فبيانه أن نقول: النقلي إما خآص، أو عام. والخآص إما أن يدل بمنطوقه، أو بمفهومه. فإن كان خآصا دآلا على الحكم بمنطوقه، فإنه يرجح على المعقول. من قياس، أو اجتهاد. لأن النص أصلٌ بالنسبة إلى القياس والإجتهاد. ولأن تطرق الخلل إليه أقل من تطرقه إليهما. مثاله: أن يقول الشارع: تجب النية في الوضوء. مع قياسه على إزالة النجاسة، بكونه طهارة بمائع فلا تجب. فإن النص أرجح. والله أعلم. وإن كان خآصا دآلا بمفهومه، فله درجات مختلفة، باختلاف المفهوم في القوة والضعف. والترجيح فيه على حسب ما يقع للناظر.
وإن كان النقلي عاما، فهو على الخلاف في جواز التخصيص بالقياس. هل يجوز؟ أم لا؟ فهذا هو العمدة في باب الترجيح. والله الهادي إلى الصواب.
(( و )) إن كان قد يحصل بغير ذلك، إذ المعلوم أن (( وجوه الترجيح لا تنحصر )) فيما ذكر فقط .
(( و )) لكن بعد التحقيق لهذا المذكور ومعرفته، (( لن يخفى )) على الفَطِن (( اعتبارها )). أي: اعتبار غير الوجوه المذكورة. (( مع توفيق من الله عز وجل ))، ولطف للعبد يحصل به التنوير في القلب. والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
[ خاتمة لباب الترجيحات ]
وهي في بيان مآهية الحدود، وأقسامها، ووجوه ترجيح السمعية منها.
(( و )) اعلم أن (( الحدُّ )) في اللغة بمعنى: المنع. ومنه: سمي البواب حدادا. لمنعه الداخل والخارج.
وفي الإصطلاح (( ما يُميِّز الشيء عن غيره )). أي: ما يُمَيِّز المحدود عن دخول غيره فيه. وسمي: بذلك لمنعه غير المحدود عن الدخول في المحدود. وهذا التعريف شامل للعقلية كتعريف المآهيات، والسمعية كتعريف الأحكام. واللفظي والمعنوي أيضا.
(( وهو )) أي: الحد. قسمان:
(( لفظي )). وهو ما يقصد به تفسير مدلول اللفظ.
(( ومعنوي )). وهو ما يُقال على الشيء لإفادة تصوره.(1/236)


(( فاللفظي )) حقيقته: (( كشف لفظ بلفظ أجلى منه مرادف له )). كما يقال: الغضنفر: هو الأسد. والعقار: هي الخمر.
وفي إشتراطه للمرادفة نظر. إذ يجوز أن يكون بالأعم. لأن المقصود به إنما هو تفسير مدلول اللفظ. كما يقال: سعدان: نبت. فإن النبت يعم السعدان وغيره. وذلك ظاهر .
(( والمعنوي )) وقد عرفت حقيقته. ينقسم إلى قسمين:
(( حقيقي )). وهو المسمى بالحد عند المنطقيين.
(( ورسمي )). وهي المسمى بالرسم عندهم. (( وكلاهما )). أي: كل واحد من الحقيقي والرسمي، ينقسم إلى قسمين أيضا:
(( تام )).
(( وناقص )).
(( فالحقيقي التام: ما رُكِّب من جنس الشيء )). وحقيقة الجنس: هو المقول على الكثرة المختلفة الحقائق في جواب ما هو ؟
(( وفصله )). وحقيقة الفصل: ما يقال على الشيء في جواب أيُّ شيء هو في ذاته ؟
وقوله: (( القريبين )). صفة للجنس والفصل. فالقريب من الجنس: ما يكون الجواب به عن المآهية ؟ وعن بعض المشاركات لها فيه هو: الجواب عنها. وعن كل المشاركات فيه أيضا، كالحيوان في حق الإنسان، فإنه جنس قريب له.
والبعيد منه: مالا يكون الجواب عن السؤآل عن المآهية. وعن بعض
المشاركات فيه جوابا عن الماهية. وعن جميع المشارِكات فيه. بل عنها وعن البعض. كالجسم مثلا: في حق الإنسان. وقد تقدم معنى ذلك في باب الحقيقة والمجاز.
والقريب من الفصل: ما يميز الشيء عن المشارِكات في الجنس القريب. كالناطق في حق الإنسان. فإنه يميزه عن المشارِكات له في الحيوانية.(1/237)


