أو بقول الثقة: أنه نفسه، أو غيره صحابي. وهذا يفيد الظن. والله أعلم .
وإذا تقرر ذلك فقد اختلف في عدالة الصحابة، بمعنى: هل كونه صحابيا يغني عن تعديله أم ل؟!
(( و )) المختار عند الأكثر أن (( كل الصحابة عدول )). لقوله تعالى{محمد رسول الله والذين معه …}الآية. فوصفهم تعالى في هذه الآية بأوصاف من لازمها العدالة. فكانوا عدولا (( إلا من أبى )) العدالة منهم. بأن ظهر فسقه ولم يتب. فإنه لا يكون عدلا. لقوله تعالى{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}. فأخبر تعالى: أن الباغية خارجة عن أمره تعالى، وأن حدها القتل حتى ترجع عن بغيها. وذلك يستلزم الفسق .
قلت: فهذه مخصصة لعموم تلك الآية الأولى.وهو يُعمل بالخاص فيما يتناوله، وبالعام فيما بقي. على الصحيح كما يأتي.فتدل الآية الأولى على عدالة من لم يبغ، والثانية على فسق من بغى. فتأمل ذلك. كالباغين على أمير المؤمنين علي، كرم الله وجهه. الذين لم تصح توبتهم من أهل الجمل، وهم الناكثون. والنهران، وهم الخوارج. المارقون. وصفين، وهم معاوية، وعمر بن العاصي. لعنهما الله تعالى.وكذلك من تابعهم، وهم القاسطون. (( على المختار في جميع ذلك )) أي: جميع ما تقدم من جواز الرواية بالمعنى، وقبول رواية فاسق التأويل وكافر، وفي تفسير الصحابي، وفي عدالته، كما تقدم تقرير ذلك.
(( وطرق الرواية )) للأحاديث ونحوها:
اعلم أن الراوي للحديث إما أن يكون صحابيا، أو غيره.
إن كان صحابيا فلروايته طرق:
منها: أن يقول: حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو شافهن، أو أنبأني، أو أخبرني، أو سمعته يقول، أو نحو ذلك.وهذه هي أقوى الطرق. إذ لا إشكال في أنه إنما يقول ذلك إذا سمعه منه.(1/36)


ومنها: أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كذا. ولا يضيف إلى نفسه. وهذه دون الأولى. إذ يحتمل إن فيها واسطة. والأظهر: المشافهة. لأنها ممكنة لكونه صحابيا .
ومنها: أن يقول: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكذا، ونهى عن كذا، على البناء للفاعل. وهذه دون ما قبلها .
قيل: لاحتمالها مع ما تقدم أن يكون السامع توهم ما ليس بأمر أمرا.أو أن يكون الأمر ليس فيه لفظ يدل على أمر الكل، أو البعض دائما.
وقيل: لاحتمال أن يكون سمعه أو ثبت عنده بدليل .
قلنا: الظاهر من الصحابي أنه لا يطلق هذه اللفظة إلا إذا سمعها منه، وتيقن المراد بها. فيكون حينئذ حجة. مثل ما تقدم. وما ذكر احتمال بعيد لا يدفع الظهور.
ومنها: أن يقول: أُمرنا بكذا، أُو نهينا. على البناء للمفعول. وهذه دن ما قبلها، ولكنها حجة. لأنها تحمل على أن الآمر: الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأمرين:
الأول: أن المختص بمَلِك إذا قال ذلك، فهم منه إن الآمر: المَلِك لا غيره.
الثاني: أن غرض الصحابي بأي: راد ذلك: الاحتجاج على من خالفه، ولا يكون حجة إلا إذا كان من الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لا يقال: بل قد يكون حجة إذا كان الآمر: الكتاب، أو أهل الإجماع. لأنا نقول: لا يصح حمله على ذلك .
أما الأول: _ أعني _ كون الآمر: الكتاب. فلأنه ظاهر لكل أحد لا يتوقف على إخبار الصحاب، ي فيكون معلوما للجميع، فلا يفيد الإخبار بذلك فائدة جديدة .
وأما الثاني: _ أعني _ كون الآمر: أهل الإجماع. فلأن الصحابي منهم وهو لا يأمر نفسه. ولأن الإجماع أيضا يظهر في كل أحد على حدِّ ظهور القرآن.
وإنما كانت هذه دون ما قبلها، لأن فيها الاحتمالات المتقدمة. مع ما ذكرنا من احتمال أن يكون الآمر: الكتاب أو الإجماع. وما قل احتماله فهو أقوى .(1/37)


