ورواها حماد بن زيد، عن عاصم الجحدري، عن أبيه، عن عقبة، عن علي.. كما عند البخاري في رواية، والحاكم. فزاد بعد عاصم عن أبيه.
وقد أشار ابن أبي حاتم إلى هذا الاضطراب في (الجرح والتعديل)( ). وابن التركماني في (الجوهر النقي)( ).
الرابعة ـ أنه قد ثبت عن أهل بيت علي عليه السلام خلافه، وهم أعلم بما كان عليه أبوهم، وليس هنالك ما يدفعهم لمخالفته.
قال الطبرسي: ((وأما ما روي عن علي عليه السلام أن معناه: ضع يدك اليمنى على اليسرى، فمما لا يصح عنه، لأن جميع عترته الطاهرة قد رووا عنه خلاف ذلك ))( ).
وروي عن جعفر الصادق أنه قال: النحر عند الله: الاعتدال في القيام، أن يقيم صلبه ونحره ولا يُكَفِّر، فإنما يصنع ذلك المجوس( ).
الخامسة ـ أن تفسير النحر بنحر البدن أولى وأوضح دلالة، ومن غير المتوقع أن يعدل علي عليه السلام إلى تفسير بعيد وغامض وهو تلميذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحليف القرآن.
قال الرازي في قوله تعالى: { وَانْحَرْ } : ((إن استعمال النحر على نحر البدن أشهر من استعماله في سائر الوجوه، ويجب حمل كلام الله عليه ))( ). وذلك ما رجحه معظم المفسرين.
قال ابن جرير الطبري: ((وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب: قول من قال: معنى ذلك: فاجعل صلاتك كلها لربك خالصاً دون ما سواه من الأنداد والآلهة، وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان، شكراً له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كفء له، وخصك به، من إعطائه إياك الكوثر ))( ).
قال ابن كثير: ((وهذا الذي قاله في غاية الحسن، وقد سبقه إلى هذا المعنى محمد بن كعب القرظي وعطاء ))( ).
وقال بعد ذكر الروايات في ذلك: ((وكل هذه الأقوال غريبة جداً، والصحيح القول الأول، أن المراد بالنحر ذبح المناسك ))( ).
وأما الرواية عن بن عباس(1/76)
فررواها البيهقي ( )، من طريق روح بن المسيب، قال: حدثني عمرو بن مالك النكري، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس في قوله تعالى: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } ، قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة عند النَّحر.
وهذه الرواية معلولة بعلل:
الأولى ـ أن في رواته من تَكُلِّم فيه، فأما روح بن المسيب، فقال فيه ابن حبان: يروي عن الثقات الموضوعات ويقلب الأسانيد ويرفع الموقوفات، وهو أنكر حديثاً من غطيف، لا تحل الرواية عنه ولا كتابة حديثه إلا للاختبار ( ).
وقال أبو حاتم: صالح ليس بالقوي ( ).
وقال ابن معين: صويلح ( ). وهذا من ألفاظ الجرح عند المحدثين.
وقال ابن عدي في الضعفاء: يروي عن ثابت ويزيد الرقاشي أحاديث غير محفوظة ( ).
* وفيه عمرو بن مالك النكري، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطيء ويُغرب ( ).
قال ابن عدي: منكر الحديث عن الثقات ويسرق الحديث ( ). وذكر أنه روى عن أبي الجوزاء أحاديث غير محفوظة ( ).
وقال أبو يعلى: كان ضعيفاً ( ).
وذكر ابن حجر أن البخاري كان يضعفه ( ).
الثانية ـ أن فيه انقطاعاً بين أبي الجوزاء وابن عباس، فقد قال البخاري عن أبي الجوزاء: في إسناده نظر، قال: ويختلفون فيه ( ).
قال ابن عدي: يروي عن الصحابة، ابن عباس وعائشة وابن مسعود، وأرجو ألا بأس به، ولا تصح روايته عنهم أنه سمع منهم ( ).
وقال أبو زرعة: مُرْسِل ( ). وقال ابن حجر: كان كثير الإرسال ( ).
الثالثة ـ أن المشهور عن ابن عباس أن معنى الآية هو نحر النُّسُك.
قال ابن جرير: حدثني علي، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، في قوله: ?فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ?، يقول: اذبح يوم النحر.(1/77)
وقال: حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ?فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ? قال: الصلاة المكتوبة، والنحر: النسك والذبح يوم الأضحى ( ). ولم يَرْوِ عنه ابن جرير غير ذلك. وأخرجه ابن المنذر كما في الدر المنثور للسيوطي ( ).
الرابعة ـ أنه قد ضعفه بعض الحفاظ، فقال ابن حجر: إسناده ضعيف جداً ( ).
