(( و )) تقليد المجتهد (( الحي أولى من )) تقليد المجتهد (( الميت )). وإن كان يجوز تقليده على الصحيح. وإنما كان أولى للعلم باستمراره على قوله. بخلاف الميت. إذ لا يٌؤمن أنه لو كان حيا لرجع عنه. وأيضا فإن الطريق إلى كماله يكون أقوى من الطريق إلى الميت، في غالب الأحوال. وأيضا فإنه قد خالف في صحة تقليده، بعض مَن قال بالتقليد. بخلاف الحي.
(( و )) كذلك تقليد المجتهد (( الأعلم )). وسواء كان حيا، أم ميتا. (( أولى من )) تقليد المجتهد (( الأورع )). بعد استكمالهما لنصاب الإجتهاد، والعدالة. ولكن أحدهما زاد في العلم، والآخر في الورع. فإن الذي زاد في العلم أولى بأن يُقلد، ممن زاد في الورع. لأن الظن بصحة قوله: أقوى. لقوة معرفته بطرق الحادثة. والله أعلم.
(( والأئمة المشهورون )) بكمال الإجتهاد، والعدالة، من أهل البيت عليهم السلام، وسوءا كانوا ممن قام ودعا، كالقاسم، والهادي عليهما السلام وغيرهما. أم لا، كعلي بن الحسين زين العابدين، والصادق عليهما السلام، وغيرهما. (( أولى )) بأن يقلدوا (( من غيرهم )) من سائر المجتهدين عندنا. وذلك لما بيَّنا آنفا. من أنه يلزم المقلد تحري الأكمل علما وعدالة. وأئمة أهل البيت عليهم السلام هم المختصون بالكمال فيهما. لأن مذهبهم عليهم السلام متضمن للعدل والتوحيد. لما عُلم من نصوصهم بذلك، ومن تخطئتهم المجبرة والمشبهة. إذ لم يُسمع عن أحد من الناس أنه نقل عن واحد من مجتهديهم ما يخالفهما. فهم منزهون عن الرذائل التي رويت عن غيرهم.
منها: إيجاب القدرة لمقدورها. فإنها تستلزم الجبر. من حيث أنه يلزم أن لا يتعلق الفعل بالقادر، ولا ينسب إليه.بل إنما يتعلق بفاعل القدرة. لأنها موجِبَة له، وسبب فيه. وفاعل السبب فاعل المسبب. وهذا قد روي عن النعمان بن ثابت أبي حنيفة. بخلاف من قال: إنها مجوزة له. فإنه لا يلزم ذلك. كما هو مذهب أهل البيت عليهم السلام.(1/211)
ومنها: تجويز الرؤية على الله تعالى يوم القيامة. فإنها تستلزم التشبيه له تعالى بالأجسام، والإعراض. تعالى عن ذلك علوا كبيرا. إذ لا يُرى إلا ما هو جسم، أو عرض. وذلك يستلزم حدوثه تعالى. وهذا قد روي عن محمد بن إدريس الشافعي.
ومنها: المصالح المرسلة. وهي التي لا يشهد لها أصل معين بالإعتبار، ولا بالإلغاء. كما تقدم. وهي مروية عن مالك بن أنس الحميري. وأنه كان له بها لَهَجٌ كثير. حتى أنه نسب إلى إفراط مذموم. وهو: القول بجواز قتل ثلثِ مَن لا يُستباح دمه لبقاء الثلثين. والله أعلم. ومنها: التجسيم لله تعالى. فإنه يروى عن أحمد بن حنبل.
