(( وما يحكى عن الشافعي )) رحمه الله تعالى. هذا جواب عن سؤآل مقدَّر. كأنه قيل: قد حكمتم بأنه لا يصح لعالم قولان.فما تقولون فيما يحكى عن الشافعي؟! فإنه قد حكي عنه أنه قال في أربع عشرة مسألة لي فيها قولان! فأجاب: أنه (( متأول )) بوجوه:
أصحها أنه يعني أن له فيها قولين. قال بأحدهما. ثم قال بضده من بعد. واعتمده والله أعلم.
(( ويُعرف مذهب المجتهد في المسألة )) بأمور:
منها: قوله (( بنصه )) _ أي المجتهد _ (( الصريح ))، على
تلك المسألة. نحو أن يقول: المثلَّث حرام.
(( و )) منها: (( بالعموم الشامل لتلك المسألة )) ولغيرها. نحو
أن يقول: كل مسكر حرام. فيُعلم أنه يحرُم المثلث عنده.
(( و )) منها: (( مماثلة )) تلك المسألة (( ما نص عليه )) من
نظائرها. نحو أن يقول: الشفعة لجار الدكان. فيُعلم أن جار الدار مثله عنده. إذ لا فرق بين الدار والدكان.
(( و )) منها: (( تعليله )) لمسألة (( بعلة توجد في غير ما نص
عليه )). نحو أن يقول: يحرم التفاضل في بيع البر بالبر. للإستواء فيالجنس والتقدير. فيُعلم منه أن مذهبه في الشعير وغيره كذلك.
(( وإن كان )) ذلك المجتهد (( يرى جواز تخصيص العلة ))، فإن ذلك لا يمنعنا من الجزم بثبوت الحكم. حيث وجدت العلة. وأنه مذهبه في ذلك. ولا يلزمنا أن نتوقف حتى نبحث هل هو يقول بتخصيصها في ذلك النظر؟ أم لا ؟ مهما لم يكن منه نص على تخصيصها بذلك المحل. فهذه الأمور هي التي يعرف بها مذهب العالم. فيصح أن نخرج له مذهبا على أيها. والله أعلم.
(( وإذا رجع )) المجتهد (( عن اجتهاد )) كان قد قلده فيه غيره.
(( وجب عليه إيذان مقلده )) برجوعه. حتى يرجع إن كان مؤخرا للعمل بفتواه. أو كان العمل بها في المستقبل مما يتكرر كالصلاة. أو كان مما له حكم مستدام كالنكاح .(1/206)
وأما ما قد فعله وليس مما يتكرر، ولا مما له حكم مستدام.بل قد نفذ فلا حكم لرجوعه فيه. نحو: أن يقلده في شيء من أعمال الحج. ثم يرجع المجتهد بعد أن قد أداه مقلده على اجتهاده الأول، فهذا لا حكم لرجوعه فيه. فلا يجب الإيذان. فتأمل! والله أعلم.
(( وفي جواز تجزؤ الإجتهاد )) في فن دون فن، ومسألة دون أخرى، (( خلاف )) بين العلماء.
فمنهم من قال: يصح. لجواز أن يطلع القاصر عن الإجتهاد الأكبر على أمارات فن أو مسألة، دون فن آخر ومسألة أخرى. فيصير في ذلك مجتهدا. ولا مانع من ذلك.
ومنهم من قال: لا يصح ذلك. بمعنى أنه لا يكمل للإجتهاد الأصغر إلا من كمل للإجتهاد الأكبر. لجواز أن يتوقف شيء من ذلك على مالا يعلمه .
قلنا: ذلك خلاف الفرض. والله أعلم.
(( فصل ))(( والتقليد )) في اللغة:
مشتق من القلادة. كأن المقلد يجعل قول العالم الذي يتبعه فيه، قلادة في عنقه. أو يجعل قوله الذي تبع فيه العالم قلادة في عنق العالم.
وفي الاصطلاح: (( إتباع قول الغير من دون حجة ولا شبهة )). أي: من دون أن يطالب المتَّبِع صاحبَ القول بحجة، ولا شبهة. إذ لو طالب في أيهما لم يكن مقلدا. فحينئذ المقلد: هو المتبع للغير. سواء كان ناويا للعمل بقوله، أم لا .
وأما المستفتى: فهو من لم ينو العمل بقول عالم. وإنما يَعتمد على السؤآل. وسواء عمل، أم لا .
وأما الملتزِم: فهو من نوى العمل بقول عالم في مسألة أو اكثر، مستمرا. وسواء عمل، أم لا .(1/207)
(( و )) اعلم (( أنه لا يجوز التقليد في )) علم (( الأصول )). سواء كان من أصول الدين، كمعرفة الباري تعالى وقدمه، ومعرفة صفاته وأسمائه، ومعرفة النبوات وما يتعلق بها، والوعد والوعيد. أو من أصول الفقه. أو من أصول الشريعة. التي هي: الصلاة، والصوم، والحج، ونحوها. لما تقرر أن الحق فيها مع واحد، والمخالف مخطٍ آثم. فلا يأمن المقلد أن يكون من قلده مخطئا. فيكون على ضلالة في دينه، ويكون هالكا. لهذا حث الله تعالى على النظر والتفكر. فقال:{ويتفكرون في خلق السموات …}الآية. { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت }. وغير ذلك في القرآن كثير.
واحتج تعالى على الكفار في جميع القرآن، وذمهم على تقليدهم الأباء. في قولهم { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على أثارهم مقتدون }.
(( ولا )) يجوز أيضا التقليد (( في العلميات )). وإن كانت من الفروع. وذلك كمسألة الشفعة، وفسق من خالف الإجماع.
