(( و )) إذا تقرر ذلك. فاعلم أن الدليلين القطعيين (( لا تعارض )) بينهما قطعا. إذ يلزم من ذلك اجتماع النقيضين، إن عُمِل بهما. أو ارتفاعهما، إن أُهمِلا معا. أو التحكم، إن عُمِل بأحدهما. ولا يمكن الترجيح بينهما. لأنه إنما يكون إذا أمكن حِقِّية الدليلين معا. والقطعيان المتعارضان أحدهما باطل لا محالة. فلا يمكن الترجيح. وذلك كأدلة ثبوت الرؤية، وانتفائها.
ولا بين قطعي، وظني. إذ الظني لا يقاوم القاطع. فينتفي الظن عند حصوله. فلا يكون ذلك (( إلا بين )) دليلين (( ظنيين )) فقط. وسواء كانا (( نقليين )) معا، كنَصَّين. إما خبرين، أو ظاهر آيتين، أو إجماعين آحاديين، (( أو عقليين )) معا، كقياسين ظنيين، (( أو مختلفين )). بأن يكون أحدهما نقليا، والآخر عقليا، كتعارض خبر آحادي، وقياس ظني. فهذه الصور هي التي يصح التعارض فيها، والترجيح. فهي ثلاثة فصول. كما ترى.
أما الفصل الأول: وهو الترجيح بين النقليين. فترجيحه من أربع جهات:
إما من جهة سنده.
أو من جهة متنه.
أو من جهة مدلوله.
أو من جهة أمر خارج عنه.
أما الجهة الأولى: وهي الترجيح بحسب السند. وهو طريق ثبوته. فوجوهه كثيرة:
منها ما يرجع إلى الراوي.
ومنها ما يرجع إلى الرواية.
ومنها ما يرجع إلى المروي.
ومنها ما يرجع إلى المروي عنه، فهي أربعة أقسام:
القسم الأول: في الترجيح بالسند بحسب الراوي. وهو في نفسه أوفي تزكيته. فهما طرفان .
الطرف الأول: ما هو في نفس الراوي وهو وجوه:
منها كثرة رواته. وقد بينه بقوله (( فيرجح أحد الخبرين )) المتعارضين على الخبر الآخر المعارض له. (( لكثرة رواته )) دون معارضه. يعني إذا كان رواة أحد المتعارضين أكثر عددا من رواة الآخر، فما رواته أكثر يكون مقدما.(1/221)
مثاله رواية أبي رافع رضي الله عنه، وميمونة رضي الله عنهما، أنه صلى الله عليه وآله وسلم نكحها وهما حلالان. على رواية ابن عباس رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وآله وسلم: نكحها وهو حرام. وذلك لقوة الظن. لأن العدد الأكثر أبعد من الخطأ، من العدد الأقل. ولأن كل واحد من الرواة يفيد ظنا، فإذا انضم إلى غيره قَوِيَ، حتى ينتهي إلى التواتر المفيد لليقين.
(( و )) منها: أنه يرجح أحد الخبرين المتعارضين (( بكونه )) _ أي الراوي لأحد المتعارضين _ (( أعلم بما يرويه )) من الراوي الآخر. بأن يكون ذا بصيرة في علم العربية، وعلم الشرائع والأحكام، دون الآخر، أو يزيد عليه في فطنة.
(( و )) منها (( ثقته )). بأن يكون أكثر ورعا، وتحرزا في دينه، (( وضبطه )) لما يرويه. دون الآخر. فإن رواية المتَّصِف بهذه الأوصاف أرجح. إذ يغلب بذلك ظن الصدق. وهذه الأوصاف راجعة إلى شئ واحد. وهو كون أحد الراويين راجحا على الآخر، في وصف يغلب الظن بصدقه. والله أعلم.
وذلك كما يُرجح ما يرويه علي كرم الله وجهه، على ما يرويه غيره من الصحابة رضي الله عنهم. وذلك ظاهر.
(( و )) منها (( كونه )) _ أي الراوي لأحد المتعارضين _
(( المباشر )) لما يرويه. دون الآخر. فإن روايته أرجح. مثال ذلك: ما رواه أبو رافع رضي الله عنه، مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه نكح ميمونة رضي الله عنها عام قضى عمرة الحديبية، وهو حلال.
وروى ابن عباس رضي الله عنه: أنه نكحها وهو حرام. فإن رواية أبي رافع أرجح. لأنه المباشر إذ كان هو السفير بينهما. بخلاف ابن عباس. وذلك لأن المباشر أعرف بالحال.
(( أو )) كونه (( صاحب القصة )). فإن روايته أرجح أيضا. وذلك: كقول ميمونة رضي الله عنها: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن حلالان. على رواية ابن عباس رضي الله عنه. فإن روايتها أرجح. إذ هي صحابة القصة. فهي أعرف منه بحالها.(1/222)
(( أو )) كونه (( مشافهاً )) لمن يروي عنه. دون الآخر. مثال ذلك: ما رواه القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة: أن بريرة أعتقت، وكان زوجها عبدا، فخيَّرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاختارت نفسها. وروى عنها الأسود بن يزيد النخعي، أنه حين أعتقت حر. فإن رواية القاسم أرجح. لمشافهته لعائشة، إذ هي محرم له، لكونها عمته. فقد سمعه منها مشافهة. والأسود من خلف حجاب. فكان أرجح. والوجه ظاهر.
(( و )) كونه أي: الراوي لأحد المتعارضين عند سماعه للحديث
(( أقرب مكانا )) ممن يروي عنه. والآخر أبعد منه. فإن رواية الأقرب أرجح. مثال ذلك: رواية عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه أفرد التلبية.
ورواية ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قرن.
ورواية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أنه تمتع.
