أو لا يريد منا تيقن إصابة الظن المطابق لمراده تعالى. وإنما يريد منا ظن إصابته. سواء أصبناه، أو لم نصبه. لزم من ذلك أن يكون مراده تعالى منا إنما هو ما أدى إليه اجتهادنا. ولا مراد له منا سوى ذلك. لأن إرادة ما سواه إن تعلق بها تكليفنا أي كنا مكلفين بذلك، فهو تكليف ما لا يطاق. من حيث أنه أراد منا ظن إصابة الظن المطابق لمراده تعالى. وهذا يلزم منه أن مراده منا ما أدانا إليه الاجتهاد. وهو يريد منا سوى ذلك. وإن أراد منا سوى ما أدانا إليه اجتهادنا. ولم يتعلق به تكليفنا، فإرادته عبث. وهو قبيح. والله تبارك وتعالى يتنزه عن ذلك. وهذا أيضا باطل كما ترى. فبطل بما ذُكِر أن يكون مراد الله في تلك المسائل متعينا في علمه تعالى.
وأما إذا لم يكن له منا تعالى في تلك الأحكام التي لا دليل عليها قاطع مراد معين.
فإما أن يكون علينا فيها تكليف؟ أو لا ؟!
إن لم يكن علينا فيها تكليف، فلا إشكال. وهو خلاف الفرض. لأن الفرض أنا مكلفون بها. وإن كان علينا فيها تكليف أراده منا. فإما أن ينصب لنا أمارات، ويأمرنا بالعمل بما أدتنا تلك الأمارات إليه من الظنون؟ أو لا؟!
إن لم ينصب كان التكليف بالعمل بها حينئذ تكليف ما لا يطاق.
وإن نصب فالعامل بما أدى إليه اجتهاده حينئذ قد أصاب مراد الله تعالى. إذ قد عمل بمقتضى الأمارة، التي نصبها تعالى. وليس له تعالى فيها مراد متعين. وذلك واضح لا إشكال فيه. فيلزم من ذلك أن يكون كل مجتهد مصيبا. لأنه قد فعل مراد الله تعالى، من غير شك. فهذا هو الدليل العقلي على: أن كل مجتهد في المسائل الظنية العملية مصيب. ذكر معناه الإمام المهدي عليه السلام، في المنهاج.
قال عليه السلام: وهو دليل قاطع لا غبار عليه، مبني على القول بالعدل والحكمة. وهو واضح المسالك.
وأما الدليل النقلي: فمِن ذلك قوله تعالى: { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله }.(1/201)
ووجه الإستدلال بها: أنها نزلت في رجلين من الصحابة، في حال حصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبني قريظة. كان أحدهما يجتهد في إفساد نخليهم وقطعها. والآخر يجتهد في تقويمها وتصليحها. فبلغه صلى الله عليه وآله وسلم خبرهما. فاستحضرهما فسألهما عن شأنهما، في ذلك؟
فقال الذي كان يُفسدها: أما أنا يا رسول الله فخشيت أن لا يحصل الإستيلاء عليهم. وأردت أن لا ينتفعوا بها، إن بقوا.
وقال الآخر: وأنا وثقت من الله تعالى بالنصر لرسوله، وتمكينه منهم، فتبقى أرضهم فيئًا للمسلمين، ينتفعون بها. فجعلت أصلحها لذلك.
فتوقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في تصويب أيهما. حتى نزلت الآية مصرَّحا فيها بأنه أراد من كل واحد منهما ما أداه إليه نظره. لقوله تعالى: { فبإذن الله }. ولا أذن منه تعالى في تلك الحال إلا الإرادة. فكذا حال المجتهدين في المسائل الظنية.
قلت: ومما يدل على الإصابة أيضا قوله تعالى في قصة موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، حيث قال حاكيا:{ ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني، أفعصيت أمري ؟}. فقال هارون عليه السلام:{ إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرآئيل ولم ترقب قولي}.
