واختلف في قبوله: والمختار القبول. لإجماع الصحابة على ذلك، ولإرسالهم أيضا. بدليل قول بعضهم: ليس كلما أحدثكم به سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، غير أنا لا نكذب. فصرح بالإرسال ولم ينكر عليه. ونظائره كثيرة كما سيأتي في بسآئط هذا الفن.
(( ولا يفيد )) الآحاد بنفسه (( إلا الظن، ويجب العمل به في مسائل الفروع، إذ كان صلى الله عليه وآله وسلم يبعث الآحاد)) من العمال والسعاة (( إلى النواحي لتبليغ الأحكام )). وقد علمنا أن المبعوث إليهم كانوا مكلفين بمقتضى ما أتوا به، وهم آحاد.
(( و )) أيضا (( لعمل الصحابة رضي الله عنهم )) بأخبار الآحاد، فإنه قد تواتر إجماعهم على وجوب العمل به. وذلك كخبر عبد الرحمن بن عوفي: في جزية المجوس فإنه لما روى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( سنوا بهم سنة أهل الكتاب… )) الخبر. عمل به عمر. وكذا كتاب عمرو بن حزم في الدية والزكاة، فإن عمر عمل بما فيه، من أن في كل إصبع عشرا من الإبل، وكان يرى أن في الخنصر ستا، وفي البنصر تسعا، وفي الإبهام خمسة عشر، وفي كل من الأُخر عشرا. وعمل أيضا بما فيه من تفاصيل زكاة المواشي. وكذا عمل الصحابة بخبر حَمَل بن مالك في أن الجنين إذا خرج ميتا وجب فيه الغرة. وأطبقوا عليه بعد أن اختلفوا. وكان عمر يرى أن لا شئ فيه إذا خرج ميتا. وكذا عملوا أيضا بخبر الضحاك بن قيس _ قيل وهو الأحنف بن قيس _ في توريث المرأة من دية زوجها، حين روى أنه كتب إليه صلى الله عليه وآله وسلم أنه يورث امرأة الضبابي من دية زوجها. وأطبقوا عليه أيضا بعد أن اختلفوا في ذلك. وعمل علي كرم الله وجهه بخبر عمر، والمداد، في حكم المذوي. وعملت الصحابة بخبر أبي بكر في أن الأنبياء يدفنون في المنزل الذي يموتون فيه، حتى حفر للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في موضع فراشه. فدلت هذه الأخبار ونحوها: على وجوب العمل بخبر الآحاد من وجهين:(1/26)


أحدهما: أنها تضمنت الإجماع. لأن الصحابة كانوا بين عامل وساكت سكوت رضى _ والمسألة قطعية _ فكان إجماعا.
والثاني: أنها وإن لم تتواتر لفظا فقد تواترت معنى. لأنه قد تواتر القدر المشترك، وهو العمل بخبر الواحد، كما لا يخفى. وهذا هو الدليل السمعي على وجوب العمل بالخبر الآحاد. والله أعلم.
(( ولا يؤخذ بأخبار الآحاد في )) مسائل (( الأصول )) أي: مسائل أصول الدين، ومسائل أصول الفقه القطعية، وأصول الشريعة. وذلك لأن هذه الأشياء إنما يؤخذ فيها باليقين، وأخبار الآحاد لا تثمر إلا الظن، وهو مضمحل في محل العلم. ألا ترى أن عائشة ردت خبر تعذيب الميت ببكاء أهله وتَلَتْ{ولا تزر وازرة وزر أخرى}. ووافقها على ذلك ابن عباس. ونظائر ذلك كثيرة. ولكن خبر الواحد في مثل هذه الأمور إذا وافق الأدلة القاطعة لا يكذب ناقله، لجواز أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم إنما قصره على هذا اكتفآءً بالأدلة القاطعة. وذلك كأخبار الآحاد في نفي الرؤية، وما أشبه ذلك.
(( وكذا لا يقبل خبر الآحاد فيما تعم به البلوى علما )) بل يجب أن يرد، ويكذب ناقله.
وذلك (( كخبر الأمامية )) الذي رووه في النص على اثني عشر إماما معينين بأسمائهم وأنسابهم.
(( و )) كذا خبر (( البكرية )) الذي رووه في النص على إمامة أبي بكر .
ومعنى عموم البلوى في العلم: شمول التكليف لجميع المكلفين لو ثبت وروده عن الشارع. فما كان كذلك فإن الآحاد لا يقبل في إثباته، ولزوم التكليف به. بل يُرَدُّ كما بينا. لأن قبول مثل ذلك يؤدي إلى هدم الشريعة، وتحوير نسخها بناسخ لم تستفض، ومعارضات للقرآن قادحة في إعجازه، وغير ذلك من الجمالات. فما أدى إلى ذلك وجب منعه والله أعلم.
(( و )) أما خبر الواحد (( فيما تعم به البلوى عملا )) فقط لا علما وعملا فإنه مما يجب رده، كمسائل أصول الفقه القطعية، وأصول الشريعة كما ذكرنا.(1/27)


