(( غيرهما )) من سائر الكتب، التي لم تعرف بالصحة. يعني إذا أسند أحد المتعارضين إلى صحيح البخاري، أو صحيح مسلم، أو نحوهما، مما عُرِف بالصحة من كتب الحديث النبوي، وأسند الآخر إلى غيرهما مما لم يُعرف بالصحة، كان ما أُسنِد إلى الصحيح أقوى وأرجح. فهذه وجوه الترجيح بحسب الرواية.
القسم الثالث: من الترجيح بالسند. بحسب ما يرجع إلى نفس المروي. وهو أيضا من وجوه:
منها : أنه إذا روي أحد المتعارضين بالسماع من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كان يقول: سمعت رسول صلى الله عليه وآله وسلم. والآخر بالتَّحمُّل، كأن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فإنه يُرجح ما ثبت بالسماع، على ما ثبت بالتحمل. لاحتمال أنه لم يسمع .
ومنها: أن يكون المتعارضان ثبتا بالسكوت منه صلى الله عليه وآله وسلم، والتقرير. لكن أحدهما في حضرته بأن شاهده وسكت عنه.
والآخر في غيبته، بأن سمعه وسكت عنه. فإنما سكت عنه مع الحضور أرجح، مما سكت عنه مع الغيبة والسماع. لأن الأول أغلب على الظن .
ومنها: أن يكون أحد المتعارضين ورد فيه صيغة منه صلى الله عليه وآله وسلم. والآخر إنما فُهِم منه فقط، فرواه الراوي بعبارة نفسه. فإنه يقدم ما ورد فيه صيغة منه صلى الله عليه وآله وسلم، على ما فُهِم فقط. لقوة دلالة الصيغة، وضعف دلالة غيرها.
القسم الرابع: من الترجيح بالسند. بحسب ما يرجع إلى نفس المروي عنه. وذلك: نحو أن يكون أحد المتعارضين ثبت من المروي عنه إنكار لروايته. والآخر لم يثبت. فإن ما لم يثبت فيه إنكار أرجح، مما ثبت فيه. وذلك لأن الظن الحاصل به أقوى. وسواء كان إنكار نسيان ووقوف، أو إنكار جحود وتكذيب. فأما إذا كان أحدهما أنكر إنكار جحود، والآخر أنكر إنكار نسيان. فإن ما أُنكر إنكار نسيان أرجح، مما أُنكر إنكار جحود. والله أعلم.
فهذا ما يُحتاج إليه من جهة الترجيح بين النقليين بحسب السند .(1/226)
وأما الجهة الثانية: وهي الترجيح بحسب المتن. فهو يقع من وجوه: الأول: قوله: (( ويرجَّح النهي على الأمر )). يعني: إذا كان مدلول أحد المتعارضين نهيا، والآخر أمرا، فإنه يرجَّح ما مدلوله النهي، على ما مدلوله الأمر. لأن النهي أكثره لدفع المفاسد. والأمر لجلب المنافع. والإهتمام بدفع المفسدة، أشد من الإهتمام بجلب المنفعة. وأيضا فإن ما يحتمله النهي من المعان، ي أقل مما يحتمله الأمر. وما كان أقل احتمالا أرجح .
الثاني: قوله: (( والأمر على الإباحة )). يعني: إذا كان مدلول أحد المتعارضَين أمرا، ومدلول الآخر إباحة، فإنه يرجَّح ما مدلوله الأمر، على مدلوله الإباحة. وذلك للإحتياط، والخروج عن العهدة. والله أعلم.
وأما إذا كان مدلول أحد المتعارضين إباحة، والآخر نهيا، فإن ما مدلوله الإباحة أرجح. إذ أَبحتُ كذا، قرينة على تقدم النهي عنه. وقيل: بل يرجَّح النهي على الإباحة. لمثل ما ذكرنا في ترجيح الأمر، على الإباحة .
قلت: وهو الأولى. والله أعلم.
