أو بأمارة دآلة على كون ذلك الفعل واجبا. كالأذان، والإقامة في الصلاة.أو مندوبا، كقضاء المندوب، ونحو ذلك كثير.
وقوله: اتباعا له. يُخرج ما كان على سبيل الاتفاق، نحو أن يتفقا على أداء الظهر تعظيما لله تعال، ى وامتثالا لأمره.
وكذا قوله: أو تركه. كذلك يخرج ما إذا اتفقا على ترك محظور خوفا من الله تعالى، وامتثالا لنهيه.
(( فما ))فعله الشارع و(( علمنا وجوبه من أفعاله ))، وتروكه (( فظاهر )) في أنه يجب علينا مثله.
(( وما علمنا حسنه )) من أفعاله، وتروكه (( دون وجوبه فندب )). أي: فيحمل على الندب إذ قد أمرنا بالتأسي.فإذا لم يكن واجبا تعيَّن الندب، لكن (( إن ظهر فيه قصد القربة ))كالصدقات النافلة (( وإلا فإباحة )). إذا لم يظهر فيه قصد القربة، كالصيد.إذ لو لم يكن مباحا لكان ظلما، وكذلك القصاص.
(( وتركه )) صلى الله عليه وآله وسلم (( لما كان أمر به ينفي الوجوب )) .فلو أمرنا بأمر في وقت معين، ثم لم يفعله في ذلك الوقت، لا لسهو، ولا لكونه نفلا، علمنا أن الوجوب قد ارتفع. ((وفعله )) صلى الله عليه وآله وسلم (( لما كان نهى عنه يقتضي الإباحة )) .فلو نهانا مثلا عن قتل القمل في الصلاة، أو عن الرمي بالنخامية في المسجد، ثم فعل ذلك اقتضى فعله الإباحة لذلك.لأنها لا تجوز عليه المعصية. فما طريقه التبليغ، فيحكم بأنه مباح لأنه قد استوى فيه الفعل والترك، وهذا حقيقة المباح.
وأما القسم الثالث: وهو (( التقرير )) منه صلى الله عليه وآله وسلم لأحد على فعل، أو ترك.
(( فإذا عَلم صلى الله عليه وآله وسلم بفعل من غيره )) وتنبه له بحيث لو كان مخالفا للشريعة لأنكره، لأنه لا يصح منه السكوت على منكر، (( ولم ينكره وهو قادر على إنكاره، وليس كمضي كافر إلى كنسية )). إذ لو كان كذلك لم يكن سكوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم رضىً. لأنه غير راضٍ بكفره.(1/21)
(( ولا أنكره غيره )) لجواز الاتكال على إنكار الغير، بل ذلك تقرير للإنكار من الغير، فكأنه قد أنكر بالمقال، فلا يكون ذلك الفعل حينئذ جائزا .فإذا كان كذلك (( دل ذلك )) التقرير (( على إباحته )).أي: إباحة الفعل المسكت عنه. إذ لو كان منكرا لما سكت عنه، لأن سكوته عن المنكر مع تكامل الشروط المذكورة لا يجوز.
(( واعلم أنه لا تعارض في أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم )). التعارض بين الأمرين هو: تقابلهما على وجه يمنع كل واحد منهما مقتضى صاحبه. ولا يُتَصور التعارض بين الفعلين، بحيث يكون أحدهما ناسخا للآخر، أو مخصصا له، لأنهما إن لم تتناقض أحكامهما فلا تعارض، وإن تناقضت فكذلك أيضا. نحو: صوم يوم وإفطاره.لأن الفعلين إنما يقعان في وقتيين متباينين، ويجوز أن يكون الفعل في وقت واجبا، وفي مثل ذلك الوقت بخلافه. فحينئذ يُقطع بتأخر أحدهما. فيمكن التأسي به صلى الله عليه وآله وسلم فنكون متعبدين بالفعل في وقت، وبالترك في آخر. إلا أن يكون مع الفعل الأول قول مقتض لتكرره، فإن الفعل الثاني قد يكون ناسخا لذلك القول، لا الفعل فتأمل! بخلاف القولين، أو القول والفعل، ولذا قال (( ومتى تعارض قولان، أو قول وفعل، فالمتأخر ناسخ )) إن تراخى وقتا يمكن العمل بالأول فيه.