فهذه الرذائل أهل البيت عليهم السلام منزهون عنها. فكانوا أكمل علما، وعدالة. بخلاف غيرهم. فإنه قد روي عنهم شيء منها. كما ذكرنا. وهي تقتضي الإختلال في العلم، والعدالة. وإن كان قد ذكر الإمام المهدي عليه السلام: أن الفقهاء المذكورين منزهون عن تلك الرذائل. لأنها تقتضي اختلالا في الدين. ونحن من إسلامهم على يقين. فلا تنتقل عن هذا اليقين إلا بيقين. ولا يفيد اليقين في مثل ذلك إلا التواتر. ولا تواتر عنهم. سيما الثلاثة _ يعني أبا حنيفة، والشافعي، ومالكا _ لكن قيل في المثل: من يَسمع يَخل.
ومما يدل على أن أهل البيت عليهم السلام أولى بأن يُقلدوا: ما روي فيهم من الآيات القرآنية، والأخبار النبوية، الدآلة على أنهم الفرقة الناجية. كما تقدم بيان ذلك. وتحرير تلك المسالك في آخر باب الإجماع. فليُرجع إليه. والله أعلم.(1/212)
(( والتزام مذهب إمام معين )) في رخَصه وعزائمه، كالهادي، والقاسم عليهما السلام، وغيرهما من مجتهدي أهل البيت عليهم السلام، وكأبي حنيفة، والشافعي، من مجتهدي غيرهم، وسواء كان حيا، أم ميتا (( أولى )) من ترك الإلتزام رأسا. والإعتماد على سؤآل مَن عَرَضَ من العلماء، فيما عَرَضَ من الأحكام (( اتفاقا )) بين العلماء القائلين بالتقليد. وإنما كان أول:ى لبعده عن التهور في الدين، وتتبع الشهوات. كما سيأتي
(( وفي وجوبه )) أي: الإلتزام لمذهب إمام معين (( خلاف )) بين العلماء القائلين بالتقليد.
فمنهم من قال _ وهو المختار _ لا يجب عليه ذلك. بل له أن يقلد هذا في حكم، وهذا في آخر. بدليل وقوع ذلك من الصحابة رضي الله عنهم. فإنه كان العآمي يسأل من صادف منهم، عما عرض له. ولم يُسمع منهم الإنكار على أحد من العآمة بترك الإلتزام لمذهبِ واحدٍ منهم. فاقتضى ذلك الإجماع على جوازه. وإلا لأنكروا. ولو أنكروا لنُقل كما نقل عنهم الإنكار في غير ذلك.
ومنهم من قال: بل يجب عليه ذلك. والله أعلم.
(( وبعد التزام )) المقلد (( مذهب مجتهد )). بأي وجوه الإلتزام الآتية، وسواء كان الإلتزام لمذهبة (( جملة )). أي: في جملة المذهب، بأن ينوي إتباعه في رخصه وعزائمه، (( أو في حكم معيَّنٍ )) فقط. بأن ينوى إتباع المجتهد في ذلك الحكم وحده، أو في أحكام معينة أيضا. فإنه متى حصل ذلك (( يحرم )) على المقلد (( الإنتقال )) حينئذ. (( بحسب ذلك )) الإلتزام. إما جملة، أو في حكم، أو في أحكام معينة. فأي ذلك حصل من المقلد حرم عليه الإنتقال. (( على المختار )).
ومنهم: من جوز ذلك. والصحيح الأول. قياسا على المجتهد.(1/213)
وبيانه: أن المجتهد إذا أداه اجتهاده إلى حكم من الأحكام، بعد أن وفى الإجتهاد حقه، لم يجز له العمل بقول غيره، لغير مرجِّح. كما تقدم. فكذلك: المقلد الذي قد التزم قول إمام. وأراد العمل بقوله، لا يجوز له العمل بقول غيره لغير مرجح. سوى هوى النفس.
فالأصل: المجتهد. والفرع: الملتزم. والحكم: حرمة الإنتقال. والعلة: كونه خروجا عما ثبت عنده لا لمرجح. وهذا قياس قطعي. إذ الأصل مجمع عليه. والعلة: كذلك. وحصولها في الفرع معلوم ضرورة.