وذلك (( كحديث مس الذكر )). وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يمس أحدكم ذَكَره بيمينه وهو يبول )).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( مَن مَسَّ ذَكَره فليتوضأ )).
وكذا في وجوب الغسل من غسل الميت، وغسل اليدين عند القيام من النوم. إذ روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم. ففي قبوله
(( خلاف )) بين الأصوليين.
والصحيح: أنه يقبل. إذ لم يفصل دليل العمل بخبر الواحد في العمليات، بين ما تعم به البلوى، وما لا تعم. وأيضا فإن الأمة قَبِلْته في تفاصيل الزكاة، ووجوب الغسل من التقاء الخطافين. وهما مما تعم به البلوى.
المانعون من قبوله قالوا: ردَّ عمر حديث الاستئذان لما رواه أبو موسى الأشعر، ولم يقبل حتى أتى بشاهد. و[رد]أبو بكر حديث المغيرة في أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فرض للجدة السدس حتى كثر الراوي. فدل ذلك على: رد خبر الواحد فيما تعم به البلوى عملا.
قلنا: إنما ردَّاهما لعدم الثقة بالمخبرين، لا لكونه مما تعم به البلوى عملا.
قلت: ولذلك قَبِل عمر حديث أبي موسى الأشعر حير رواه معه أبو سعيد. و[قَبِلَ]أبو بكر حديث المغيرة حين رواه معه محمد بن مسلمة. وهو لم يخرج بذلك عن كونه آحاديا. فهو دليل لنا على قبول خبر الواحد في ذلك فتأمل!
(( وشرط قبولها )) أي: أخبار الآحاد أمور:
بعضها: في المخبِر _ بكسر الباء _ وهو الرواة. وبعضها: في الخبر. أما التي في المخبر فأمر أن:
الأول: (( العدالة )) وهي في اللغة: عبارة عن التوسط في الأمر من غير إفراط إلى طرفي الزيادة والنقصان.
وفي الاصطلاح: قال ابن الحاجب هي: محافظة دينية تحمل صاحبها على ملازمة التقوى، والمروءة ليس معها بدعة.
قوله: دينية. ليخرج الكافر.
وقوله: على ملازمة التقوى. احتراز عما يُذم به شرعا، فيخرج الفاسق.
وقوله: والمروءة. أي: وتحمل على ملازمة المروءة، واحترز به عما يُذم به عرفا.(1/28)


