(( وقيل: بالشروع في العمل )). وإن لم يتم ذلك العمل. والفرق بين هذا القول، والأول. أن الأول قال لا يصير ملتزما إلا بجميع العمل. فيجوز له الإنتقال بعد الشروع، قبل التمام. بخلاف صاحب هذا القول. مثلا: إذا شرع في الوضوء مقلدا لمن يقول بوجوب الترتيب. فعلى القول الأول يجوز له بعد الشروع وقبل التمام أن يلتزم من يقول بوجوبه. لا بعد التمام فلا يجوز له.
وعلى القول الثاني: يصير ملتزما بالشروع. فلا يصح منه ذلك. فتأمل! والله أعلم.
و (( قيل )): بل يصير ملتزما (( باعتقاد صحة قوله )). أي: المجتهد. وإن لم يعزم على متابعته، ولا لفظ بها، ولا عمل أيضا، ولا سأل.
(( و قيل: بمجرد سؤآله )). أي: إذا سأل العآمي العالم عن مذهبه جملة، أو في حكم معين، صار السائل مقلدا لذلك العال، م بمجرد السؤآل. وإن لم تحصل منه نية، ولا عمل، ولا لفظ. والله أعلم.
(( واختلف )) أي: اختلف العلماء (( في جواز تقليد )) العآمي
(( إمامين فصاعدا )). أي: فأكثر من إمامين. فمن أوجب التزام مذهب إمام معين منع من ذلك. ومن جوزه كمن جوز التزام مذهب أهل البيت عليهم السلام جملة، دون الفقهاء، لم يمنع من ذلك. بل يجوزه.
قال الإمام المهدي عليه السلام: وأما من لم يوجب الإلتزام فلم أقف لهم في ذلك على نص. قال: وأصولهم تحتمل الأمرين.
(( نعم )) وإذا قلنا: بجواز تقليد إمامين، كان المقلد مقلدا لهما معا حيث يتفقان. مخيَّرا بين العمل بقول أيهما شاء حيث يختلفان. لا بقول غيرهما. لو كان مقلد ثالث في ذلك الحكم.
(( و )) اعلم أنه (( لا )) يجوز أن (( يجمع )) مقلد أو مستفتٍ(1/216)
(( بين قولين )) مختلفين، (( في حكم واحد )).إذا كان ذلك (( على وجه لا يقول به )) أي: بذلك الحكم الواحد (( أيُّ )): واحدٍمن (( القائلين )) بالقولين. إذ يكون خارقا للإجماع. مثال ذلك: ما إذا نكح من غير ولي. عملا بقول أبي حنيفة. ومن غير شهود. عملا بقول مالك. فإن هذا جمع بين قولين في حكم واحد، وهو النكاح على وجه لا يقول به أحد من القائلين اللذين قلدهما فيه. ولا من غيرهم. فهو حينئذ خارق للإجماع. لأن الأمة اختلفت في ذلك على ثلاثة أقوال :
الأول: المذهب _ وهو قول الشافعي _ أنهما يجبان معا.
الثاني: لأبي حنيفة أنه يجب الشهود فقط، دون الولي .
الثالث: لمالك عكس قول أبي حنيفة _ أعني أنه يجب عنده الولي دون الشهود. فالنكاح على الوجه المذكور خارق للإجماع. إذا هو خارج عن الأقوال الثلاثة كما ترى .
وما يروى عن مالك أنه أجاز نكاح الدَّنيَّة من النساء من غير ولي ولا شهود، إذا لم يتواطئا على الكتمان رواية شآذة. لا تقدح في المثال المذكور.
وأما الجمع بين القولين لا على الوجه المذكور، فلعل فيه الخلاف السابق في جواز تقليد إمامين. والله أعلم. فكان هذه المسألة فرعا لتلك. ولذلك ذكرت بعدها. فتأمل! والله أعلم.
