والثاني: التزكية. وهي تحصل بأحد أمور ثلاثة:
الأول: وهو أعلاها بعد القول (( بأن يحكم بشهادته حاكم يشترط العدالة )) في الشهادة، فإن كان لا يشترطها بأن كان ممن يرى قبول شهادة الفاسق الذي عُرف منه أنه لا يكذب لم يكن حكمه تعديلا.
(( و )) الثاني: وهو بعده (( بعمل العالم بروايته )) إذا كان يرى العدالة شرطا في قبول الرواية. وإن كان لا يراها فلا.
قيل: وكذا لا يكون العمل تعديلا إذا أمكن حمله على الاحتياط، أي: إن صح ثبوته فقد خرج عن العهدة، أو على العمل بدليل آخر وافق الخبر.
قلت: هذا صحيح لعدم الجزم حينئذ بأن العمل كان لأجل ذلك الخبر فافهم والله أعلم.
الثالث: من طرق التزكية قوله: (( قيل وبرواية العدل عنه )) وهذا هو أضعفها.
واعلم أنه قد اختلف في رواية العدل هل هي تعديل للمروي عنه أم لا ؟ على ثلاثة أقوال، إطلاقكن، وتفصيل الإطلاق:
الأول : أنها تعديل مطلقا.
والإطلاق الثاني: أنها ليست بتعديل مطلقا.
وأما التفصيل فهو: أن يقال إن كان عادته أن لا يروي إلا عن عدل كانت روايته عن ذلك المجهول تعديلا. استناداً إلى عادته المعروفة، وإلا فلا. وهذا قوي جدا. لأن العادة تُقَوِّي الظن.
تنبيه
يُشترط في المزكِّي أن يكون عدلا، فيُحتاج إلى تعديله. قال بعضهم: وإن أدى إلى التسلسل. وإنما ترك هذا لوضوحه والله أعلم.
واعلم أنه قد اختلف في التزكية والجرح من ثلاث جهات:
الأولى: في العدد.
فقيل: يشترط في الرواية والشهادة، فلا بد من اثنين
عد لين في الجرح والتعديل فيهما .
وقيل يكفي واحد في الرواية، أي: حيث يكون الجرح والتعديل لشاهد، وذلك لأن الرواية تثبت بواحد، فكذلك ما هو شرط فيها. بخلاف الشهادة فلا يكفي، فكذلك شرطها.
(( و )) القول الثالث _ وهو المختار _ (( أنه يكفي واحد في التعديل والجرح )) في الرواية والشهادة، إذ القصد فيهما الظن، وهما خبر لا شهادة، فيكفي واحد عدل كسائر الأخبار. قلت: وكذا العدالة أيضا.(1/31)
الجهة الثانية: إذا تعارض الجرح والتعديل فقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال أيضا:
فقيل: لا يُرجَّح أحدهما على الآخر إلا بمرجع.
وقيل: يُقدَّم التعديل إذا زاد المعدلون على الجارحين.
(( و )) القول الثالث: _ وهو المختار _ أن (( الجارح أولى )) بأن يُعمَل بقوله. فتُرَدُّ رواية المجروح وشهادته. (( وإن كثر المعدِّل )). أو حصل فيه مرجح آخر. وذلك لأن في تقديم الجرح جمعاً بين التعديل والجرح. فإن غاية قول المعدِّل: أنه لم يعلم فسقاً ولم يظنه فظن العدالة. إذ العلم أتعدم لا يُتصور. والجارح يقول: أنا أعلم فسقه. فلو حكمنا بعدم فسقه كان الجارح كاذبا.ً ولو حكمنا بفسقه كانا صادقين فيما اخبرا به. والجمع أولى ما أمكن. لأن تكذيب العدل خلاف الظاهر. وهذا إذا أطلقا، وأما إذا عيَّن الجارح سبباً ونفاه المعدِّل بطريق معتبرة، كما إذا قال الجارح: قتل فلاناً ظلماً وقت كذا في مكان كذا. فقال المعدل: رأي: ته حياً بعد ذلك الوقت، أو كان القاتل ذلك الوقت عندي، أو في غير ذلك المكان الذي ادعا أنه قتله فيه. فإنهما يتعارضان. فيرجع إلى الترجيح بين الخبرين. فإن حصل مُرَجِّح عمل به، وإلا تساقطا الخبران، ورُجِع إلى البراءة الأصلي. والله أعلم
الجهة الثالثة: في بيان ما به التزكية والجرح هل يكفي الإطلاق فيهما أو لا بد من ذكر السبب ؟ اختلف في ذلك:
فقيل: لا يكفي فيهما. أما في العدالة فلأنه قد يكثر التصنُّع فيها فيتسارع الناس إلى البناء فيها على الظاهر.