والثالث: قوله: (( والأقل احتمالا على الأكثر )). أي: إذا كان أحد المتعارضين أقل احتمالا لغير المطلوب، والآخر أكثر، فإنه يرجَّح الأقل على الأكثر. نحو: أن يكون أحدهما مشترَكا بين ثلاثة معانٍ، والآخر بين معنين، فإن ما هو مشترَك بين معنيين أرجح. لأن ما قل احتماله، أقرب إلى المطلوب. والله أعلم.
والرابع: قوله: (( والحقيقة على المجاز )). أي: إذا كان أحد المتعارضَين يستعمل في المطلوب حقيقة، والآخر لا يستعمل فيه إلا مجازا، فإن الحقيقة أرجح. إذ لا يتطرق إليها الخلل. بخلاف المجاز. والله أعلم .
والخامس: قوله: (( والمجاز على المشترَك )). يعني: إذا كان أحد المتعارضَين مجازا، والآخر مشترَكا، فإن المجاز أرجح من المشترك. إذ المجاز أقرب. ولا يُخِلُّ بالتفاهم. على ما تقدم في أول الكتاب. والله أعلم.(1/227)
والسادس: قوله: (( والأقرب من المجازين على الأبعد )). يعني: إذا كان المتعارضان مجازين، ولكن أحدهما أقرب إلى الحقيقة من الآخر، فإنه يرجح الأقرب. وقرب المجاز من الحقيقة المقتضى لترجيحه، إما أن يكون أكثر من الآخر. أي: التجوز فيه أكثر من الآخر. نحو: التجوز بالأسد في الشجاعة. فإنه أكثر من التجوز به في البَخِر. والله أعلم. أو بان يكون أقوى في التجوز من الآخر. نحو: التجوز بإطلاق اسم الكل على الجزء. فإنه أقوى من إطلاق اسم الجزء على الكل. لأن
الكل يستلزم الجزء. بخلاف العكس. نحو: من سرق قطعت يده. مع من سرق لم تقطع أنامله. أو بأن يكون دليل التجوز فيه أرجح من دليل التجوز في الآخر. أو غير ذلك مما يقتضى قرب المجاز من الحقيقة. والله أعلم.
السابع: قوله: (( والنص الصريح، على غير الصريح )). يعني: إذا ثبت أحد المتعارضين بالنص الصريح الذي لا احتمال فيه، والآخر بالنص المحتمل. نحو: أن يكون أحدهما صريحا في المقصود، والآخر يحتمل المقصود، وغيره. فإن الصريح أولى. لعدم الإحتمال. ونحو: أن يكون أحدهما مجمَلا، والآخر مبيَّنا، فإن المبيَّن أرجح. لعدم احتماله. والله أعلم .
والثامن: قوله: (( والخاص على العام )). أي: إذا كان أحد المتعارضَين خآصا، والآخر عاما، فإن الخآص أرجح. لأن دلالته على المقصود أقوى من العام. لاحتمال التخصيص فيه. والله أعلم.
التاسع: قوله: (( وتخصيص العام على تأويل الخاص )). يعني: إذا كان أحد المتعارضَين يقتضي تخصيص دليل عام، والآخر يقتضي تأويل دليل خاص، فإنه يُقَدَّم ما يقتضي تخصيص العام. لكثرة التخصيص، على ما يقتضي تأويل الخاص لقلة التأويل. والله أعلم.(1/228)
العاشر: قوله: (( والعام الذي لم يُخصَّص، على الذي خُصِّص )). يعني: إذا كان المتعارضان عامي، ن لكن أحدهما خُصَّص بديل، والآخر لمَّا يُخَصَّص، بل باق على عمومه، فإن ما لم يُخصص أرجح. للإتفاق على حجيته. بخلاف المخصَّص، ففيه الخلاف. والله أعلم.
