2_ (( والأصول )). والمراد بها: أصول الفقه، دون أصول الدين. لأنه لا يسمى علم الأصول مطلقا إلا أصول الفقه. ويسمى أصول الدين: علم الكلام. كما هو محقق في البسيطة. وذلك لأن علم الأصول مشتمل على: معرفة حكم العموم والخصوص، والمجمل والمبين، وشروط النسخ، ما يصح نسخه، وما لا يصح، وما يقتضيه الأمر والنهي، من الوجوب والحظر، والفور، والتراخي، والتكرار، وغيرها. ومعرفة الإجماع والقياس، وشروطه صحيحها وفاسدها، مع ما ضم إلى هذه من معرفة المفاهيم، والترجيحات، والحقيقة والمجاز، وغيرها. فلا يمكن استنباط الأحكام إلا بمعرفة هذه الأمور.
وأما فروع الفقه التي ولَّدها المجتهدون بعد اتصافهم بالإجتهاد، فليست بشرط. لأنها نتيجة الإجتهاد. فلا تكون شرطا له، وإلا لزم توقف الأصل على الفرع. وهو دَورٌ.
نعم: يشترط أن يعرف منها مسائل الإجماع كما سيأتي. وأما غيرها فإنها ليست من كمال الإجتهاد كما ذكرنا. لكن يشترط في المجتهد: أن يكثر معرفته فيها لحاجة الناس إليها. والله أعلم.
3_ (( والكتاب )) وهو: كتاب الله تعالى. ولا يشترط معرفة جميعه، كما زعم بعضهم.بل المشترط أن يعرف منه الآيات المتعلقة
بالأحكام. أي: التي تؤخذ الأحكام من ظواهرها، وصرائحها. وقد قُدِّرت خمسمائة آية. ولا يُشترط حفظها غيبا. بل يكفي أن يكون عارفا بمواضعها من السور، حتى يرجع إليه في وقت الحاجة، من دون أن يمضي على القرآن جميعا. وقد أفرد لها كثير من العلماء كتبا مستقلة، في تعيينها، وبيان معانيها، وما يؤخذ منها من الأحكام.
4_ (( والسنة )). أي: سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولا يشترط فيها أيضا الحفظ غيبا _ وإن كان أحسن _ فيكفيه كتاب مصحَّح، جامع لأكثر ما ورد في الأحكام. ويعرف موضع كل باب، بحيث يتمكن من الرجوع إليها. وذلك مثل: كتاب الشفاء للأمير الحسين. وأصول الأحكام للإمام المتوكل احمد بن سليمان. وأمالي أحمد بن عيسى. وكتاب السنن لأبي دواد.(1/196)
وقد قيل: إن عدد الأحاديث التي يحتاج إليها ألف ألف حديث.
وقد قيل: سبعمائة حديث.
5_ (( ومسائل الإجماع )). أي: المسائل التي وقع عليها الإجماع من الصحابة والتابعين، وغيرهم، من مجتهدي هذه الأُمة. وهي قليلة جدا.
قيل: سبعة عشر مسألة. وإنما اشترط معرفتها ليعلم أن ما أدى إليه اجتهاده ليس مخالفا للإجماع. بأن يعلم أنه موافق لمذهب، أو واقعة متجددة لا خوض فيها لأهل الإجماع.
فهذه علوم الإجتهاد على الصحيح. وقد اشترط غيره ذلك.
منها: حال الرواة للأدلة.
قيل: لا بد من معرفة حالهم في القوة والضعف، ومعرفة الجرح
والتعديل. وهذه ليست بشرط، إلا عند من لم يقبل المراسيل. وأما من يقبلها فالمعتبر عنده صحة الرواية عن المصنف، ثم العهدة عليه.
ومنها: علم أصول الدين.
فقيل: ليس بشرط لإمكان استفادة الأحكام من أدلتها لمن جزم، بحَقِّية الإسلام، على سبيل التقليد.
وقيل: بل هي شرط. لتوقف الإستدلال بالسمعيات على ثبوت الباري، وصدق المبلغ. ولا يُعرف ذلك إلا به.