فإن رواية عبد الله بن عمر أرجح. لقربه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين التلبية. إذ كان تحت ناقته صلى الله عليه وآله وسلم حين لبى. فالظاهر أنه أعرف.
(( أو )) كونه (( من أكابر الصحابة، أو متقدم الإسلام )). والآخر من أصاغرهم، أو متأخر الإسلام. فإنه أرجح. لقربه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فيكون أعرف بحاله. ولأنه أشد صونا لمنصبه. فيبعد عن الكذب.
(( أو )) كونه (( مشهور النسب )). والآخر غير مشهور النسب.
(( أو )) كونه (( غير ملتبس بمُضَعَّف )).
قيل: في روايته. وقيل: في اسمه. والآخر ملتبِس به. فإن رواية هؤلاء أرجح. لأن التحرز فيهم، وحفظ الجاه، أكثر من سواهم.
(( و )) منها: أن يكون الراوي لأحد المتعارضين، تحمَّل الرواية بالغا. والآخر صبيا. فإنه يرجح روايته، على الآخر. (( بتحمله بالغا )). وذلك للإتفاق على قبول روايته. دون الآخر. فيكون الظن به أقوى. فهذه وجوه الترجيح التي بحسب نفس الراوي.(1/223)
والطرف الثاني: الترجيح باعتبار تزكيته. أي: الراوي. وقد بينها بقوله: (( وبكثرة المزكين )) لراوي أحد المتعارضين، دون الآخر.
(( أو )) كثرة (( أعدليتهم )). بأن لا يكونوا متساهلين في رعاية التزكية. بخلاف المزكين للآخر. فإن حديث من كان كذلك أرجح. لقوة الظن.
(( و )) إذا كان الراويان للخبرين المتعارضين مُرسِلَين جميعا. فإنه يرجح رواية أحدهما (( بكونه عُرِف )) من حاله (( أنه لا يرسل إلا عن عدل )) عارف. (( في )) الخبرين (( المرسَلَين )). والآخر عُرِف منه خلاف ذلك. أو جُهِل حاله. فإن رواية من عُرف منه ذلك أرجح. لقوة الظن.
وكان تقديم هذا، على قوله: وبكثرة المزكين. إذ هو مما يرجع إلى نفس الراوي.
ومما يرجع إلى الترجيح باعتبار التزكية، ما يرجع إلى نفسها. وقد بينه بقوله: (( ويُرجَّح الخبر الصريح )) بالتزكية للراوي (( على الحكم )). أي: إذا كانت تزكية أحد الراويين بالقول الصريح، كأن يقول المزكي: إنه عدل. وتزكية الآخر بالحكم بشهادته، كأن يقول المزكي: إنه قد حكم بشهادته حاكم. فإن رواية مَن تزكيته بالقول أرجح. لأن التزكية بالحكم إنما تكون لتضمنها القول. والقول الصريح أولى من المتضمن. والله أعلم.
(( و )) يُرجَّح (( الحكم على العمل )). أي: إذا كانت تزكية أحد راويي المتعارضين بالحكم بشهادته، وتزكية الآخر بالعمل بقوله، فإنها تقدم رواية مَن حُكِم بشهادته، على راوية مَن عُمِل بقوله. وذلك: لأن الإحتياط في الشهادة أقوى من الإحتياط في العمل. بدليل قبول خبر الواحد، والمرأة. دون شهادتهما.
القسم الثاني: الترجيح بالسند. بحسب ما يرجع إلى نفس الرواية للحديث. وهو يحصل من وجوه. وقد بينها بقوله:(1/224)
(( قيل )) أي: قال الرازي:(( و )) يرجح (( المسند على المرسل )). أي: إذا كان أحد الخبرين المتعارضين مسندا، والآخر مرسلا، فإنه يقدم المسنَد على المرسَل. وذلك للإتفاق على قبول المسنَد دون المرسَل. فيكون الظن به أقوى. والله أعلم.
(( وقيل )) أي: قال ابن أبان: بل يجب (( العكس )). أي: يُرجَّح المرسَل على المسنَد. لأن المرسِل لا يرسِل إلا وهو كالقاطع بأن ما رواه صدر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. بخلاف ما إذا أتى بأهل السند، فإنه قد حمل السامع العهدة.
(( وقيل )) بل هما (( سواء )). أي: المسنَد والمرسَل. إذا تعارض مقتضاهما فهما سواء. لا ترجيح لأحدهما على الآخر. إذ المعتبر في الراوي إنما هو العدالة، والضبط. والفرض تساويهما. وقد قُبِل كل واحد منهما على انفراده. فلا يكون لأيهما على الآخر مَزِيَّة إذا اجتمعا. وهذا القول هو الذي اختاره: الإمام المهدي عليه السلام في المعيار وشرحه.
نعم: والتعارض من دون ترجيح ممكن عند الأكثر. إذ لا مانع من ذلك. فيثبت التخيير، ويعمل بأيهما شاء على قول. أو الإطِّراح على الصحيح. والله أعلم.
ومن الترجيح بحسب الرواية قوله: (( ويرجَّح المشهور )). أي: الذي ثبت بالشهرة، غير مسنَد إلى كتاب. وغيره أي: إذا ثبت أحد المتعارضين بالشهرة والآخر بغيرها، كان ما ثبت بالشهرة أرجح.
(( و )) يرجح أيضا (( مرسَل التابعي )). أي: إذا كان الخبران المتعارضان مرسَلَي، ن لكن أحدهما أرسله تابعي، والآخر غير تابعي. فإن مرسَل التابعي أرجح.
(( و )) يرجَّح ما أُسنِد إلى كتاب مشهور بالصحة، (( مثل )) ما أُسنِد إلى (( البخاري، ومسلم ))، (( على )) ما أُسنِد إلى كتابٍ(1/225)