ووجه الإستدلال بها: أنه أخبر هارون عليه السلام أن عدم اتباعه لأخيه كان عن اجتهاد. وهو أنه ظن أنه إن اتبع أخاه لأمه على مفارقة بني إسرائيل لا عن وحي، بدليل قوله: {إني خشيت}.إذ الخشية: عبارة عن الظن. ولم يعترضه موسى عليه السلام. بل قَبِل ذلك منه، وصوبه وقرره. فدل ذلك على أنه مصيب في اجتهاده. وأن كل مجتهد مصيب. فتأمل!(1/202)
ومما يدل على الإصابة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( أصحابي النجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ). فدل ذلك على أن كل مجتهد منهم مصيب. إذ لو كان الحق مع واحد، وغيره مخطٍ في اجتهاده لم يكن في متابعته هدى. إذ الهدى إنما يكون في متابعة المحق، دون المخطئ. وقد جعل صلى الله عليه وآله وسلم الهدى في متابعة أيهم كان. واختلافهم في المسائل الظنية معلوم. فدل ذلك على إصابتهم جميعا فيها. وذلك واضح كما ترى. فهذه الأدلة التي ذكرناها هي أقوى ما يُستدل به على الإصابة. لظهورها في ذلك. وقد يُستدل بغيرها لكن يمكن الجواب عليها بأدنى نظر. فتركناها لعدم الحاجة إليها، وخشية التطويل بذكرها لغير فائدة. والله أعلم.
(( و )) المختار عند الجمهور أيضا: (( أنه )) _ أي الشأن _ (( لا يلزم المجتهد )) إذا كان قد اجتهد في حادثة ووفَّى الإجتهاد حقه، فأداه نظره فيها إلى الحكم، فإنه لا يلزمه حينئذ (( تكرار النظر )) في وجه الإستنباط، (( لتكرر الحادثة )) بعينها. بل يكفيه النظر إلى الأول فيها. إذا كان ذاكرا لما مضى من طرق الإجتهاد. وما قضى بها رأيه فيها. فيفتي به إذ قد اجتهد فيها الإجتهاد الأول. وإن جوزنا ما يقضي ببطلانه. لكن الأصل عدمه. وأيضا لو وجب التكرار لذلك التجويز، لوجب تكرار النظر أبدا. وإن لم تتكرر الواقعة. لأن تجويز ما يقضي بالتغيير محتمل أبدا، غير مقيد بتكرار الواقعة. والإتفاق على بطلانه. والله أعلم.
فإن نسي ذلك، لزم استئناف الإجتهاد. فإن تغير اجتهاده لزمه العمل بالثاني.
(( و )) المختار عند جمهور العلماء: (( أنه )) أي: المجتهد إذا استدل بدليل، (( يجب عليه البحث عن الناسخ )) لذلك الدليل. هل هو موجود ؟أم لا ؟.(1/203)
(( و )) كذلك (( المخصص له حتى يُعلم عدمهما )). أي: الناسخ والمخصص. _ يعني _ أن المجتهد إذا أراد أن يستدل بدليل فإن كان نصا في المقصود، أو ظاهرا فيه، لم يستدل به حتى يعلم أو يظن أنه غير منسوخ ولا متأول بتأويل يخالف ظاهره. وإن كان عآما فلا بد أيضا أن يعلم، أو يظن هل هو مخصص؟ أم غير مخصص ؟ وقد روي عن الصيرفي: أن ذلك لا يجب. وقد تقدم في باب العموم استيفاء الكلام في بيان هذه المسألة، وتحقيق كلام الصيرفي. فليرجع إليه. واعلم: أنه لايجب عليه البحث، إلا في كتاب مما قد ظهر تصحيحه، كأحد الصحاح المشهورة، أو ما رواه علماء أهل البيت عليهم السلام، في الكتب التي قد صحت عنهم.
وأما أنه يجب عليه استيفاء جميع الأخبار الواردة عنه صلى الله عليه وآله وسلم، واستقصاؤهما فلا. لتعذر ذلك. لكثرة الرواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم، والرواة. حتى خرجت عن حد الضبط. فتأمل ذلك! موفقا إن شاء الله تعالى.
