اعلم أن الكلام إما خب، ر أو إنشاء، لأنه لا محالة يشتمل على مسند ومسند إليه، ونسبة أحدهما إلى الأخر.
فإن كان لتلك النسبة خارج تدل عليه في الأزمنة الثلاثة فهو الخبر. وإلا فهو الإنشاء.
إذا عرفت ذلك فنقول: (( الخبر هو الكلام الذي لنسبته خارج )) في أحد الأزمنة الثلاثة. أي: يكون بين الطرفين في الخارج نسبة ثبوتية وسلبية.
والإنشاء: عكسه.
والخبر ينقسم أيضا إلى قسمين :
1_ صدق.
2_ وكذب.
ليس إلا. وذلك لأنه إما أن يطابق تلك النسبةَ ذلك الخارجُ أولا؟
(( فإن تطابقا )) أي: النسبة، وذلك الخارج. بأن يكونا ثبوتيين. كما في قولنا: السماء فوقنا. فإن النسبة دلت على ثبوت الفوقية للسماء، وهو كذلك في الخارج.
أو سلبيتين. كما في قولنا: ليست السماء تحتنا. فإن النسبة دلت على انتفاء التحتية للسماء، وهو كذلك في الخارج (( فصدقٌ )) أي: فالخبر صدق.
(( وإلا )) يتطابقا. أي: النسبة وذلك الخارج. بأن تكون النسبة المفهومة من الكلام ثبوتية، والتي في الخارج سلبية. كما في قولنا: السماء تحتنا. أو بالعكس، كما في قولنا: ليست السماء فوقنا
(( فكذبٌ )) أي: فالخبر كذب. (( ويسمى الخبر جملة )) عند النحويين.
اعلم: أنه قد اختُلِفَ في ترادف الجملة والكلام:
فمنهم من قال: بترادفهما.
ومنهم من قال: بل الجملة أعم من الكلام. ومعنى ذلك: أن كل كلام جملة. وليس كل جملة كلاما. لأن الكلام ما حصل فيه الإسناد مع الإفادة، والجملة ما حصل فيها الإسناد، وإن لم تحصل فيها الإفادة.
إذا تقرر هذا.فالجملة إما: اسمية. وهي: المصدرة باسم، كقولنا: زيد قائم، أو قام .
وإما: فعلية. وهي: المصدرة بفعل، كقولنا: قام زيد.
(( و )) يسمى الخبر أيضا (( قضية )) عند أهل المنطق، وحقيقتها: قول يحتمل الصدق والكذب.
فالقول _ وهو المركب _ : يشمل القضية، وغيرها من المركبات التقييدية والإنشائية .وبقوله: يحتمل الصدق والكذب. يخرج ما عدا القضية. وهي تنقسم إلى قسمين :(1/41)


1_ حملية. إن حكم فيها بثبوت شيء لشيء، أو نفيه عنه.
وأجزآؤها ثلاثة :
محكوم عليه. ويسمى موضوعا، لأنه وضع ليحكم عليه بشيء.
ومحكوم به. ويسمى محمولا، لحمله على الموضوع.
ونسبة بينهما. بها تَربط المحمول بالموضوع، وهي الحكم بثبوته له، أو نفيه عنه. وتسمى رابطة.
2_ وشرطية. وهي التي ليست كذلك، بل حكم فيها بثبوت نسبة، أو نفيها على تقدير نسبة أخرى إن كانت متصلة، أو بتنافي نسبتين أولا تنافيهما إن كانت منفصلة.
وهي ثلاثة أقسام:
حقيقة. إن كان التنافي صدقا وكذبا. وتسمى مانعة الجمع والخلو
ومانعة الجمع فقط.إن كان التنافي في الصدق فقط .
ومانعة الخلو فقط. إن كان التنافي في الكذب فقط.
ويسمى الجزء الأول من الشرطية: مقدما. لتقدمه في الذكر .
والجزء الثاني: تاليا. لتلوه أي: تبعه للأول.
(( وإذا ركبت الجملة )) والقضية مع مثلها (( في دليل )) وهو القياس المنطقي (( سميت )) تلك القضية (( مقدمة )). فيقال: مقدمات القياس .كما يقال: كل جسم مؤلف، وكل مؤلف محدث. فهاتان: مقدمتان. والتي يلزم عنهما تسمى: نتيجة. وهي كل جسم محدث.
(( والتناقض )) فَسَّر التناقض والعكس هنا، لأنهما من أحكام القضايا اللازمة لها، وقد ذكر القضية .
أما التناقض فحقيقته (( هو اختلاف الجملتين )) والقضيتين. خرج اختلاف المفردين، والمفرد والقضية. (( بالنفي والإثبات )).هذا تحقيق لمفهوم التناقض. لأنه إنما يطلق: على هذا الاختلاف. يعني: أن تكون إحداهما مثبتة، والأخرى منفية.لأن نقيض الشيء: رفعه. ورفع الإثبات نفي.
(( بحيث يستلزم )) لذاته (( صدقُ كل واحدة )) من القضيتين(1/42)