قيل: وهذا في التحقيق من لوازم منصب الاجتهاد وتوابعه. لا من مقدماته، وشرائطه.
(( والمختار )) عند المحققين (( جواز تبعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإجتهاد )) فيما لا نص فيه (( عقلا )). فإنه لا مانع من جوازه.
ومنهم: من منع من ذلك. واحتج بأنه لو جاز ذلك لجازت مخالفته، كسائر المجتهدين. لأن جواز المخالفة من لوازم أحكام الإجتهاد. والإجماع منعقد على المنع من مخالفته. والجواب عن ذلك: أن قياسه على سائر المجتهدين قياس مع وجود الفارق. إذ الفارق بينهما أن الله أوجب علينا إتباع قول رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، صدر عن وحي، أو عن اجتهاد. بخلاف غيره.
وأما وقوع الإجتهاد منه فقد اختلف فيه:
فمنهم من قال: لم يقع.
ومنهم من قال: بل قد وقع.(1/197)
ومنهم من قال: _ وهو المختار _ (( إنه لا قطع بوقوع ذلك )). أي: الإجتهاد منه صلى الله عليه وآله وسلم. (( ولا انتفائه )). لعدم الدليل عليهما. وهذا في الأمور الدينية. وأما الدنيوية، وفي الآراء، والحروب، فإنه قد دل الدليل على وقوعه.
من ذلك: أذنه للمتخلفين بالتخلف. فإنه كان عن اجتهاد. بدليل أنه عوتب عليه في قوله تعالى: { عفا الله عنكَ لِمَ أذنت لهم }. إذ لا يعاتب على ما كان بالوحي. وكما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم في بدر أحط في موضع عن رأيه. بدليل أنه سُئِل: هل ذلك عن رأي أو عن وحي؟ فروجع فانتقل. والقصة مستوفاة في سيرة ابن هشام. وغير ذلك من الوقائع كثي.ر كما في كتب السِّيَر.
فأما ما عدى ذلك من أمور الدين فلا دليل على وقوع الإجتهاد فيه. والأصل عدمه.
[ فائدتان في الاجتهاد ]
على القول بوقوع الإجتهاد منه صلى الله عليه وآله وسلم:
الأولى: إذا اجتهد صلى الله عليه وآله وسلم في أمر هل يجوز أن يخطئ فيه؟
قيل: لا. والأوجَب اتباعه فيه.
وقيل: يجوز. بشرط أن لا يقر عليه.
قلنا: إذا قلنا بوقوعه، فلا خطأ قطعا. إذ المطلوب من المجتهد ما أدى إليه ظنه. لا غير ذلك، فلا خطأ حينئذ مع توفية الإجتهاد حقه. فتأمل.
الثانية: إذا اجتهد صلى الله عليه وآله وسلم فقاس فرعا على أصل، فإنه يجوز القياس على هذا الفرع. لأنه صار أصلا بالنص. وكذا إذا أجمعت الأُمة على ذلك. ذكره بعضهم.
(( و )) المختار أيضا أنه يصح الإجتهاد في عهده صلى الله عليه وآله وسلم. و(( أنه قد وقع )) ممن عاصره (( في غَيبته )) صلى الله عليه وآله وسلم. بدليل: خبر معاذ رضي الله عنه، حين وجَّهَه صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن، حيث قال: ( اجتهد رأيي. وأَقَرَّه ) .(1/198)
(( و )) في (( حضرته )) أيضا صلى الله عليهوآله وسلم. كقول أبي بكر يوم حنين فيمن سلب قتيل غيره: لاها الله إذًا يعمد إلى أسد من أُسد الله يقاتل عن الله ورسوله، فيعطيك سلبه! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: صدق. وكحكم سعد بن معاذ في بني قريظة في حضرته صلى الله عليه وآله وسلم: بقتلهم وسبي ذراريهم. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ( لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ) .
