل ولم يجزها في الفرض ))(2).
ومن أشهر روايات صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما روي عن أبي حُمَيْدٍ السّاعِدِيّ فقد سُمِع - وهو في عَشْرَة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، منهم أبي قتادة الأنصاري، وأبي هريرة، وأبي أسيد، وسهل بن سعد- يقول: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قالوا: لم ؟ فالله ما كنت أقدمنا له صحبةً ولا أكثرنا له إتياناً. قال: بلى، قالوا: فاعْرِض. فعرض أمامهم صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مفصلة بأركانها وهيئاتها ولم يضع يده على يده، ولم يعترض عليه أحد من الحاضرين لترك ذلك، مع أنهم في مقام النَّقد، فلما انتهى قالوا: صدقت هكذا كان يصلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا الحديث رواه الصحاب الصحاح والسنن (3).
__________
(1) بدائع الفوائد 3/91. وأشار ابن الأثير إلى هذا الحديث في النهاية مادة (كفر).
(2) الهداية في تخريج أحاديث البداية 3/141.
(3) يأتي الحديث بلفظة وتخريجه.(1/14)


(6) - إجماع المسلمين على أن من صلى ولم يضع يده على يده في صلاته وأرسلهما على فخذيه، فإنه قد صلى صلاة صحيحة كاملة، والاتزام بما أجمع عليه خير من فعل ما اختلف فيه.
(7) - الضم فعل كثير، إذ هو عبارة عن حركة وانشداد، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أسكنوا في الصلاة )). وواضع الكف على الكف لا يسمى ساكناً؛ لأنه لا يضعهما إلا بعد حركة.. وقد جعل الله تعالى الخشوع في الصلاة من صفات المؤمنين، فقال تعالى: ?الَّذِيْنَ هُمْ فِيْ صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ?[المؤمنون:2]، والإرسال إلى الخشوع أقرب، إذ المطلوب خشوع القلب والجوارح، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للذي كان يعبث بلحيته في الصلاة: أما هذا فلو خشع قلبه لخشعت جوارحه(1).
المطلب الثاني مذهب الإمامية
اتفق علماء الإمامية الشيعة الاثنا عشرية على أن الضم غير مشروع في الصلاة أصلاً، وأن المشروع فيها هو الإرسال.
* فقال الشيخ المفيد في صفة المصلي: (( يرسل يديه مع جنبيه إلى فخذيه )).. وقال: (( ولا يضع يمينه على شماله في صلاته كما يفعل ذلك اليهود والنصارى ))(2).
* قال شيخ الطائفة الإمامية أبو جعفر الطوسي: (( إذا أرَدْتَ الدخول في الصلاة بعد دخول وقتها، فقم مستقبل القبلة بخشوع وخضوع، وأنت على طهر، ثم ارفع يديك بالتكبير حيال وجهك ولا تجاوز بها طرفي أذنيك، ثم أرسلهما على فخذيك، حيال ركبتيك ))(3).
* وقال الكاشاني في صفة المصلي: (( ينتصب قائماً متوجهاً إلى القبلة عينها أو جهتها بوقار وخشوع، واضعاً يديه على فخذيه بإزاء ركبتيه ))(4).
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة عن أبي هريرة، واستشهد به ابن حجر في فتح الباري باب الخشوع في الصلاة، وقال: "فيه إشارة إلى أن الظاهر عنوان الباطن".
(2) المقنعة 104 ـ 105.
(3) النهاية في الفقه للطوسي 69.
(4) المحجة البيضاء 1/359.(1/15)

3 / 20
ع
En
A+
A-