قالوا: تصويب المجتهدين اقتضى ذلك. إذ هو انتقال من صواب إلى صواب، لا إلى خطأ.
قلنا: هو مُسلَّمُ. ولكنه يؤدي إلى التهور في الرذائل، والمروق من الدين. ويؤدي أيضا إلى تتبع الشهوات، ورفض العزائم. وهذا مما لا يقول به أحد. (( إلا )) أنه يجوز الإنتقال بعد الإلتزام في صورة واحدة. وذلك: حيث ينتقل المقلد عن مذهب من التزمه (( إلى ترجيح نفسه. إن كان )) ذلك المقلد (( أهلاً للترجيح )). بأن يستوفي طرق الحكم الذي يريد الإنتقال فيه. وهي الأدلة عليه. من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، ودليل العقل. فمتى استوفاها حتى لا يغيب عنه شيء مما يُحتج به عليه. ورجح ما رجح عنده. جاز له الإنتقال حينئذ، إلى ما رجح عنده. بل يجب عليه ذلك. كالمجتهد إذا رجح عنده خلاف الإجتهاد الأول. وأيضا فإنه يصير في ذلك الحكم مجتهدا. فلا يجوز له فيه التقليد،
وهذا مبني على جواز تجزؤ الاجتهاد وتَبَعُّضِه. وقد تقدم بيان ذلك الحكم .
واعلم: أن ثَمَّ وجوهًا أخر، مجوِّزة للإنتقال. غير ما ذكره(1/214)
المصنف. منها: الإنتقال إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام، ممن كان قلد غيرهم، من سائر المجتهدين، فإنه يجوز له الإنتقال إلى مذهبهم. لما ثبت بالأدلة القاطعة، من عصمتهم. وأن متبعيهم الفرقة الناجية. كما بيَّنا فيما مضى. فذلك وجهُ ترجيحٍ فيكون تقليدهم أولى. حتى قيل: لو لا الإجماع على جواز تقليد غيرهم لكان يجب تقليدهم وحدهم. لتلك الأدلة.
ومنها: أن ينكشف للمقلد نقصان من التزم مذهبه عن درجة
الإجتهاد، أو كمال العدالة المشروطة في المجتهد. فإنه يجب على المقلد حينئذ الإنتقال.
ومنها: أن ينكشف له أن ثَمَّ أعلم منه، أو أورع. فإنه أيضا
يجوز له الإنتقال عن مذهبه. لأن المقلد لا يرى الترجيح بين من يقلده من المجتهدين، إلا بالأعلمية، والأورعية. فهذا وجه مجوِّز للإنتقال.
وأما انه يوجبه فلا.
ومنها: أن يفسق المجتهد الذي قد كان المقلد التزم مذهبه. فإنه
أيضا يجب عليه الإنتقال عن مذهبه، فيما تعقب الفسق، من أقواله.لا فيما قبله. إلا أنه ينبغي له أن لا يعتزي إليه فيها. بل إلى موافقه، إن كان ثَمَّ موافق. وإلا وجب عليه الإنتقال فيها أيضا. إذ قد ارتفع خلافه بفسقه. فإن تاب قبل أن ينتقل المقلد، وجب عليه البقاء. والله أعلم.
(( و )) أما ما (( يصير )) به المقلد (( ملتزما ))، فهو يصير كذلك (( بالنية )) فقط. وإن لم يحصل لفظ، أو عمل. بل إذا قد عزم على العمل بقول الإمام صار ملتزما. لأن ذلك هو المفهوم من معنى الإلتزام.
(( وقيل )): بل لا بد (( مع )) النية والعزم من (( لفظ )). بأن يقول: التزمت مذهب المجتهد. مثلا. (( أو عمل )). كأن يعمل بقول المجتهد.
(( وقيل )): بل يصير ملتزما (( بالعمل وحده ))، من دون نية.
قلنا: لا عمل إلا بنية.(1/215)