وسميت علمية. لأنها لم تتعلق بها كيفية عمل.
وفرعية لابتنائها على غيرها. لأن المسائل المأخوذة من الأدلة، إما أن لا تتعلق بها كيفية عمل.
وتسمى اعتقادية علمية. وذلك كقولنا: الباري تعالى سميع بصير. لأن الغرض منها مجرد اعتقاد لا عمل.
وتسمى أصلية أيضا. لإبتناء العمليات عليها .
وإما أن تتعلق بها كيفية عمل،
وتسمى عملية. كقولنا: الوتر مندوب. إذ المقصود منها: الأعمال. وفرعية لإبتنائها على الإعتقادية. ولتعلقها بالعمل الذي هو فرع على العلم. وهذه يجوز التقليد فيها. كما سيأتي.(1/208)
(( ولا )) يجوز أيضا التقليد (( فيما يترتب عليها )). أي: على العلميات. وذلك كالموآلاة للمؤمن. وحقيقتها: أن تحب له كلما تحب لنفسك، وتكره له كلما تكره لها. ومن ذلك: تعظيمه، واحترام دمه، وماله، وعرضه. فذلك وإن كان عمليا، فلا يجوز التقليد فيه. لترتبه على أمر علمي وهو الإيمان. وكذلك المعاداة. وهي نقيض الموالاة. فهذه الأمور المتقدمة لا يجوز التقليد فيها، ولا العمل بالظن. بل لا بد من العلم اليقين عن الدليل الدآل عليها. والله أعلم.
(( ويجب )) التقليد من غير شرط (( في العملية المحضة )). أي: التي لا تَعَلُّق لها بالعلم. وذلك بدليل قوله تعالى:{ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }. فقيد تعالى الأمر بالعلة التي هي عدم العلم. فيتكرر بتكررها. فكلما تحقق عدم العلم، تحقق وجوب السؤآل. فتأمل! والله أعلم.
ومنهم من قال: إنه إنما يجب عليه التقليد بشرط أن يسأل العالم لينبهه على طريق الحكم، ويبين له صحة اجتهاده بدليله. والمختار أنه يجب عليه التقليد بغير شرط في العملية المحضة. وسواء في ذلك (( الظنية )) _ وهي التي دليلها يثمر الظن. كمسائل الخلاف من الفروع _
(( والقطعية )). وهي التي دليلها يثمر القطع. كوجوب الوضوء، بقوله تعالى:{ إذا قمتم إلى الصلاة }. وكتحريم الربا في الأشياء الستة. الثابت بالنص منه صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنهم من قال: إنما يجب ذلك في الظنية فقط. وأما القطعية فلا. والصحيح ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى من وجوبه مطلقا. والدليل على ذلك: أن العلماء رحمهم الله تعالى، لم يزالوا يُستفتون في المسائل القطعية والظنية، فيُفتون ويُتبعون في ذلك، من دون تفرقة بين معلوم ومظنون. ولا إبداء مستند. وشاع ذلك عنهم وذاع وتكرر. ولم ينكر عليهم أحد. فكان إجماعا على ما ذهبنا إليه، من اللزوم من غير شرط، واقتضاء التعميم أيضا. فثبت ما قلنا. وبطل ما قاله الخصم. والله الموفق.(1/209)
وإنما يجب التقليد فيما ذكر (( على غير المجتهد )). سواء كان عآميا صِرفا، أو عارفا بطرف صالح من علم الإجتهاد. لا المجتهد فلا يجوز له التقليد. كما تقدم.
(( و )) يجب (( على المقلد البحث عن كمال من يقلده )). إذا جهل حاله (( في علمه وعدالته )). وذلك لأنه يُشترط في المقلد.
وصلاحيته للتقليد: العلم والعدالة. ولا طريق إليهما مع جهل الحال إلا البحث. فيجب عليه ، حتى يعلم هل هو جامع للإجتهاد والعدالة، فيقلده؟ أو لا؟ فلا يقلده.
(( ويكفيه )) أي: المقلد عن البحث في جواز تقليد من أراد تقليده
(( انتصابه )). أي: المقلد (( في بلدِ )) إمامٍ (( محقٍ لا يجيز تقليد كافر التأويل )) _ وهو المجبر والمشبه _ (( وفاسقه )) _ وهو الباغي على إمام الحق. وإنما اشتُرِط ذلك: لأنه مهما لم يكن انتصابه كذلك، لم يأمن المستفتى الذي يَحرم عنده تقليد فاسق التأويل وكافره، أن يكون هذا المنتصب فاسق تأويل أو كافره عنده. فلا يجوز الأخذ عنه. إذ لا يحصل ظنٌ بصلاحيته حينئذ. فإما إذا كان انتصابه في البلد المذكور، فإنه يغلب في الظن أنه ليس كذلك.
نعم: وهذا إذا كان المقلد مُغرِبا عن حال المفتى. لا إن كان مختبرا له، وعارفا بصلاحيته. فإنه يجوز له التقليد، والأخذ عنه. وإن لم يكن كذلك. والله أعلم.
(( و )) يلزم المقلد (( أن يتحرى الأكمل )) من المجتهدين في العلم، والورع. من علماء بلده، وغيرهم. وذلك: لأن أقوال المجتهدين بالنسبة إلى المقلد، كالأدلة بالنسبة إلى المجتهد إذا تعارضت. فكما لا يجوز للمجتهد إذا تعارضت الأدلة أن يصير إلى أيها تحكما. بل لا بد من مرجِّح. كذلك المقلد. والترجيح في حقه إنما يكون بالأكملية في العلم، والورع. فيلزمه تحري ذلك، ليقوى الظن بصحة قوله .(1/210)