الرابع: أن يوافق أحدهما عمل الأعلم، فإنه أرجح. لكونه أعرف بأحكام التنزيل، وأسرار التأويل. والله أعلم.
(( و )) منها: أنه يُرجَّح أحد المتعارضَين (( بتفسير راويه )) لمعناه، إما بقول، أو فعل، على ما لم يفسِّره. يعني: إذا فسَّر راوي أحد المتعارضَين ما رواه دون الآخر، كان خبره أرجح. لأن تفسيره يقوِّي الظن. والله أعلم.
(( و )) منها: أنه يرجح أحد المتعارضَين باقترانه (( بقرينة )) دآلة على (( تأخره )). أي: إذا كانت في أحد المتعارضَين قرينة دآلة على تأخره، فإنه يرجح على الآخر.
وهي إما: تأخر إسلام راويه، فإنه يجوز أن الراوي الآخر سمعه قبل إسلام هذا.
وإما: تاريخه تاريخا مضيقا كقبل موته صلى الله عليه وآله وسلم بشهر، والآخر موسعا.
وإما: بأن يكون فيه تشديد دون الآخر، فإنه قرينة.لتأخر التشديدات، إذ لم تجيء إلا بعد ظهور الإسلام، وقوة شوكته.
(( و )) منها: أنه يرجح أحد المتعارضَين (( بموافقته للقياس )). وهذا قد دخل في قوله: ويرجح الخبر بموافقته لدليل آخر. إذ القياس دليل. كما لا يخفى. فهذا جملة الترجيحات بين النقليين بأقسامها.
وأما الفصل الثاني: وهو الترجيح بين العقليين. وهما إما قياسان، أو إستدلالان .
أما الأول: فالترجيح فيه من جهتين:
إما: من جهة أصله.
أو من جهة فرعه. فهما قسمان .
أما القسم الأول: وهو الترجيح بين القياسين بحسب الأصل.
فهو نوعان بحسب حكم الأصل، وبحسب علته .
أما النوع الأول:فقد بيَّنه بقوله:(( ويرجح أحد القياسين على الآخر)) بوجوه:
الأول:أنه يرجح (( بكون حكم أصله قطعيا، والآخر ظني)).يعني:إذا كان حكم الأصل في أحد القياسين قطعيا، والآخر ظنيا، فإن ما حكمه قطعي أرجح.
الثاني: قوله: (( أو )) لم يكن حكم الأصل في أحدهما قطعيا، فإنه يرجح ما (( دليله أقوى )). أي: يكون الترجيح بينهما بحسب الدليل في الأصل، فيقدم الأقوى فالأقوى. وقد تقدم في ترجيح النقليين وجه القوة.(1/231)
الثالث: قوله: (( أو )) كون حكم أصل أحد القياسين (( لم يُنسخ باتفاق )). والآخر مختلف في حكم أصله هل نسخ؟ أم لا ؟ فإن ما اتُّفق على عدم النسخ فيه أرجح من الآخر. والوجه في ذلك ظاهر. فهذه الوجوه الثلاثة بحسب حكم الأصل .
وأما النوع الثاني: _ أعني الترجيح بين القياسين بحسب علة حكم الأصل _ فهو أنه يرجح أحد القياسين (( بكون علته )) أي: علة حكمه (( أقوى )) من علة حكم الآخر.
وقوتها إما: (( لقوة طريق وجودها في الأصل )) في أحد القياسين. بأن يكون وجودها في أحدهما معلوما، أو مظنونا بالظن الغالب. وطريق وجودها في الآخر دون ذلك. مثاله: ما إذا قيل في الوضوء: طهارة حكمية، فتفتقر إلى النية كالتيمم. مع قول الآخر: طهارة بمائع، فلا تفتقر إليها كغسل النجاسة. فإن الأول أرجح. لقوة طريق وجود علته _ أعني كونه طهارة حكمية _ لكونه معلوما .