(( كذبَ الأخرى )). قوله: بحيث يستلزم…الخ.احتراز عن مثل قولنا: زيد ساكن، زيد ليس بمتحرك. مما لا يحصل بسبب الاختلاف من صدق أحدهما كذب الأخرى.وقولنا في الشرح: لذاته احتراز عن اختلاف القضيتين المقتضي لصدق أحدهما كذب الأخرى. لكن لا بالنظر إلى ذاته، بل لأجل واسطة. كقولنا: زيد إنسان، زيد ليس بناطق. فإنه إنما يقتضي صدقُ إحداهما كذبَ الأخرى بواسطة أن كل إنسان ناطق. فافهم .
واعلم أنه لا بد في تحقيق التناقض بين القضيتين من اتحاد واختلاف. فالاختلاف: يكون في الكم أي: الكلية والجزئية، والكيف. أي: الإيجاب والسلب. والجهة أي: الضرورة والإمكان والدوام والإطلاق، وغيرهما من الجهات. فإن كانت القضية: موجَبَة كلية ضرورية مثلا، فنقضيها: سالبة جزئية ممكنة عامة. مثلا قولنا: كل إنسان حيوان بالضرورة. نقضيها: بعض الإنسان ليس بحيوان بالإمكان العام. ونحو ذلك.
وأما الاتحاد ففيما عدى هذه الأمور الثلاثة.
والصحيح: أن المعتبر في تحقيق التناقض هو وحدة النسبة الحكمة، حتى يرد الإيجاب والسلب على شيء واحد. على ما هو مقرر في كتب المنطق والله أعلم.(1/43)


(( وأما العكس المستوي )) اعلم أن العكس يطلق على: المعنى المصدري، أي: تبديل طرفي القضية، وعلى: القضية الحاصلة بالتبديل. كما يقال مثلا: عكس الموجبة الكلية موجبة جزئية. فتسمى الموجبة الجزئية عكسا. والمراد هنا هو المعنى الأول. فحينئذ حقيقته: (( تحويل جزأي: الجملة )) أي: طرفيها. بأن يجعل الجزء الأول ثانيا، والثاني أولاً. (( على وجه يصدق )) أي: لو كان الأصل صادقا كان العكس مثله. لأن العكس لازم للقضية. وإذا صدق الملزوم صدق اللازم. فحينئذ لا بد من بقاء الصدق، وكذلك لا بد أيضا من بقاء الكيف.أي: إذا كان الأصل موجبا، كان العكس مثله. وإن كان سالبا كان مثله. فلا يكون الموجب عكسا للسالب، والعكس. لما تقدم في اشتراط بقاء الصدق.فينعكس قولنا: كل إنسان حيوان. إلى: بعض الحيوان إنسان. كما هو مقرر في موضعه. فهذه حقيقة العكس المستوي.
(( و )) أما (( عكس النقيض )) فحقيقته (( جعل نقيض كل منهما )) أي: من جزأي: القضية (( مكان الآخر )). أي: جعل نقيض
الجزء الثاني: مكان الأول، ونقيض الجزء الأول: مكان الثاني.
ويشترط فيه أيضا: بقاء الكيف. أي: الإيجاب والسلب. فينعكس قولنا: كل إنسان حيوان مثلا بهذا العكس. إلى: كل ما ليس بحيوان ليس بإنسان.
فان قلت: قد اشترط في عكس النقيض بقاء الكيف، وقولنا في عكس كل إنسان حيوان: كلما ليس بحيوان ليس بإنسان، لم يبق ذلك.إذ هو سلب؟!
قلت: هذه القضية ليست سالبة. بل هي معدلة. أي: جُعِل حرف السلب جزءا من طر فيها. كما عُلم في موضعه. فتأمل والله أعلم.(1/44)


نعم: وإنما سمي هذا عكسَ النقيض، لأن المعكوس فيه نقيض الطرفي.ن فتأمل ذلك. فهذا ما يليق بهذا المختصر من بيان النقيض، والعكس. ولاستيفاء الكلام فيه، وفي شرائطه فن آخر. أعني: علم المنطق. فمن أراد تحقيقه، فليرجع إليه. وقد استوفيت ذلك في شرح مختصر سعد الدين التفتازاني المسمى بالتهذيب. وبتمام هذا تم الكلام في شرح الدليل الثاني، أعني: السنة.
(( فصل ))
(( الدليل الثالث من الأدلة الشرعية: الإجماع ))
وهو ممكن. وكذلك العلم بثبوته ونقله ممكنان لمن بحث وطلب، أتمانع منهما عند الأكثر. وسيأتي بيان ما يُعلم به.
وما ذكره المانعون من ذلك: تشكيك في مصادمة ما علم قطعا.
يانه: أنا علمنا أن الصحابة والتابعين أجمعوا على تقديم الدليل القاطع على الظنون. وما ذلك إلا لثبوته عنهم ونقلة إلينا فتأمل ذلك.
وهو أيضا: حجه. وسيأتي وجه حجيته في آخر الفصل إن شاء الله تعالى.
إذا تبين ذلك فنقول حقيقة الإجماع في اللغة: العزم والاتفاق.
يقال: أجمعتُ على كذا. أي: عزمت عليه. وأجمع رأينا على كذا. أي: اتفقنا عليه.
وفي الاصطلاح: (( اتفاق المجتهدين العدول من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عصر على أمر )).
قولنا: المجتهدين. احتراز من المقلد. فإنه لا يُعتبر موافقته ولا مخالفته.
قولنا: العدول. احترازا ممن ليس كذلك، فإنه لا يعتبر فيه أيضا.
وقولنا: في عصر. أي: زمان ما، قَلَّ أم كثر .
وقولنا: على أمر. أي: أمر ما، ليتناول الديني والدنيوي.
ومن لم يشترط الاجتهاد قال : هو اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم …الخ.
ومن منع الإجماع بعد الخلاف قال: ولم يسبقه خلاف مستقر من مجتهد. ليخرج ما إذا سبقه خلاف كذلك، فإنه لا يكون عنده حجة. ومن اشترط انقراض العصر _ زاد _: إلى انقراض العصر.ليخرج اتفاقهم إذا رجع بعضهم .إذ ليس بدليل عنده حينئذ. فهذه حقيقة الإجماع على حسب الخلاف.
فإن قلت : هل بين الإجماع والاتفاق فرقٌ أم لا ؟(1/45)

9 / 49
ع
En
A+
A-