(( أو مخصص )) إن لم يتراخ.
(( فإن جُهل التاريخ )) فلم يُعلم أي: هما متأخر (( فالترجيح )) حينئذ يرجع إليه. وسيأتي وجوهه في بابه إن شاء الله تعالى.
(( وطريقنا إلى العلم بالسنة )) بأقسامها، (( والأخبار ))، وهي: جمع خبر. وسيأتي حقيقة الخبر إن شاء الله تعالى.
(( وهي )) أي: الأخبار. قسمان: (( متواتر، وآحاد )). لأن الخبر إما أن يفيد بنفسه العلم بصدقه أولا؟ فالأول: المتواتر.والثاني: الآحاد. وهو: الذي لا يفيد بنفسه العلم بصدقه. فالمستفيض وهو: ما زاد نقلته على ثلاثة، نوع من الآحاد. فلا واسطة بين المتواتر والآحاد.(1/22)
(( فالمتواتر )) التواتر في اللغة: تتابع أمور واحد بعد واحد بفترة.[مأخوذ] من الوتر، ومنه{ ثم أرسلنا رسلنا تتري}. أي: شيئا بعد شيء مع فترة.
وفي الاصطلاح: (( خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه )).قوله: خبر جماعة احتراز من خبر الواحد، وإن أفاد العلم كالمحفوف بالقرائن. فإنه لا يسمى متواترا. وقوله: يفيد بنفسه. ليخرج خبر جماعة عرف صدقهم لا بنفس الخبر، بل: بالقرائن الزائدة على مالا ينفك الخبر عنه.
(( ولا حصر لعدده )) في مقدار مُعَيَّن على الصحيح (( بل هو ما أفاد العلم الضروري )) فلا يتعين له عدد. بل يختلف ذلك باختلاف الوقائع، والمخبرين، والمستمعين. وذلك لأنا نقطع بحصول العلم بالمتوترات من البلدان، كمكة، ومصر، والأمم الماضية الخالية، كالأنبياء، والصالحين، والملوك والمتقدمين، من غير علم بعدد مخصوص لا متقدما ولا متأخرا .
وما ذهب إليه بعضهم: من اشتراط الخمسة، أو الأثنى عشر، أو العشرين، أو الأربعين، أو السبعين، فمما لا دليل عليه. والعلم الحاصل من التواتر لا يكون حجة على الغير، لجواز أن لا يكون ذلك حاصلا له.
واعلم أن شروط التواتر_ أي: ما يوصف الخبر بأنه متواتر معها، بحيث لو اختل أحدها لم يكن متواترا – أمور. منها ما يرجع إلى المخبرين، ومنها ما يرجع إلى السامعين .
أما ما يرجع إلى المخبرين فمنها: أن يبلغ عددهم مبلغا يمتنع بحسب العادة تواطؤهم على الكذب.وذلك يختلف باختلاف المخبرين والوقائع والقرائن .
ومنها: أن يكونوا مستندين إلى إحدى الحواس. كالأخبار عن البلدان، والأصوات، والمطعمات، والمشمومان.فأما ما لم يستندوا فيه إلى ذلك نحو الأخبار عن حدوث العالم، أو أن الله تعالى قادر، وليس بحسم، أو نحو ذلك من المعقولان، فإنه لا يفيد العلم قطعا .
ومنها: إذا نقل جماعة عن جماعة، اشتُرِط فيه استواء الطرفين والوسط، بمعنى: بلوغ جميع طبقات المخبرين في الأول والأخر والوسط بالغا ما بلغ عدد التواتر .(1/23)
وأما الراجعة إلى السامعين فأمران:
أحدهما: أن لا يكون السامع للخبر المتواتر عالما بمدلوله بالضرورة، فإنه إذا كان كذلك لم يفد التواتر علما. لامتناع تحصيل الحاصل. الثاني ذكره بعضهم، وهو: أن لا يكون السامع للمتواتر معتقدا لمدلول خلافه، إما لشبهة دليل، حيث يكون من العلماء، أو لتقليد، حيث يكون من العوام.فإن ارتسام ذلك في ذهنه واعتقاه له يمنع من قبول غيره.