(( و )) المختار أيضا (( أن الحق في )) المسائل (( القطعيات )) _ وهي: التي تكليفنا متعلق فيها بالعلم اليقين، ولا يكفي فيها الدليل الظني، بل لا بد من القطعي، وهي المسائل العقلية الكلامية _ (( مع واحد والمخالف مُخطٍ آثم )). سواء اجتهد، أولم يجتهد. يعني الحق فيها مع واحد. فمن أصابه فقد أصاب الحق، ومن أخطأه فقد أخطأ. فإن كان فيما يرجع إلى الله ورسوله فكفر. وإلا فابتداع.
(( فأما )) المسائل (( الظنية )). أي: التي تكليفنا متعلق فيها بالظن. ولا يُحتاج فيها إلى دليل قطعي، بل دليلها ظني. (( العملية )) أي: التي المطلوب فيها العمل دون الإعتقاد.(( فكل مجتهد فيها مصيب )). أي: لا حكم لله تعالى معين فيها قبل الاجتهاد. وإنما المطلوب من كلٍ ما أداه إليه نظره. فمراد الله تعالى وحكمه فيها تابع للظن. لا أن الظن تابع لمراده تعالى. فما ظنَّه فيها كل مجتهد فهو حكم لله تعالى فيها. في حقه وفي حق مقلده. والدليل على أن ما ذكر هو المختار في الطرفين جميعا:
أما الطرف الأول: _ أعني _ كون الحق في القطعية مع واحد. فالدليل على ذلك: أنا لو قلنا: كل مجتهد مصيب. وأن الحق فيها ليس واحدا، لأدى ذلك إلى الحكم بإجتماع النقيضين. وهو محال. كما إذا قلنا بصحة قول من يقول بحدوث العالم، وقول من يقول بقدمه. لحكمنا بصحة الحدوث والقدم، وإجتماعهما. وهو محال. ونظائر ذلك كثيرة.
وأما الطرف الثاني: فيدل عليه أمران:
عقلي.
ونقلي.(1/199)
أما النقلي فتحريره أن يقال: كل مسألة من الأحكام العملية وغيرها، نحن مكلفون بها. ولا دليل عليها قاطع، لا يخلو: إما أن يكون مراد الله تعالى منا فيها متعينا في علمه؟ أولا؟! ولا قسم ثالث .
إن كان الأول _ أعني _ أن مراد الله تعالى متعين. فلا يخلو أيضا:
إما أن يكون المطلوب منا في معرفته _ أي مراده تعالى _ الوصول إلى العلم اليقين؟ أولا؟! ولا ثالث.
الأول باطل. _ أعني أن يكون المطلوب منا الوصول إلى العلم اليقين_ لتضمنه تكليف ما لا يطاق. إذ المفروض أن لا دليل عليها قاطع. فلا يكون ثَمَّ طريق موصل إلى العلم. إذ الموصل إليه هو القاطع.والمفروض عدمه.
وإن كان الثاني. _ أعني ليس المطلوب منا في معرفته الوصول إلى العلم اليقي، ن بل الظن فقط _ فلا يخلو:
إما أن ينصب لنا أمارة تثمر الظن المتعلق بما أراده تعالى منا فيها؟ أولا؟!
إن كان الثاني _ أعني لم ينصب لنا أمارة كذلك _ فباطل أيضا. لأنه إما أن لا يكون له منا فيها مراد، نحن مكلفون به. فهو خلاف الفرض. إذ المفروض أنا مكلفون بها. وإن كان له منا مراد فيها، ولا دلالة عليه، ولا أمارة له، فتكليفنا بمراده تعالى بعينه تكليف بما لا يطاق. وذلك واضح.
وإن نصب لنا أمارة تثمر الظن فقط بمراده، في ذلك. فلا يخلو:
إما أن يريد منا تيقن إصابة الظن المطابق لمراده تعالى المتعين ؟ أولا؟! إن أراد منا ذلك، أدى إلى أحد باطلين. لأنه إما أن يريد منا تيقن إصابة الظن المطابق لمراده تعالى، لزم أن يكون عليه دليل قاطع. حتى يحصل التيقن. وذلك يستلزم كون ذلك الظن علما. لِعِلمنا مطابقته لمتعلقه. وهذه هي حقيقة العلم. كما تقدم في صدر الكتاب. وهذا باطل. لأن الظن غير العلم قطعا.(1/200)