(( و )) اعلم أنه (( يجوز لغير المجتهد أن يفتى بقول المجتهد ))
المنصوص عليه. (( حكاية )) لذلك (( مطلقا )). أي: سواء كان مُطَّلِعا على المأخذ، أهلاً للنظر، أم لا! فلا يشترط ذلك. وإنما يشترط الحفظ والعدالة.
(( و ))) أما إذا كان إفتاؤه (( تخريجا )) لمسألة من مفهوم مسألة، نص عليها المجتهد، فإنه لا يجوز ذلك. إلا (( إذا كان )) غير المجتهد (( مطلعا على المأخذ )) الذي يريد أن يأخذ منه تلك المسألة. وهي المسألة التي قد نص عليها ذلك المجتهد .
(( أهلاً للنظر )) في التخريج. بأن يكون عارفا لدلالة الخطاب، وما هو ساقط منها، وما هو مأخوذ به. وقد تقدم بيانها في باب المنطوق والمفهوم. فإذا كان كذلك قُبِل منه التخريج.(1/217)
وألفاظه نحو أن يقول: تخريجا. أو على أصل. أو على قياس. أو على مقتضى. أو على موجب. أو على ما دل.
مثال ذلك: أن يسأل العامي غير المجتهد هل تجب في معلوفة الغنم زكاة على مذهب المجتهد الفلاني؟ وقد كان المجتهد نص على أنه يجب في سآئمة الغنم زكاة. وقد عرف هذا النص، وعرف مفهوم الصفة، وشروطه، وأنه مأخوذ به عند ذلك المجتهد. فيقول: لا تجب فيها الزكاة عنده. تخريجا من قوله في سآئمة الغنم زكاة. ويقبل منه ذلك هذا في التخريج .
وأما القياس: فإنه لا يُقبل منه إلا إذا كان عارفا بكيفية رد الفرع المقيس إلى الأصل المقيس عليه. بأن يعرف أركان القياس التي هي الأصل، والفرع، والعلة، والحكم، وشروطها. فلا بد أن تكون له مَلَكةٌ يقتدر بها على استنباط حكم الفرع من الأصل. بأن يكون مجتهدا في المذهب. كالمؤيد بالله، وأبي طالب عليهما السلام، وغيرهما. ممن هو بصفتهما من سائر المذاكرين. فإنه يُقبل منهم ما أفتوا به على مذهب الهادي، والقاسم عليهما السلام. مما لا نص لهما فيه. قياسا على ما قد نصوا عليه. لمعرفتهم بشروط القياس. لأنهم مجتهدون. فتأمل! والله أعلم.
(( وإذا اختلف المفتون على المستفتي غير الملتزم ))، مع استوائهم في العلم والورع _ وقوله: غير الملتزم. إذ لو كان ملتزما وجب عليه إتباع من ألتزمه منهم. فإن التزم مذهبهم جميعا فقد تقدم بيان حكمه _ نعم: إذا كان كذلك فقد اختلفوا بماذا يأخذ المستفتي:
(( فقيل )): إنه (( يأخذ بأول فتيا )). من أيهم حصلت. فيجب إتباعه في تلك الحادثة .
(( وقيل )): بل يأخذ (( بما ظنه الأصح )) من أقاويلهم. فيجب عليه العمل به .(1/218)
(( وقيل )): بل (( يُخَيَّر )). فيأخذ بأي الأقوال شاء، في أي حادثة. من غير حَجْرٍ. لأن المفروض استواؤهم في العلم، والورع. فليس بعضهم حينئذ أولى من بعض. فله أن يسأل أولا من شاء. وأن يسأل ثانيا غير من سأل أولا. وأيضا فإن ذلك قد وقع في زمن الصحابة، وغيرهم. فإن الناس في كل عصر يستفتون المفتين كيف ما اتفق، من غير تفصيل. ولا فَرْق، ولا التزام لسؤآل مفتٍ بعينه. وشاع ذلك، ولم ينكر. والله أعلم.