ومنها: أن يقول: من السنة كذا. فيكون حجة.لأنه يحمل على سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دون غيرها. لأنهم يوردون ذلك احتجاجا على من خالفهم، ولا يُحتج إلا بالكلام النبوي. وهذه دون ما قبلها. لكثرة استعمال السنة في الطريقة الراجحة. ولكن الظاهر هو الأول. والاحتمال لا يدفع الظهور .
ومنها: أن يقول: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فيحتمل أنه سمعه منه، ويحتمل الإرسال .
قيل: بل الظاهر الإرسال. لأن العنعنة لا تستعمل إلا فيه، واستعمالها في غيره قليل. وهذه دون ما قبلها لذلك .
ومنها: أن يقول: كنا نفعل، أو كانوا يفعلون. كقول عائشة: كانوا لا يقطعون السارق على التافه. فيحمل على أن المراد: كنا نفعل، أو كانوا يفعلون في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع علمه بذلك من غير إنكار، فيكون حجة. ويكون من باب قوله: من السنة.
وقيل: إنما كان حجة، لأنه ظاهر في قول كل الأمة. فيكون من باب الإجماع.فعلى الأول: لا يكون حجة إلا من الصحابي. لأنه يتوقف على تقييده بعهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
وعلى الثاني: يكون حجة ولو من تابعي.
وأقول: لا يبعد أن يقبل منهما، ويكون حجة. فالصحابي لأنه من باب قوله: من السنة.والتابعي لأنه من باب الإجماع. وهذا واضح. والله أعلم .
ومنها: إذا قال الصحابي قولا، أو فعل فعلا، ولا يضيفهما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فإن كان مجتهدا، وللاجتهاد فيه مسرح، حمل على الاجتهاد، كأن يقول: يُحد الغائط مائة جلدة. أو يقول: نصاب الخضراوات ما قيمته مائتا درهم.أو يقول: من لم يجد ماء ولا ترابا، فليتيمم بما صعد على الأرض. فهذا يحتمل الاجتهاد، وأنه سمعه منه.فلا يكون حجة.
وإن لم يكن للإجتهاد فيه مسرح، أو كان. ولكن الراوي ليس من المجتهدين، فإنه يحمل على التوقيف. أي: أنه سمعه منه صلى الله عليه وآله وسلم. لا أنه قاله تبكيتا. تحسينا للظن بالصحابي.(1/38)


