ومنهم من قال: بل ذلك نسخ. لأنه يخرج بزيادة صلاة سادسة مثلا، الوسطى عن كونها وسطى. فيبطل وجوب المحافظة عليها، وذلك حكم شرعي.
والجواب: أنه لا يبطل وجوب ما صدق عليها أنها وسطى. وإنما يبطل كونها وسطى، وليس حكما شرعيا. وكذا لو خُيِّر المكلف بين شيئين، أو ثلاثة؟ ثم زِيدَ عليها واحد. فإن تلك الزيادة نسخ. على الصحيح. مثاله: تخيير المكلف في خصال الكفارة بين ثلاثة أشياء: العتق، والكسوة، والإطعام. فإنه يقتضى تحريم الإخلال بها. فلو زِيدَ عليها رابع كالصوم مثلا، كان نسخا. لأنه رفع تحريم الإخلال بالثلاث. وهو حكم شرعي. والله أعلم.
((والنقص منها )) أي:من العبادة. سواء كان جزءاً أو شرطا (( نسخ للساقط )) من الجزاء والشرط، (( اتفاقا )). (( ولا )) يكون نسخا (( للجميع )) من العبادة (( على المختار )). إذ لم يرفع حكما شرعيا. لأنه لم يرفع وجوبها ولا إجزاؤها. فلو نقص ركعةً من أربع، أو شرطا منها، بقيت على الوجوب، من غير دليل ثان. ولو كان نسخا، لافتقرت إلى دليل آخر. وهو باطل بالإتفاق.
(( ولا يصح نسخ الإجماع )). وذلك برفع الحكم الثابت به. لأنه لو نُسخ فإما بنص قاطع، أو بإجماع قاطع، أو بغيرهما، وكل ذلك باطل.
أما الأول: فلأنه يلزم أن يكون الإجماع على الخطأ. لأنه على خلاف القاطع. وهو محال .
وأما الثاني: فلأنه يلزم منه خطأ أحد الإجماعين، المنسوخ أو الناسخ.لأنه على خلاف القاطع.
وأما الثالث: فلأنه أبعد مما قبله. للإجماع على تقديم القاطع على غيره. فيلزم خطأ هذا الإجماع. مع تقديم الأضعف على الأقوى. وهو خلاف المعقول .
(( و )) كذلك (( لا )) يصح نسخ (( القياس )). بأن يرفع حكم الفرع، مع بقاء حكم الأصل .
قال المصنف: (( إجماعا )). يعني في كلا الطرفين. والظاهر أن هذا إنما هو قول الأكثر. وأن الخلاف ثابت في كلا الطرفي.ن كما هو مذكور في بسائط هذا الفن. والله أعلم.(1/191)


(( ولا )) يصخ (( النسخ بهما )). أي: بالإجماع والقياس غيرهما من الأدلة. كما أنهما لا يُنسخان. (( على )) القول (( المختار )) .
أما الإجماع فإنما لم ينسخ به لأمرين :
الأول : أنا إنما تُعُبِّدنَا به بعده صلى الله عليه وآله وسلم، ولا نسخ بعده. لأن النسخ إنما يراد لتغيير المصلحة، ولا هداية للمكلفين إلى ذلك .
والثاني: أن الإجماع لا يخلو إما أن يكون عن نص، أو عن غيره. إن كان عن نص فهو الناسخ، لا الإجماع. وإن كان عن غيره، فإن كان الأول _ أي المنسوخ بالإجماع _ قطعيا، لزم الإجماع على الخطأ. وهو باطل كما مر. وإن كان ظنيا لم يبق مع الإجماع دليلا. لأن شرط العلم به رجحانه، وإفادته الظن. وقد انتفى بمعارضة القاطع له، وهو الإجماع. فلا يثبت له حكم. فلا يُتصور النسخ فتأمل!
وأما القياس فكذلك: لا ينسخ به سواء كان جليا أو خفيا. لأمرين :
الأول: إجماع الصحابة على رفضه عند وجود النص. وهذا ظاهر في عدم النسخ به .
والثاني: خبر معاذ رضي الله عنه، فإنه قدَّم فيه النص على القياس. وهذا يدل على وجوب تقديم النص عليه. وأنه لا عبرة به مع وجود النص، خالفه أو وافقه. فلو نُسخ بالقياس لكان مخالفا لذلك. والله أعلم.
(( و )) لا يصح _ على المختار _ نسخ (( متواتر بآحادي )). وذلك لأن المتواتر قطعي، والآحادي ظني، والمظنون لا يقابل القاطع.
هذا: واعلم أن عدم جواز النسخ بالقياس والإجماع، وكذا عدم جواز نسخ المتواتر بالآحادي، إنما هو عند من فرق بين التخصيص، والنسخ. وقال إن التخصيص بيان. وجمع بين الدليلين. والنسخ إبطال، ورفع لأحدهما .
وأما من لم يفرق بينهما، وحكم بأن النسخ بيان لا رفع، وجعله نوعا من التخصيص، خاصا بالأزمان، بخلاف غيره، فإنه يكون في الأعيان والأزمان، فإنه يُجَوِّز النسخ بالإجماع والقياس. كما يجوز التخصيص بهما، ويجوز نسخ المتواتر بالآحادي.(1/192)


