حاول الإمام الهادي الحسن بن يحيى القاسمي رحمه الله الجمع بين أحاديث الضم والإرسال، بأن المراد بالإرسال وضع اليدين تحت السرة، فقال: ((مسألة ووضع اليد على اليد على الصدر في الصلاة منهي عنه، ولكن يرسلهما ويضع اليمنى على اليسرى تحت السرة، والوجه في ذلك ما روي في (المجموع) و(الجامع الكافي) عن علي عليه السلام أنه قال: ((ثلاث من أخلاق الأنبياء: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع الأكف على الأكف تحت السرة )). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نقبض بأيماننا على شمائلنا في صلاتنا )). وأخرج رزين أن عليّاً عليه السلام قال: ((السنة وضع الكف على الكف في الصلاة، ويضعهما تحت السرة )). وهو عند أبي داود وأحمد بلفظ: ((من السنة في الصلاة وضع الأكف على الأكف تحت السرة )). وأخرج أبو داود والنسائي أن الهلب (كذا) كان يصلي، فوضع يده اليسرى على اليمنى فرآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوضع يده اليمنى على اليسرى. وفي (المنهاج [الجلي]) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل بيد ابن مسعود كذلك.
وفي كتاب (المناهي): ((نهى صلى الله عليه وآله وسلم أن يضع الرجل يده على يده على صدره في الصلاة، وقال ذلك فعل اليهود و[أمر] أن يرسلهما ))( ).
وقال ولده العلامة الكبير عبد الله بن الإمام: ((الإمام ـ يعني والده ـ ووضع اليد على اليد على الصدر منهي عنه لما في كتاب (المناهي): نهى صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل الرجل يده على يده على صدره في الصلاة، وقال: ذلك فعل اليهود و[أمر] أن يرسلهما ))، أهـ. لكن يضع اليمنى على اليسرى تحت السرة، عند زيد بن علي وأحمد بن عيسى والحسن بن يحيى والإمام، ثم محمد بن المنصور ثم أبي حنيفة والثوري، وإسحاق المروزي.. )) ثم ذكر بعض أحاديث الضم( ).(1/81)


وما ذكره الإمام القاسمي قد أشار إليه غير واحد، منهم ابن القيم حيث قال: إن أحاديث النهي عن التكفير تعني الوضع على الصدر، وأن أحاديث الضم تعني الوضع تحت السرة. اعتباراً منهم أنه ليس بتكفير.
الجمع باختلاف موضع اليد على اليد
وذكر قوم أن الضم المنهي عنه أو المكروه هو وضع اليمنى على كف اليسرى، فقد روى ابن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا حفص، عن ليث، عن مجاهد، أنه كان يكره أن يضع اليمنى على الشمال، يقول: على كفه أو على الرسغ، ويقول: فوق ذلك، ويقول: أهل الكتاب يفعلونه( ).
وفي (الجامع الكافي) قال الحافظ العلوي: وقد ذكر عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم أنهم كانوا يضعون أيمانهم على شمائلهم في الصلاة، وإنه لَمِمَّا أُختلف فيه، وإنما ذكر عمن كان يفعله أنه كان يضع كفه اليمنى على موضع الرسغ من اليد اليسرى من الذراع، وأما وضع اليمنى على كفه اليسرى فيكره، ويقال: إنه من فعل اليهود( ).
قال في (لطف الغفار شرح هداية الأفكار): قلت: ولعل من أجازه جعل هذا جامعاً بين روايات المانعين والمثبتين، ويقول: الذي من فعل اليهود وضع الراحة على الكف لا على الرسغ. لكن ينفي هذا التأويل قوله: يرسلهما إرسالاً( ).
الجمع بأن الضم في الصلاة خاص بالأنبياء
ذكر الإمام المهدي في (البحر الزخار)( ) أنه يمكن أن يقال: إن الضم شرع، ولكنه خاص بالأنبياء لظاهر ما ورد في الأحاديث من قوله: من سنن المرسلين، أو من أخلاق الأنبياء، أو من النبوة.
ورده الجلال( ) فقال: وأما الاعتبار بأنه يحتمل اختصاصه بذلك لظاهر: ((أمرنا معاشر الأنبياء ))، فساقط؛ لأن خصائصهم مما يندب الاقتداء بهم فيها، إلا ما قام الدليل على منع التأسي كنكاح التسع، وهبة المرأة نفسها ونحو ذلك.
الجمع بأن الضم رخصة عند التطويل في النافلة(1/82)