(( و )) المختار أيضا عند أكثر العلماء: (( أنه لا يجوز له )) أي: المجتهد (( تقليد غيره )) من العلماء، في شيء من الأحكام الشرعية. (( مع تمكنه من الإجتهاد )). لأنه إنما يُكلف بظنه. ولا شك أن المجتهد يجد الطريق إلى الظن. فليس له العمل بغير ظنه. وهو ظن من يقلده. ولو كان ذلك في بعض المسائل، على القول بتجزؤ الإجتهاد والله أعلم.
(( ولو )) كان ذلك الغير (( أعلم منه )).
ومنهم من ذهب إلى: جواز تقليد الأعلم. (( ولو )) كان الأعلم منه (( صحابيا )) أيضا.
ومنهم من قال: يجوز تقليد الصحابي. ولو لم يكن أعلم. والحجة لنا: ما مر آنفا.
(( و )) لا يجوز له التقليد أيضا (( فيما يخصه )).
ومنهم من قال: يجوز فيما يخصه، دون ما يفتى به.
نعم: هذا الخلاف إنما هو قبل أن يجتهد في الحكم، وأما بعده فإنه
(( يحرم )) عليه أن يقلد، (( بعد أن )) قد (( اجتهد اتفاقا )) بين العلماء.(1/204)
(( وإذا تعارضت )) على المجتهد (( الأمارات )) في حكم، (( رجع إلى الترجيح )) بينهما. فيعمل بما ظهر له فيها. من أي وجوه الترجيح الآتية إن شاء الله تعالى.
(( فإن لم يظهر له رجحان )). فقد اختلف العلماء في ذلك:
(( فقيل )) أي: قال أبو علي، وأبو هاشم: أن المجتهد (( يُخَيَّر حينئذ )). بمعنى: أن له أن يعمل بأيها شاء.
(( وقيل )) أي: قال ابن أبان: بل يجب عليه أن (( يقلد أعلم منه )) في جميع العلوم، أو في ذلك الفن التي تلك الحادثة فيه. يعني أنه إذا روى أحد المتعارضين أعلم ممن روى الآخر، فإنه يعدل إلى رواية الأعلم. لأن رواية الأعلم من المرجحات. لأن العلوم على اختلافها تزكي الفطن العقلية. فأكثر الناس علما أثبتهم عقلا، وأجودهم ضبطا لما يروي.
(( وقيل )) والقائل أبو طالب عليه السلام، وأكثر الفقهاء: بل إذا لم يظهر له مرجِّح فإنه يجب عليه أن يطرحهما، لأنهما صارا بالتعارض كأنهما لم يوجدا. وحينئذ (( يرجع )): إما إلى غيرهما من أدلة الشرع، إن وجد. وإلا رجع (( إلى حكم العقل )). فيعمل بمقتضاه في ذلك الحكم. ورجَّح هذا القول الإمام المهدي عليه السلام .
(( و )) اعلم: أنه (( لا يصح لمجتهد قولان متناقضان في )) حادثة واحدة، في (( وقت واحد )). بمعنى: أنه لا يصح له أن يقول في وقت واحد بتحليل أمر وتحريمه. أو ندبه وإباحته. بالنسبة إلى شخص واحد. لتعذر اجتماع النقيضين في حكم واحد. ولأنه إن تعادل دليلاهما وجب الوقف. وإن ترجح دليل أحدهما فهو قوله. فيتعين. قولنا: لمجتهد. احتراز من الأكثر، لكثرة تناقض أقوال المجتهدين. وقولنا: في حادثة واحدة. لأنه لا تناقض عند تعدد الحوادث. وقولنا: في وقت واحد. للقطع بجواز تغير الإجتهاد. وقولنا: بالنسبة إلى شخص واحد. لأنه لا تناقض في التحليل لزيد، والتحريم لعمر. وعند تعادل الأمارتين عند من يقول بالتخيير. فيصح أن يفتي بهما في وقت، لشخصين. ولا تناقض.(1/205)