مثال الأول: ما روي عن علي عليه السلام: أن الحيض ينقطع عن الحبلى. لأنه جعل رزقا للجنين .
ومثال الثاني: ما روي أن أنسا قال: الحيض ستة أيام، أو سبعة. لأن أنسا لم يكن مجتهدا.
فهذه جملة طرق الرواية من الصحابة، وقد استوفيناها لكثرة الفوائد التي فيها.
وإن كان غير صحابي، فطرق روايته:
(( أربع )) لكل واحد منها مستند. ولكلٍ لفظ يروى به. وهذه الأربع متفاوتة في القوة.
الطريق الأولى: (( قراءة الشيخ )) والتلميذ يسمع بمحضره.وهي أقواها. فالسند ظاهر، وأما اللفظ فإن قصد إسماعه وحده، أو مع غيره، قال عند الرواية عنه: حدثني، أو أخبرني، أو سمعته يقول، أو يحدث، أو يخبر.: فإن لم يقصد إسماعه، قال: حدث، أو أخبر. ولا يضيفه إلى نفسه. وله أن يقول: سمعته.
(( ثم )) بعدها في القوة الطريق الثانية وهي: (( قراءة التلميذ )) على الشيخ. (( و )) قراءة (( غيره )) أي: التلميذ (( بمحضره )) فالسند فيها أيضا ظاهر .
وأما اللفظ فيقول عند الرواية: كذلك. أي: حدثني، أو أخبرني، أو سمعت منه. ويزيد: قراءةً عليه، إن كان هو القارئ، وإن كان غيره بمحضره زاد: وأنا أسمع.
ويشترط في هذا أن يقول الشيخ: قد سمعتُ ما قرأتَ على فلان. أو يقول التلميذ بعد القراءة، أو قبلها للشيخ: هل سمعتَه ؟
فيقول: نعم. أو نحوه.
فأما لو أشار الشيخ برأسه، أو بإصبعه، إلى أنه سمعه؟
قيل: فهو أيضا يقوم مقام التصريح في الجواب، في جواز الرواية، ووجوب العمل.إلا أنه لا يقول عند الرواية: حدثني، ولا أخبرني، ولا سمعت.
وقيل: بل يقول ذلك.
وإنما كانت الأولى أقوى من هذه. لأن المستمع أخذ ذلك من لسان القارئ، وذلك اكثر تحقيقا.
(( ثم )) بعدهما في القوة:
الطريق الثالثة وهي: (( المناولة )).
وصورتها أن يقول: قد سمعت ما في هذه الكتاب، أو هو من سماعي، أو من روايتي عن فلان، أو يطلقه ولا يسند.(1/39)


وإنما سميت هذه الطريق مناولة، لأن الشيخ كالذي ناول المخاطب كتابا يروي عنه ما فيه .
قيل: وليس من شرطها حضور الكتاب المناوَل، بل يكفي التعيين بالإشارة، وإن غاب الكتاب. وسواء قال: اروه عني، أولم يقل ذلك. فيقول عند الرواية: أخبرنا، أو حدثنا _ مناولة _ أو آذنا، أو ناولنا .
وهل له أن يطلق فيقول أخبرني أو حدثني ؟
قيل: يجوز.
وقيل: لا يجوز.
ولا يروي عن غير النسخة المناوَلة إلا إذا أمن الاختلاف. والله أعلم.
(( ثم )) بعد هذه لثلاث في القوة:
الطريق الرابعة وهي: (( الإجازة )). وهي أن يقول الشيخ للتلميذ: أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلان، أو اروه عني، ويزيد: فإني قد سمعته. ليكون بذلك محدثا له بما فيه، أو يقول: أجزت لك أن تروي عني ما صح من مسموعات أو مؤلفاتي .
فأما لو قال: أجزت لك. ولم يقل: قد سمعته، جاز له العمل بما فيه دون الرواية.
ويقول عند الرواية: أجاز لي، أو أخبرني _ إجازة _ أو آذنا، أو أنبأني.
فهذه هي الطرق المشهورة. وقد تزاد الجادة. وهي ما يؤخذ من العلم من كتاب من غير سماع، ولا إجازة، ولا مناولة.فهذه يجوز العمل إذا حصلت الثقة بذلك.
وأما الرواية فقيل: لا تجوز.
وقيل: تجوز. ويقول عندها: وجدت، أو قرأت بخط فلان، أو بخط ظننته خط فلان، أو أخبرني ثقة أنه خط فلان. وهذا قريب.
(( ومن تيقن أنه قد سمع جملة كتاب مُعَيَّن، جازت له روايته والعمل بما فيه وإن لم يذكر )) أنه سمع (( كل حديث بعينه )). ولكن لا يكفي ذلك إلا حيث النسخة التي سمعها متعين. أما لو لم تكن متعين، أو كانت متعين، لكن قد خرجت من يده مدة مديدة لا يأمن عليها التحريف والتصحيف في ضبطها، فإنه لا يجوز له الأخذ بما فيها لا عملا ولا رواية، إلا ما غلب على ظنه أنه سليم من ذلك. والله أعلم.

(( تنبيه ))
يتضمن تفسير الخبر، وقسمته إلى الصدق والكذب، وتفسيرهما.
وسماه تنبيها، لأنه قد سبق إليه إشارة ما، في قولنا الأخبار.(1/40)

8 / 49
ع
En
A+
A-