قيل: والمروءة هي أن يسير بسيرة أمثاله، في زمانه ومكانه. فلو لبس الفقيه القباء، أو الجندي الجبة والطيلسان، ردت روايته وشهادته.
وقيل: هي أن يصون نفسه من الأجناس، ولا يهينها عند الناس.
وقيل: هي أن يتحرز عما يُسخر منه ويُضحك
قلت: والتفسير الثاني أولى لعموم والله أعلم.
وزاد قوله: ليس معها بدعه. لأن التقوى تتعلق بالعمليات خاصة، فزاد ذلك ليعم ما يتعلق بالاعتقادات، فحينئذ يخرج المبتدع .
قلت: وهذا القيد يحتاج إليه من لم يقبل رواية كافر التأويل وفاسق. وأما من قبل روايتهما فيحذفه، أو يقول في حقيقة العدالة: هي مَلَكة أي: هيئة راسخة في النفس، تمنعها عن ارتكاب الكبائر والرذائل المباحة. وسيأتي الكلام في ذلك. ثم لما كانت حقيقة العدالة – أعني_ قوله: محافظة دينية… الخ. هيئه نفسية خفية، جعل لها علامات تتحقق بها، وهي اجتناب أمور:
منها: الكبائر. وقد روي عن ابن عمر أنها: الشرك بالله تعال، ى وقتل النفس بغير حق، والقذف للمحصن، والزنا، والفرار من الزحف، والسحر، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين المسلِمَين، والإلحاد في الحرم. وزاد أبو هريرة: أكل الربا. وعلي عليه السلام: السرقة، وشرب الخمر. فهذه كبائر، وما عداها فملتبس حاله.
ومنها: الإصرار على الصغائر.
قيل: ويرجع الإصرار إلى العرف، وبلوغه مبلغا ينفي الثقة.
ومنها: ترك بعض الصغائر. وهو ما يدل على خسة النفس، ودناءة الهمة، كسرقة لقمة، والتطفيف بحبة من تمر أو نحوه.
ومنها: ترك بعض المباح. وهو ما يدل على الخِسَّة والدناءة أيضا. كاللعب بالحمام اعتيادا لا نادرا، والاجتماع بالأرذال، والحرف الدنيئة كالدباغة والحياكة، ممن لا يليق به من غير ضرورة تحمله على ذلك، لأن مرتكبها لا يتجنب الكذب غالبا.(1/29)


(( و )) الثاني: (( الضبط )) من الراوي لما يرويه. فإن كان لا يقدر على الحفظ، بل غالب أحواله السهو، فلا تقبل روايته ولو كان عدلا، لأنه يُقدِم على الرواية ظانا أنه ضبط وما سهى. والأمر بخلافه.
واعلم أنه لا يُشترط في الضبط إلا أن يكون هو الغالب من أحواله، وإن غفل في بعض الأحوال فلا يضر.
فإن استوى الحالان؟
فقيل: يقبل.
وقيل: لا يقبل.
وقيل: موضع اجتهاد للمجتهد. وهذا هو الأولى. وذلك كأخبار أبي هريرة، ووابصة بن معبد، ومعقل بن يسار. فيعمل في ذلك الناظر بحسب القرائن الدالة على الضبط وعدمه. وإلا وجب الوقف.
(( و )) أما التي في الخبر فأمران أيضا:
الأول: (( عدم مصاد متها )) أي: أخبار الآحاد (( دليلا قاطعا )) أي: لا يتخصص، ولا ينسخ، ولا يحتمل التأويل بوجه، وسواء كان اقليا أو عقليا. وذلك كرائح الكتاب والسنة المتواترة، والإجماع القطعي، وما علم بضرورة العقل. فإن ما صادم هذه لا يقبل، لأن الظني لا يقوى على مقاومة القطعي. وقد انعقد الإجماع على تقديم المقطوع به على الظنون. فلا يجوز التمسك بخبر الواحد حينئذ. إلا أن يَقبل التأويل قُبِل وتُؤُوِّل، جمعا بين الأدلة والله أعلم.
(( و )) الثاني (( فَقدُ استلزام تعلقها الشهرة )) بمعنى: أنه لو ثبت تعلقها أي: ما تتعلق به لاستلزم الشهرة، فإذا استلزمها وفُقِدَت لم يقبل.
مثال ذلك: أن يرد آحادا فيما تعم به البلوى علما، كالمسائل الإلهية. أو علما وعملا، ألو ورد خبر آحادا بصلاة سادسة، أو حج بيت ثانٍ، أو صوم شهر ثانٍ، فإن ذلك لا يُقبل. لأنه لو ثبت لاشتهر.
فإذا عرفت هذه الشروط ومن جملتها العدالة، فَلْنُبَيِّن ما تثبت به العدالة فنقول:
(( وتثبت عدالة الشخص )) الشاهد والراوي إذا كان مجهولا غير صحابي بأحد أمرين:
الأول: الإخبار بها. وهو واضح، كأن يقول المخبر: هو عدل، أو مقبول الشهادة أو الرواية. ويكفي فيه خبر واحد كما يأتي.(1/30)

6 / 49
ع
En
A+
A-