(( أو )) لقوة (( طريق كونها علة )). بأن يكون طريق عليتها في أحدهما نصا، وفي الآخر تنبيه نص. فإن ما طريق علته النص أرجح. على ما تقدم في بيان طرق العلة، في فصل القياس.
(( أو بأن يصحبها )) أي: علة أحد القياسين المتعارضَين (( علة أخرى )) غيرها (( تقويها )). أي: تقوي تلك العلة. فيكون أحد القياسين كالمعلَّل بعلتين دون الآخر. مثال ذلك: تعليل وجوب النية في الوضوء بكونه طهارة حكميه، كالتيمم. فإن هذه تصحبها علة أخرى، وهو كونه عبادة كالصلاة. بخلاف تعليله كونه طهارة بمائع. والله أعلم.
فما كان علته أقوى بأيِّ هذه الوجوه، فإنه أرجح وأقدم. وذلك ظاهر.(1/232)
(( أو بكون حكمها حظرا أو وجوبا، دون معارضتها )). يعني: أنه إذا كان الحكم الصادر عن علة أحد القياسين المتعارضَين حظرا أو وجوبا، والحكم الصادر عن علة الآخر إباحة أو ندبا، فإن ما حكم علته الحظر، أو الوجوب أرجح. مثال ذلك: تعليل الوضوء بأنه عبادة، فتجب فيه النية كالصلاة. لا طهارة، فلا تجب، كغسل النجاسة. وتعليل حرمة التفاضل في البر مثلا بالكيل، فيقتضي ذلك تحريمه في النورة وحظره. لا الطعم، فلا يقتضي ذلك فيها. والله أعلم. (( أو بأن تشهد لها الأصول، أو تكون أكثر اطرادا )). يعني: إذا كانت علة أحد القياسين المتعارضَين تشهد لها الأصول، بأن تكون منتزعة من عدة أصول، دون علة الآخر. فإن ما تشهد لعلته الأصول أرجح. كما في تعليل وجوب النية في الوضوء، بكونه عبادة. فإن هذه تنتزع من الصلاة، والصوم، والحج، بخلاف تعليله: بكونه طهارة. فلا أصل لها، إلا إزالة النجاسة.
(( أو منتزعة من أصول كثيرة )). فإن ما علته كذلك أرجح. وينظر في الفرق بين هذا، وبين قوله: أو تشهد لها الأصول. فإن الظاهر أنهما شيء واحد. كما في غير هذا المختصر. والله أعلم.
(( أو يعلل بها الصحابي، أو أكثر الصحابة )). يعني: أنه يرجح أحد القياسين على الآخر، بأن علته علَّل بها صحابي، وعلة الآخر علَّل بها غير صحابي. أو علَّل بعلته أكثر الصحابة، والآخر الأقل. فإن ما علَّل بعلته الصحابي، أو أكثر الصحابة أرجح. كأن يعلل الصحابي أو أكثر الصحابة: تحريم التفاضل في البر بالكيل، والتابعي أو الأقل: بالطَّعم.
(( ويرجَّح الوصف الحقيقي على غيره )). يعني: إذا كانت علة أحد القياسين وصفا حقيقيا، وعلة الآخر اعتباريا، فإن ما علته الوصف الحقيقي أرجح. للإتفاق على تعليل الحكم به، دون غيره. وقد تقدم.(1/233)
(( و )) يرجح (( الوصف الثبوتي على )) الوصف (( العدمي )). أي: إذا كانت العلة في أحد القياسين وصفا ثبوتيا، وفي الآخر وصفا عدميا، فإن ما علته الوصف الثبوتي أرجح مما علته الوصف العدمي. للإتفاق أيضا على التعليل بالثبوتي، دون العدمي. والله أعلم .
(( والباعثة على الأمارة )). أي: إذا كانت العلة في أحد القياسين باعثة على الحكم، وفي الآخر أمارة فقط، فإن ما علته باعثة أرجح. للإتفاق عليها.
(( و )) ترجح العلة (( المطَّرِدة، والمنعكسة على خلافها )). وهي غير المنعكسة .