(( وقيل )) يُفصَّل بأن يقال: (( يأخذ بالأخف )) من أقوالهم، إذا كان ذلك (( في حق الله تعالى )). لقوله تعالى {يريد الله بكم اليسر }.{وما جعل عليكم في الدين من حرج }. فالأخذ بالأخف في حق الله تعالى يوافق الآيتين .
(( و )) يأخذ (( بالأشد )) منها (( في حق العباد ))، لأنه أحوط.
(( وقيل )) بل (( يُخَيَّر في حق الله تعالى )). فيأخذ بأيها شاء، لأنه أسمح الغرماء .
(( و )) أما (( في حق العباد )) فلا يعمل فيه بقول أيهم. بل (( بحكمٍ )) من (( الحاكم )). لأنه أقطع للشجار. والله أعلم.
(( ومن لا يعقل معنى التقليد لفرط عآميته )). بل لا يعرف شروط صحته وحقيقته. وأن حصل منه فإنه إذا قلد إماما وهو لا يعرف شروط التقليد كان تقليده كلا تقليد. فإذا كان كذلك (( فالأقرب )) إلى الصواب (( صحة ما فعله )) من الأحكام الشرعية. وإن كان خلاف ما يقوله مَن قلَّده. إذا كان (( معتقدا لجوازه )). كما يحصل من العوام في صلاتهم من اللحن، وعدم استيفاء الأركان. فإنها تصح منهم، وإن كانت مخالفة لقول من هم منتمون إليه من الأئمة. وكذلك من أسلم عن نكاح موافق لبعض الإجتهادات، فإنه يُقَرُّ عليه.(1/219)
نعم: وإنما يصح ما فعله من لا يعقل التقليد (( ما لم يخرق الإجماع )). بأن يوافق اجتهادا اعتُدَّ به، لم ينعقد الإجماع قبله، أو بعده. إذ لو خرق الإجماع لم يصح منه. ولا يقر عليه. لعدم موافقته لقائل من أهل العلم.كما يقع من كثير من العوام: من ترك الركوع في الصلاة رأسا. فإن صلاة من تركه لا تصح. لعدم موافقتها لقول قائل. والله أعلم . (( ويُعامَل )) من لا يعقل التقليد (( فيما عدى ذلك )) أي: ما عدى ما فعله كذلك (( بمذهب علماء جهته )). الذين يحويهم البريد في ذلك العمل.
(( ثم )) إذا عدم علماء جهته، عُومل بمذهب علماء (( أقرب جهة إليها )). أي: إلى بلده. والله أعلم. وبتمام ذلك تم الكلام في شرح الباب التاسع .
(( الباب العاشر ))من أبواب الكتاب (( في الترجيح ))
بين الأمارات العقلية والنقلية. ويلحق به بيان الحدود، وترجيح السمعية منها بعضها على بعض. كما يأتي في الخاتمة. إن شاء الله تعالى.
(( وهو )) أي: الترجيح. في اللغة: جعل الشيء راجحا.
وفي الاصطلاح: (( اقتران الأمارة بما تقوى به على معارضتها )). أي: أمارة أخرى تعارضها. ومعنى المعارضة: أن تقتضي كل
واحدة منهما خلافَ ما تقتضيه الأخرى. فإذا حصل اقتران إحدى الأمارات بما تقوى به على المعارضة لها، كانت سببا لترجيحها عليها. إذ لا يمكن ترجيح إحداهما تحكما. بل لا بد من مرجح.
(( فيجب )) حينئذ (( تقديمها )). أي: الأمارة المقترنة بما تقوى به على الأخرى، والعلم بها، واطِّراح الأخرى. وإنما وجب ذلك:
(( للقطع عن السلف )) الماضين من الصحابة، وسائر المجتهدين، بإيثار الأرجح. فإن من بحث عن وقائعهم المختلفة في الحوادث التي تتعارض فيها الأمارات، وجدهم يقدمون الأرجح منها قطعا. فكان ذلك دليلا على وجوب الترجيح. لتضمنه الإجماع. والله أعلم.(1/220)