والبعيد منه: ما يميز عن المشارِكات في الجنس البعيد، كالحساس في حق الإنسان أيضا. فإنه يميزه عن المشارِكات له في الجسمية. فما تركب من جنس الشيء وفصله القريبين: فهو الحد التام. وذلك (( كحيوان ناطق. في تعريف الإنسان )). فالحيوان: جنس قريب للإنسان. والناطق: فصل قريب له. كما بيَّنا. وسمي حدا. لما تقدم من أنه مانع من خروج شيء من أفراد المحدود، وعن دخول غيره فيه. وتاما. لاشتماله على جميع الذاتيات.
والأكثر في التركيب: تقديم الجنس على الفصل. ويجوز العكس. فيقال: ناطق حيوان .
(( و )) الحد (( الحقيقي الناقص: ما كان بالفصل )) القريب (( وحده، كناطق )) في تعريف الإنسان.
(( أو )) بالفصل القريب (( مع جنسه ))، أي: المحدود (( البعيد )). وذلك: كجسم ناطق. في تعريف الإنسان أيضا. فالجسم: جنس بعيد له. والناطق: فصل قريب. كما تقدم. وسمي ناقصا. لخلوه عن بعض الذاتيات كالحيوانية.
((والرسمي التام: ما كان بالجنس القريب )). وقد تقدم بيانه . ((والخآصة )). وحقيقتها هي: المقول على ما تحت حقيقة واحدة فقط. (( كحيوان ضاحك )). في تعريف الإنسان. فإن الضاحك خآصة للإنسان.
وسمي رسميا. لكونه تعريفا بالخآصة التي هي من آثار الشيء. ورسم الشيء أثره. وتاما. لشبهه بالحد التام. من حيث أنه وضع فيه الجنس القريب، وقيد بما يخص المآهية.
(( والرسمي الناقص: ما كان بالخآصة وحدها )). كضاحك في تعريف الإنسان. (( أو )) بالخآصة (( مع الجنس البعيد )). كجسم ضاحك في تعريفه . وسمي ناقصا. لخلوه عن بعض الذاتيات أيضا. ورسما. لما تقدم في التام.
(( أو )) يكون التعريف (( بالعَرَضيات التي تختص جملتها بحقيقة واحدة )). ولا توجد مجتمعة إلا فيها. وإن وجد كل واحد منفردا في غيرها. فإن التعريف بها يكون رسما ناقصا أيضا. أما كونه رسما. فلأنه أيضا بالأثر. وأما كونه ناقصا. لعدم ذكر الذاتي. بل إنما ذكرت العرضيات العامة. والله أعلم.(1/238)