(( و )) ترجح العلة (( المطردة فقط )) أي: من دون انعكاس (( على المنعكسة فقط )). أي: من دون اطِّراد. يعني: إذا كانت علة أحد القياسين مطردة، بأن يوجد الحكم بوجودها، ولا تنعكس أي: لا ينتفي الحكم بانتفائها، وعلة الآخر بالعكس، فإن ما علته مطَّرِدة أرجح مما علته منعكسة.
(( و )) يرجح (( السَّبر، على المناسبة )). أي: إذا ثبتت علة أحد القياسين المتعارضَين بالسبر والتقسيم، وعلة الآخر بالمناسبة بينهما وبين الحكم، فإن ما ثبت علته بالسبر أرجح. لتضمنه انتفاء غيرها. كما تقدم في القياس .
(( و )) ترجح (( المناسبة على الشَّبهِيَّة )). أي: إذا ثبتت علة أحد القياسين بالمناسبة، وعلة الآخر بالشَّبه، فإن ما ثبت علته بالمناسبة أرجح. لأن الظن الحاصل بها أقوى. والله أعلم.
(( و )) أما القسم الثاني: وهو الترجيح بين القياسين بحسب الفرع. فإنه (( يرجح )) أحد القياسين (( بالقطع لوجود العلة في الفرع )). يعني: إذا قُطِع بوجود العلة في الفرع في أحد القياسين، وظُنَّ وجودها فيه في القياس الآخر، كان ما قُطع بوجوده العلة في فرعه أرجح.(1/234)
(( و )) يرجح أحدهما (( بكونه )) أي: حكم الفرع (( ثابتا بالنص في الجملة )). في أحد القياسين دون الآخر. أي: إذا كان قد ثبت حكم الفرع فيه في أحد القياسين بالنص في الجملة، وجيء بالقياس للتفصيل، والآخر ليس كذلك، بل يحاول إثبات الحكم في الفرع بالقياس ابتداءً، فإن ما ثبت فيه حكم الفرع بالنص جملة أرجح. لأن تفصيل الشيء الثابت أهون، من إثباته من أصله. والله أعلم.
(( و )) يُرجَّح (( بمشاركته )) أي: الفرع للأصل (( في عين الحكم، وعين علته، على الثلاثة الأُخر )).
1_ وهي: المشاركة في جنس الحكم، وعين علته.
2_ أو عين الحكم، وجنس العلة.
3_ أو جنس الحكم، وجنس العلة.
يعني إذا كان الفرع في أحد القياسين مشارِكا للأصل في عين العلة، وعين الحكم، وفي الآخر الفرع مشارِكا للأصل في الثلاثة الأخيرة، فإن الأول أرجح. على ما تقدم في تفصيل المناسب .
(( و )) يرجح أحد القياسين على الآخر، بمشاركة الفرع للأصل
(( في عين أحدهما )). إما العلة. أو الحكم. (( وجنس الآخر ))، على المشاركة له (( في الجنسين )). يعني: إذا شارك الفرعُ الأصلَ في أحد القياسين، في عين الحكم، وجنس العلة، كان ما يشارك فيه الفرعُ الأصلَ في عين أحدهما، وجنس الآخر أرجح مما يشارك فيه الفرعُ الأصلَ في الجنسين.
(( و )) يُرجَّح أحد القياسين على الآخر، بمشاركة الفرع للأصل
(( في عين العلة، مع )) المشاركة في (( في جنس الحكم، على )) المشارك في (( العكس )). أي: في عين الحكم، مع جنس العلة. يعني: إذا كان الفرع في أحد القياسين مشارِكا للأصل في عين العلة، وجنس الحكم، وفي الآخر بالعكس، فإن الأول أرجح. إذ العلة هي الأصل في التعدية. والله أعلم.
هذا ما يُحتاج إليه من الترجيحات بين العقليين. وبالله التوفيق.
وأما الفصل الثالث: وهو الترجيح بين المختلفين. أي: النقلي، والعقلي.(1/235)