وأما في الجرح فلأنه يحصل بخصلة واحدة فيسهل ذكرها. وأيضا قد اختلف الناس فيما يُجرح به؟ بخلاف العدالة فلم يختلف في سببها.
وقيل: يكفي الإطلاق فيهما. لأن المزكي إن كان بصيرا قبل جرحه وتعديله، وإلا فلا.
وقيل: يقبل في التعديل دون الجرح. للاختلاف في أسباب الجرح، دون العدالة فسببها واحد لم يُختلف فيه.
ورُدَّ بأن اجتناب أسباب الجرح أسباب للتعديل. والاختلاف فيها اختلاف في العدالة.(1/32)
(( و )) المختار التفصيل وهو: أنه (( يكفي الإجمال )) بان يقول: هو عدل أو فاسق (( فيهما )) أي: في الجرح والتعديل. ولا حاجة إلى ذكر السبب. ولكن إن صدرا (( من عارف )) أي: إذا كان المزكي عارفا بأسباب الجرح والتعديل اكتفينا بإجماله، وإلا فلا. لأنا لو أثبتنا أحدهما بقولِ من ليس بعالمٍ بهما لأثبتناه مع الشك! بخلاف العالم والله أعلم.
(( و )) اعلم أنه إذا تعارض القياس وخبر الواحد، فإن أمكن تخصيص الخبر بالقياس خُصِّص به. كما سيأتي. وإن أمكن العكس،
قيل: فكذلك أيضا. أي: يجوز تخصيص القياس بالخبر. وإن تعارضا من كل وجه، فاختلف في ذلك؟ والمختار أنه (( يقبل الخبر المخالف للقياس فيبطله )).أي: يبطل القياس. وهذا إذا كان القياس ظنياً.وأما إذا كان قطعياً بأن تكون مقدماته – وهي الأصل، والفرع، والعلة، والحكم – ثابتة بدليل قطعي، فإنه يُقدَّم حينئذ على خبر الواحد. وذلك واضح. وإنما اختير تقديم الخبر حيث هما ظنيان لوجهين.
الأول: أن الخبر أقوى من القياس. لأن الخبر إنما يُجتهد فيه في أمرين فقط:
1_ في العدالة.
2_ وكيفيه الدلالة.
والقياس يُجتهد فيه في ستة أمور:
1_ في حكم الأصل.
2_ وتعليله.
3_ وصف التعليل.
4_ ووجوده في الفرع.
5_ ونفي المعارض فيهما.
6_ وفي[نفي المعارض في] المذكورين أولاً حيث حكم الأصل ثابت بخبر.
وإذا كان كذلك، كان تطرق الخلل إلى الخبر أقل من تطرقه إلى القياس فيقدم.
الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم كانت تترك القياس، وترجع إلى الخبر. كما روي عن عمر: أنه ترك القياس وعمل بالخبر في مسألة الجنين، حين روي له: أنه صلى الله عليه وآله وسلم قضى فيه بالغرة. وقال: لو لا هذا لقضينا فيه برأينا. وكما روي عنه أيضا: أنه ترك رأيه في دية الأصابع ورجع إلى كتاب عمر وبن حزم كما تقدم.
(( ويُرد ما خالف الأصول المقررة )). ما تقدم كلام في خير الواحد إذا خالف القياس.(1/33)
وأما إذا خالف غيره، فإن كان آحاديا مثله قُبِل وتعارضا، ورُجِع إلى الترجيح.
وإن كان غير آحادا، فإنه يُرد. هذا هو المراد هنا.
قوله: المقررة. وهي كلما أفاد العلم من الأدلة العقلية، والنصوص النقلة من الكتاب والسنة المتواترة والإجماع القطعي. وذلك لأن الظن مضمحل في مقابلة القاطع.وقد قيل بقبوله.