ونعني بذلك: أن الإرسال شُرِعَ في حال، وشرع الضم في حال آخر، وذلك بأن يكون الأصل في الصلاة الإرسال، وما روي في شرعية الضم من الأحاديث فالمراد به عند التطويل في النوافل، ولما كانت النوافل مما يغلب فيها التطويل رخص فيها للمصلي ـ عند التعب ـ أن يضع يديه على صدره أو على سرته أو تحتها، أما الفرائض فالمشروع فيها عدم التطويل، فلذا لم يشرع فيها شيء من ذلك.
وهذا ما يمكن أن يستوحى من أكثر الروايات عند الفريقين وهو أقرب مما سبقه، لأمور عدة، منها:
أولاً: الضم في الصلاة لم يكن مشهوراً عند الصدر الأول، ولم يكن غائباً فيه نهائياً، وذلك ما نلاحظه مما يلي:
(1) ـ وقف أبو حميد الساعدي أمام مجموعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذكر أنه أعرفهم بصلاته، ولما طلب منه أن يعرض ما يعرف من صلاة النبي، وصفها فلم يذكر فيها الضم، رغم أنه ذكر جملة من مندوبات الصلاة.
وبعد فراغه لم ينتقده أحد من الحاضرين، أو يقول: نسيت وضع الكف على الكف أثناء القيام.
وهذا من الأحاديث المشهورة، ومن أهم أدلة الفقه، وقد تقدم الكلام عليه.
(2) ـ أن الذين روي عنهم أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يضع يده على يده لا يتجاوزون ثلاثة أشخاص، أحدهم: وائل بن حجر الذي اضطربت روايته حتى أن بعض ألفاظها لم يرد فيه ذكر الضم، كما بينا، والثاني والثالث: غطيف بن الحارث، وشداد بن شرحبيل، ولم تعرف لهما صحبة، وليس لكل واحد منهما إلا حديث واحد هو ذلك الحديث الذي ذكر فيه كل منهما أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يضع يده على يده.
وهذه الصيغة وإن كان البعض يرى أن صحبة الصحابي تثبت بمثلها؛ إلا أنه يحتمل أنه قال: روي بصيغة المبني للمجهول، أو نحو ذلك.(1/83)


وعلى فرض صحة الرواية في ذلك، فيحتمل أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يفعل ذلك في صلاة نافلة بعدما تعب، أما لو كان ذلك في فريضة لما ترك الحديث به آلاف الصحابة وتحدث به من لم تعرف صحبته!!
(3) ـ أنه روي القول بالإرسال عن سادات أهل البيت كعلي بن الحسين، وجعفر الصادق، والقاسم بن إبراهيم، والهادي، والناصر، وكذلك صح عن كبار التابعين كسعيد بن المسيب، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين وغيرهم، وذلك يدل على أن الضم لم تكن معروفاً أصلاً، أو أنها كانت مجرد رخصة في النافلة عند التعب، وهذا هو الأقرب كما ترى؛ لأن من البعيد أن تكون أحاديث الضم التي بلغتنا بعد قرون لم تبلغهم والعهد قريب، وهم من أكثر الناس اهتماماً بمعرفة ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفقهه، كما أنه من البعيد أن يكونوا تركوا ذلك تعنتاً وإصراراً على مخالفة المشروع، فقد عرف عنهم شدة تمسكهم بالسنة واقتفاء نهج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وليس ثَم ما يدفعهم لمخالفة ذلك.
فان قيل: قد روي الضم عن بعض الصحابة والتابعين ومن البيعد أن يكونوا قد اخترعوا ذلك من تلقاء أنفسهم وأدخلوه في الشرع؛ لأنهم أيضاً أهل ورع واستقامة، إضافة إلى أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ذلك من خُلق الأنبياء.
قلنا: نحن نوافقكم على ذلك، والجمع بين القولين ممكن ومعقول، وهو أن الضم شُرع في النافلة وشُرع الإرسال في الفريضة.
فإن قيل: ولما لا يكون العكس هو الصحيح، وهو: أن الإرسال رخصة في النفل والضم سنة في الفرض؟
قلنا: لأن جميع ما ذكرنا من الشواهد تدل على عكس ذلك.(1/84)


(4) ـ جاء عن سعيد بن جبير أنه كان في الطواف فرأى رجلاً يضع يده على يده فخرج من الطواف وذهب ففرق بينهما ثم عاد، وهذا يدل على أن في المسألة من المخالفة ما يستوجب النهي عنه بشدة، كما يدل على أن سعيداً لم ير غيره يفعل ذلك، ذلك وهو بفناء الكعبة؛ لأن ذلك لو كان معروفاً أو كان هنالك من يفعله غيره لما قصده بالذات.
(5) ـ أن الخلاف الكبير في موضع الضم، هل هو فوق السرة، أو تحت السرة، أو فوق الصدر، أو عند الصدر؟ وهل يوضع الكف على الكف أم الكف على الرسغ أم على الرسغ والساعد؟ وهل يقبض اليسرى باليمنى أو يضعها فقط؟ وهل ينشر أصابعه أم يحلق بها؟ إلى آخر ما ذكر في الروايات، كل ذلك يشير إلى أن المسألة لم تكن معروفة بجلاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان يفعلها كل يوم خمس مرات وأمام المئات بل الألوف من الصحابة لما اكتنفه الغموض إلى هذا الحد.
ثانياً: أنه قد روي عن بعض الصحابة الضم تارة والإرسال تارة أخرى، وذلك كعلي عليه السلام وابن الزبير، وكذلك روي عن بعض التابعين كإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير، كما حكي عن الإمام زيد، والإمام الصادق( ) وغيرهم، وأحسن التأويل لذلك هو ما ذكرناه من شرعية الإرسال في الفريضة والترخيص في الضم في النافلة.
ثالثاً: أنه قد اشتهر القول بهذا عن بعض العلماء، فقد روى ابن أبي شيبة، عن ابن سيرين أنه سئل عن الرجل يمسك بيمينه شماله، فقال: إنما فعل ذلك من أجل الدَّم( ).
وعن الأوزاعي أنه كان يقول: إنما أمروا بالاعتماد إشفاقاً عليهم؛ لأنهم كانوا يطولون القيام، وكان ينزل الدم إلى رؤوس أصابعهم( ).
وعن الليث بن سعد أنه كان يرسلهما، فإن أطال وضع اليمنى على اليسرى للاستراحة( ).

وقال ابن حجر: ونقل ابن الحاجب أن ذلك حيث يمسك معتمداً لقصد الراحة( ).(1/85)

17 / 20
ع
En
A+
A-