وذلك (( كقولنا في تعريف الإنسان: ماشٍ على قدميه، عريض الأظفار، بادي البشرة، مستوي القامة، ضاحك بالطبع )). فإن هذه العرضيات الخمسة لا توجد مجتمعة إلا في الإنسان. فصح التعريف بها. إذ قد أفادت تمييز الإنسان عن غيره، المقصود من الحد. والله أعلم.
(( و )) اعلم أنه (( يجب الإحتراز في الحدود عن )) أمور:
منها: (( تعريف الشيء بما يساويه في الجلاء والخفاء )). فلا بد في المعرِّف من أن يكون مساويا للمعرَّف. بحيث يصدق أحدهما على جميع ما يصدق عليه الآخر. فإذا وُجِدَ أحدهما وُجِدَ الآخر. وهو معنى الإطِّراد. وبه يكون الحد جامعا. وإذا عدم أحدهما عدم الآخر. وهو معنى الإنعكاس. وبه يكون مانعا. ولا يكو نفس المعرَّف. وأن يكون أجلى من المعرَّف ووأضح منه. فحينئذ لا يصح بالأعم من المعرِّف والأخص منه. فلا يصح تعريف الإنسان: بالحيوان فقط. ولا تعريف الحيوان: بالإنسان. وذلك: لأن المقصود بالتعريف: هو إفادة تصور المعرَّف. سواء كان بكنه المعرَّف أي: نفسه. كما في الحد التام. أو بوجه يميزه عما عداه. وإن لم يوصل إلى كنهه. كما في الحد الناقص، والرسم مطلقا. والأعم والأخص لا يحصل بهما ذلك. فتأمل! والله أعلم.
وإذا لم يصح التعريف بالأعم من المعرِّف، والأخص منه، كان عدم صحته بالمبائن أولى وأحرى .
وكذلك: لا يصح التعريف بما لا يكون أجلى من المعرَّف. بل مساويا له. فلا يصح تعريف الأب: بمن له الابن. والعكس. لأنهما متساويان ضرورة. بمعنى: أنهما يُتعقَّلان معا.وكذلك لا يصح بالأخفى من المعرَّف. فلا يصح تعريف الحركة: بما ليس بسكون. لكونه أخفى منها. إذ السكون: عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك. ولا تعريف النار بالجوهر الشبيه بالنفس. لذلك. ولا تعريفها: بالخفيف المطلق. لمن لا يعرف معنى الخفة.(1/239)


(( و )) منها: (( تعريف الشيء بما لا يُعرف )) ذلك الشيء (( إلا به )). بأن تكون معرفة الحد: متوقفة على معرفة المحدود. لأنه دَورٌ. سواء كان ذلك التوقيف (( بمرتبة )). ويسمى ذلك: الدور الظاهر. مثل تعريف الكيفية: بما به تقع المشابهة. وإلا فلا مشابهة. ثم تعريف المشابهة بالإتفاق في الكيفية. فالمشابهة مترتبة على الكيفية بمرتبة واحدة.
(( أو كان بمراتب )) أكثر من واحدة. ويسمى الدَّورُ الخفي. مثل تعريف الاثنين: بأول عدد ينقسم بمتساويين. ثم تعريف المتساويين: بالشيئين الغير المتفاضلين. ثم تعريف الشيئين: بالإثنين. فالمتساويان يتوقفان على الاثنين بمرتبتين:
إحداهما توقف المتساويين على الشيئين.
والثانية: توقف الشيئين على الإثنين.
(( و )) منها: الإحتراز (( عن استعمال الألفاظ الغريبة ))، التي لا تعرف (( بالنظر إلى المخاطب )). أي: الذي التعريف له. بأن تكون غير مأنوسة الإستعمال عنده. كما تقدم في تعريف النار: بالخفيف المطلق. لمن لا يعرف الخفة. فهذا بيان الحدود وأقسامها .
وأما ترجيح السمعيات منها فقد بيَّنه بقوله: (( ويرجح بعض الحدود السمعية )). وهي الموصلة إلى التصورات الشرعية. أي: المقصود بها تعريف الأحكام الشرعية، لا العقلية، وهي التي يقصد بها تعريف الماهيآت. والمراد من الحدود السمعية: الظنية. لا القطعية. فلا تعارض بينهما. كالحجج. إذا تقرر ذلك فترجح بعضها (( على بعض )) منها إذا تعارضت. بأن يقتضي أحد الحدين، غير ما يقتضيه الآخر. كما في الحجج بأمور:(1/240)

48 / 49
ع
En
A+
A-