(( و )) اعلم أنها (( تجوز الرواية )) لحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (( بالمعنى )) أي: بلفظ آخر غير لفظه.ولكن ذلك لا يجوز إلا إذا كانت الرواية (( من عدل عارف )) بمعاني
الألفاظ، (( ضابط )) بحيث لا يزيد على ما يقتضيه اللفظ ولا ينقص. ولكن الرواية بصورة اللفظ أولى، مهما أمكن. هذا هو المختار عند الأكثر.
وقيل: لا يجوز الرواية إلا باللفظ الذي نطق به صلى الله عليه وآله وسلم. لقوله صلى الله عليه وآله وسلم (رحم الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها ). والناقل بالمعنى لم يؤد كما سمع .
قلنا: ليس في هذا ما يدل على منع الرواية بالمعنى.وإنما يدل على أن الرواية باللفظ أولى. وذلك مما نقول به. والدليل على ما اخترناه أمران:
الأول: أن المقصود بالخطاب هو تأدية المعنى، دون اللفظ فيما لم نتعبد بتلاوته كالسنة مثلا، بخلاف القرآن.وإذا كان كذلك جازت الرواية بالمعنى مع الضبط، وهذا لا إشكال فيه .
الثاني: أن الصحابة كانوا ينقلون الواقعة الواحدة بألفاظ مختلفة، والذي نطق به صلى الله عليه وآله وسلم لفظ واحد، والثاني نقل بالمعنى قطعا. وتكرر ذلك وشاع وذاع، ولم ينكره أحد فكان إجماعا على جوازه .
قيل: وأيضا فإن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يكتبون الأحاديث ولا يكررون الدرس، بل يروونها بعد أزمان طويلة على حسب الحادثة، وذلك موجب لنسيان اللفظ قطعا.(1/34)
قلت: وهذه الحجة تدل على أن أكثر الأحاديث المروية عنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما هي بالمعنى، فتأمل ذلك موفقا إن شاء الله تعالى. (( واختلف في قبول رواية فاسق التأويل )) وهو الباغي على إمام الحق، وهو من يعتقد أنه محق والإمام مبطل، وله مَنَعَةٌ، وحاربه أو عزم على محاربته. (( و ))كذلك (( كافر )) أي: كافر التأويل، وهم المجبرة والمشبهة .
فقيل : بقبول أخبارهم لتحاشيهم عن الكذب وتجنبهم له، سيما الخوارج. فإنهم يعتقدونه كفرا. وكذا تقبل فتاواهم .
وقيل : لا يقبلان كما في كافر التصريح وفاسق.
وقيل: تقبل أخبارهم لما تقدم. دون فتاواهم. لأن خطأهم في الأدلة العقلية يرجح الظن بخطأ هم في الإمارات. وهذا قوي والله أعلم.
(( والصحابي )) _ بياء النسبة _ اسم لنوع خاص من بين من يطلق عليه اسم الصحبة.
وهو(( من طالت مجالسته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم متبعا لشرعه )) فمن لم تَطُل مجالسته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو طالت من دون اتباع لشرعه، لم يُسَمَّ بهذا الاسم. ولا يحتاج إلى أن يزاد في الحد: وبقي على ذلك بعد موته. لأنه يخرج بذلك من مات قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وكذا من فَسَقَ. لأن الفسق لا يخرجه عن كونه صحابيا.
واعلم أنها تتعلق بمعرفة الصحابة أمور:
منها: العدالة. كما سيأتي .
ومنها: إذا قال: أُمرنا بكذا. هل يحمل إن الآمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أم لا؟
فقيل: يحمل.
وقيل: لا يحمل.
وهذا الخلاف إنما هو في الصحابي فقط .
ومنها: إذا نَقل خبرا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل يحمل على أنه سمعه منه أو أرسله؟ ومن غيره لا يحمل إلا على الإرسال .
ومنها: إذا ذكر حكما طريقه التوقيف. هل يحمل على الاجتهاد أو على التوقيف؟ إلى غير ذلك .
فإن قلت: وبماذا يُعرف الصحابي ؟!
قلت: إما بمشاهدة، أو بتواتر، كما في العشرة، أو بإجماع الأمة أن فلانا صحابي، وهذه تفيد العلم.(1/35)