وفي حاشية نصب الراية: غير صحيح ( ). وقال ابن التركماني: فيه روح بن المسيب ( ).
hg
مدخل للتأمل
عندما يتجرد الباحث وينظر بإنصاف إلى مجمل ما ذكرنا من أدلة القائلين بالإرسال والقائلين بالضم، وما شرحناه من ملابسات حولها، فإنه يلمس في قرارة نفسه أن من البعيد أن القائلين بالإرسال - وفي مقدمتهم أئمة أهل البيت وسادات التابعين وفقهائهم - جهلوا السنة أو تمردوا عليها، وهم أهل تقوى وورع، وليس هنالك ما يحملهم على ترك شيء شرعه الله تعالى وعمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
كما يلمس أيضاً أنه لا يمكن أن تأتي جميع تلك الأحاديث - المروية في شرعية الضم - من فراغ، أو أنه قد تواطأ على وضعها جيل بأكمله، رغم ما قيل فيها من مقالات؛ تجوز للإنسان العدول عنها، والتعبد بغيرها وتبرأ ذمته في ذلك، خصوصاً وأنه قد اشتهر الارسال عن بعض من روى تلك الأحاديث من التابعين وتابعيهم.
وقد يكون من السهل أن يحكم كل فريق بعدم اعتبار أدلة الفريق الآخر، وقد ذكرنا فيما مضى نماذج من تلك الأحكام، ولكن من الصعوبة بمكان خلق قناعة لدى الآخرين بشيء من تلك الأحكام، خصوصاً عند أولئك الذين لا يهمهم إلا معرفة الحقيقة أياً كانت، وهذا شيء لا يمكن تجاهله.
إن ذلك الشعور هو ما جعل كثيراً من العلماء يفتش عن صيغة مقبولة يحاول من خلالها إما الجمع بين الأدلة ولو بشكل تقريببي، وإما الوصول إلى مبرر مقبول للعمل بهذا الدليل دون ذاك. ومن تلك المحاولات، المحاولات التالية:(1/78)
الجمع بأن كلاً من الضم والإرسال مشروع
يرى البعض أن من الأشياء المحتملة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضمَّ تارة وأرسل أخرى، فمن رآه يرسل يديه نقل ما رأى وعمل به، ومن رآه يضمهما نقل ما رأى وعمل به. وذلك كما روي في التشهد والقراءة في الركعتين الأخيرتين وثالثة المغرب. فإنه قد صح في ذلك أكثر من رواية.
ومع مرور الزمن غلب عند قوم أن الضم هو المشروع في الصلاة، أو أنه الأفضل، فذكروه في كتبهم واستدلوا عليه، وغلب عند آخرين العكس، كما هو الحال فيما روي في الوضع على الصدر أو تحت السرة. وعلى هذا فإن كلاً من الضم والإرسال فعل جائز في الصلاة، فمن شاء فليرسل، ومن شاء فليضم، و إلى هذا القول ذهب بعض العلماء قديماً وحديثاً.
الجمع بأن في الأدلة ما هو ناسخ وما هو منسوخ
ويمكن توضيح ذلك بأن يقال: كان وضع اليد على اليد على الصدر عند الوقوف بين يدي السيد أو الملك وأثناء العبادة، من عادات الملل السابقة قبل الإسلام لا سيما عند التذلل والخضوع. والشواهد على ذلك كثيرة، منها:
أ ـ ما جاء في حديث المرتضى، ومحمد بن منصور، من أن ذلك من فعل اليهود.
ب ـ وما روي عن القاسم بن إبراهيم أن ذلك تكفير أهل الكتاب.
ج ـ وما رواه الطوسي عن محمد بن علي الباقر: أن ذلك من فعل المجوس.
د ـ وما رواه ابن أبي شيبة، عن الحسن البصري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كأني أنظر إلى أحبار بني إسرائيل واضعي أيمانهم على شمائلهم في الصلاة ))، وقد تقدم.
وأكد العلامة المقبلي ذلك فقال: رأينا الأعاجم مطبقين على كون عبيدهم وخدمهم بتلك الهيئة عند القيام بين أيديهم( ).(1/79)
بهذا يتبين أن الضم ـ في مواقف الاحترام والعبادة ـ من عادات الأمم السابقة، ومن المعروف عند المسلمين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يوافق الأمم السابقة في بعض الأمور التي لا حرج فيها، حتى ينهاه الله عز وجل عن ذلك، ألا ترى أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوجه في صلاته إلى بيت المقدس كمن كان قبله، ثم أمره الله أن يتوجه إلى الكعبة زادها الله شرفاً، فلما شرعت الصلاة وهي مقام عبادة بين يدي الله تعالى قام بعض المسلمين ووضع يسراه على يمناه كعادة الأمم السابقة، فغير ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فوضع اليمنى على اليسرى رضاءً منه بأدنى مخالفة، ولم تطل الأيام حتى نهى عن ذلك التكتف وأمر بالإرسال، كما أفادته روايات الإرسال.
وفي احتمال النسخ يقول العلامة السماوي: ((على أنا لا ننكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعله في الصلاة، غير أنا ندعي أنه بعد أن فعله نهى عنه، فكان الآخر ناسخاً، وإنما يؤخذ من الشريعة بالآخر فالآخر ))( ).
الجمع بأن المراد الوضع تحت السرة(1/80)