الحادي عشر: قوله: (( والعام الشَرطي، على النكرة المنفية، وغيرها. ومَن، وما، والجمع المعرف باللام، على الجنس المعرف به )). هذا الترجيح باعتبار صيغ العموم. فإذا كان عموم أحد المتعارضَين بصيغة الشرط، وعموم الآخر بكونه نكرة منفية، فإن العام الشرطي أرجح. لأن الحكم فيه معلل. فيكون ذلك أدعى إلى قبوله. مثل: ( من بدل دينه فاقتلوه ). مع ما لو قيل: لا قتل على مرتد. وكذا إذا كان عموم أحد المتعارضين باعتبار مَن، أو ما، أو الجمع المعرف باللام، وعموم الآخر باعتبار كونه جنسا معرفا باللام، فإن ما عمومه باعتبار مَن، أو ما، أو الجمع أرجح، من الجنس المذكور. لأن دلالته على العموم أضعف، لكثرة استعماله في المعهود. مثل: {اقتلوا المشركين}. أو مَن أشرك. مع ما لو قيل: المشرك لا يُقتل. ومثل: ما خرج من السبيلين حدثٌ. مع ما لو قيل: الخارج من السبيلين ليس بحدث. فهذا إيضاح ما يُحتاج إليه من الترجيح، بين النقليين بحسب المتن .
الجهة الثالثة: الترجيح بحسب المدلول. أي: ما يدل عليه المتعارضان.
(( و )) هو من وجوه:
لأول: أنه (( يرجح الوجوب على الندب )). أي: إذا كان أحد المتعارضَين يقتضي وجوب أمر، والآخر ندبه، فإنه يقدم الوجوب على الندب. للإحتياط. ولأنه قد حصل الندب وزيادة، بخلاف العكس.(1/229)
(( و )) الثاني: أنه يرجح (( الإثبات على النفي )). أي: إذا كان أحد المتعارضَين يقتضي إثبات أمر، والآخر نفيه، فإنه يرجح ما يقتضي الإثبات. لاحتمال أن يكون النافي غفل عن الفعل، لكثرة غفلة الإنسان عنه. مثاله: حديث بلال رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وآله وسلم: دخل البيت الحرام وصلى. وقال أسامة: دخل ولم يصل. فإن حديث بلال أرجح. لكونه أثبت الفعل. والله أعلم.
(( و )) الثالث: أنه يُرجَّح (( الدآرء للحد على الموجب له )). يعني: إذا كان أحد المتعارضَين يقتضي درء الحد وإسقاطه، والآخر يقتضي وجوبه وإثباته، فإن ما يقتضي الدرء أرجح. لما في الدرء من التيسير، ونفي الحرج المقصودين للشارع. بدليل قوله تعالى { يريد الله بكم اليسر }. {ما جعل عليكم في الدين من حرج }.
(( و )) الرابع: أنه يرجح (( الموجب للطلاق، والعتق، على الآخر )). أي: الذي لا يوجبهما. يعني: إذا كان أحد المتعارضَين يوجب العتق، أو الطلاق، والآخر خلافه، فإنه يرجح الموجب لذلك. لموافقة الأصل. إذ الأصل عدم ملك البضع، وملك اليمين. والله أعلم .
وأما الجهة الرابعة: (( و )) هي الترجيح بأمر خارج. فهو أيضا يحصل من وجوه:
منها: أنه (( يرجح الخبر أيضا لموافقته لدليل آخر، أو لأهل المدينة، أو للخلفاء، أو للأعلم )). يعني: أنه إذا وافق أحد المتعارضَين أيَّ هذه الأمور الأربعة، فإنه يكون أرجح.
الأول أن يوافق دليلا آخر من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو عقل، أو حس. فإنه أرجح. لأنه أغلب على الظن. ولأن مخالفة دليلين أشد محذور من مخالفة دليل واحد .
الثاني: أن يوافق أحد المتعارضَين عمل أهل المدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، دون الآخر، فإنه أرجح. لأن المدينة موضع الوحي، فهم أعرف بأحكامه.
الثالث: أن يوافق عمل الخلفاء الراشدين فإنه أرجح لأن أمره صلى الله عليه وآله وسلم باتباعهم، والاقتداء بهم، يفيد غلبة الظن.(1/230)