ومن هذا ما ورد في الأثر: ( حبك للشيء يعمي ويصم ).
وقيل: إن هذا ليس بشرط.
ودليل حصول هذه الشروط هو: حصول العلم. فمتى أفاد الخبر بمجرد العلم، تحققنا أنه متواتر، وأن جميع شرائطه موجودة. وإن لم يفده علمنا عدم تواتره، أو فقدان شرط من شرائطه.كذا ذكره بعضهم فافهم ذلك. فهذه هي الشروط المعتبرة عند الأكثر.
وقد اشتُرِط غير هذه الشروط. منها: الإسلام، والعدالة. والصحيح أنهما ليسا بشرط.ولهذا قال المصنف:
(( ويحصل )) العلم (( بخبر الفاسق والكافر )) فلا يشترط الإسلام، ولا العدالة، بدليل أنا نجد العلم الضروري بأخبار الملوك والبلدان، والنقلة غير ثقاة، وسواء جوزناها مؤمنين أم كفارا أم فساقا .
ومنها: اختلاف الدين والبلد والوطن والنسب .
ومنها: وجود الإمام المعصوم .
ومنها: دخول أهل الذل فيهم.
ومنها: كونهم بحيث لا بحصرهم عدد، ولا يحويها بلد.والصحيح أن هذه كلها ليست بشروط لما تقدم .
واعلم أن التواتر قد يكون لفظيا وهو ما تقدم، وقد يكون معنويا، وقد بينه بقوله:(1/24)
(( وقد يتواتر المعنى دون اللفظ )) والتواتر المعنوي هو: أن ينقل العدد الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب وقائع مختلفة مشتملة على قدر مشترك. وذلك: (( كما في شجاعة علي ))كرم الله وجهه، حيث روي أنه قتل يوم الخندق كذا، وأخبر آخر أنه هزم في خبر كذا، وأخبر آخر أنه فعل في أحد كذا، إلى غير ذلك. فكل واحدة من هذه الجزئيات لم تبلغ حد التواتر، بل أفادت بالالتزام كونه شجاعا. (( و )) كذا (( جود حاتم )) فيما يحكى أنه أعطى دينارا، وأخبر آخر أنه أعطى جملا، وأخبر آخر أنه أعطى شاة، هلم جرا حتى بلغ المخبرون عدد التواتر. فيُقطع بوجود القدر المشترك _ أعني الشجاعة، والجود _ لوجوده في كل خبر من هذه الأخبار.
قيل: والقدر المشترك هنا هو مجرد الإعطاء، لا الكرم والجود، لعدم وجودهما في كل واحد من الجزئيات.
قلت: بل والكرم والجود أيضا يقطع بوجودهما، لأنهما وإن لم يوجد لفظهما، فهذه الأخبار تتضمنهما، فتأمل ذلك. وهذا هو المسمى بالتواتر المعنوي، لأن المتواتر إنما هو المعنى فقط كما تقرر.
(( و )) القسم الثاني من الأخبار (( الآحاد )) وحقيقته: ما لا يفيد بنفسه العلم. وسواء كان خبر واحد أو جماعة، فيدخل المستفيض كما تقدم، وكذا ما أفاد العلم بقرينة.
واختلف في وجوب العلم به. والمختار: وجوبه عقلا وسمعا.
أما العقل: فأنا نعلم ضرورة أن من أُحضر إليه طعام، وأخبر معدَّل أنه مسموم، وغلب في ظنه صدقه، ثم أقدم عليه مع غلبه الظن استحق الذم قطعا. وذلك هو معنى الوجوب.
وأما السمع فما سيأتي عن قريب أن شاء الله تعال.
والآحاد قسمان: (( مسند، ومرسل )).
وحقيقة المرسل في الاصطلاح: قول العدل الذي لم يلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا.
وسواء كان تابعيا أو غيره.وسمي مُرسِلا: لكونه أرسل الحديث أي: أطلقه، ولم يذكر من سمعه منه.(1/25)