وجواباتهم عما استدل به المانعون مذكورة في المطولات. وهي قوية جدا. والله أعلم.
(( وطريقنا إلى العلم بالنسخ )). اعلم أن لمعرفة الناسخ والمنسوخ طرقا، منها صحيحة، ومنها فاسدة .
والصحيحة منها: أدلة يعمل بها في المعلوم والمظنون.
ومنها: أمارات يعلم بها في المظنون فقط.
أما القسم الأول من الطرق الصحيحة فهو: (( إما النص )) الصادر (( من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو من أهل الإجماع )) الذين هم جميع الأمة، الذين ينعقد بهم الإجماع، أو عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم _ عند من جعل إجماعهم حجة _ ويكون ذلك النص الصادر ممن ذكر إما (( صريحا )). نحو أن يقول أَيُّ هؤلاء: نُسخ هذا بهذا. أو هذا ناسخ، وهذا منسوخ.
(( أو غير صريح )). بأن ذكر ما هو في معنى الصريح. نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ). ( كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأصاحي إلا فادخروها ). وقوله تعالى:{ الآن خفف الله عنكم } بعد قوله:{ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مأتين، وإن تكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا}.
فهذان الطريقان دليلان يُعلم بهما في المعلوم والمظنون .
والقسم الثاني من الطرق الأُوَل بيَّنه بقوله: (( وإما إمارة )). ويشترط فيها أن تكون (( قوية )) بحيث يحصل بها الظن بتعيين الناسخ من المنسوخ. وذلك: (( كتعارض الخبرين من كل وجه، مع معرفة المتأخر )) منها. (( بنقل )) من أحد الصحابة. كأن يقول: هذا الخبر متأخر عن ذاك. وهذا الآية نزلت قبل تلك. فإنا نقبله .
قال بعضهم: ولو كان يقتضي نسخ المتواتر بالآحادي، لأن النسخ إنما حصل بطريق التبع .
قلت: وهذا على قول من يعمل بهذا في القطعي والظني. وأما من لم يعمل به إلا في المظنون فقط _كما سيأتي عن قريب _ فلا يقبله، إذا كان يقتضي ذلك. فتأمل! والله أعلم.
فأما لو قال: هذا ناسخ، وهذا منسوخ. فإنا لا نقبله. لأنه من الطرق الفاسدة. كما سيأتي.(1/193)


(( أو )) تعارضهما من كل وجه، مع حصول (( قرينة قوية )) يحصل معها غلبة الظن بتأخر أحدهما. (( كغزاة )). أي: بأن ينسب الصحابي أحدهما إلى غزاة. (( أو )) ينسبه إلى (( حالة )) متقدمة، وينسب الآخر من المتعارضين إلى غزاة أو حالة متأخرة. نحو أن يقول: نزلت هذه الآية في غزاة بدر. وتلك في غزاة أحد .
أو قال: هذا الخبر في خامس الهجرة، وذلك في سادستها. (( فيعمل بذلك في المظنون فقط )). أي: إذا كان الخبر الذي عرف نسخه بأي هذا الأمارات مظنونا فقط. لا إذا كان معلوما، فلا يعمل به. لئلا يؤدي إلى ترك القاطع، الظنيُّ. (( على المختار )). لأن منهم من قال: إنه يعمل به في القاطع أيضا. لأنه إذا تعارض قطعيان تعين أحدهما. فإذا قال الصحابي: هذا متأخر عن ذاك. سُمع منه. فالنسخ إنما حصل بطريق التبع، لا بقول الصحابي.
وأجيب عن هذا: بأنه إذا قُبِل قول الصحابي في المتأخر، كان الناسخ في الحقيقة هو قول الصحابي. إذ لولاه لما وقع النسخ. وفيه ضعف.
وأما الطرق الفاسدة:
• ... فمنها: قول الصحابي. سواء عيَّن الناسخ، بأن يقول: هذا الحكم منسوخ بكذا. أو لم يعيِّنه. نحو أن يقول: هذا الحكم منسوخ.
أما الأول: فلأنه لم يبين الوجه في كونه ناسخا. بل أحاله علينا ولم يتحمل عهدته، فلا يُقبل. ولو كان الحكم ظنيا.
وأما الثاني: فلاحتمال أن يكون ذلك مذهبا له. ومذهب الصحابي ليس بحجة كما تقدم.
• ... ومنها: قًبلِيَّتُه في المصحف. فإنه لا يشعر بقبيلته في النزول. لأن الآيات لم ترتب على ترتيب النزول.
• ... ومنها: حداثة سن الصحابي. لأنه متأخر الصحبة. فلا يدل على تأخر ما نقله. لأن منقول متأخر الصحبة قد يكون متقدما. وبالعكس.
• ... ومنها: تأخر إسلامه. وهو كالذي قبله. ونحو ذلك.
فهذه: هي الطرق إلى تعيين الناسخ ومعرفته من المنسوخ. وما ليس بناسخ ولا منسوخ. والله الهادي .(1/194)


فإذا عرفتها ولم تعلم الناسخ من المتعارضين بطريق مُعيَّن منها، وجب التوقف حتى يظهر دليل. لا التخيير فيهما، ولا إبطالهما، والأخذ في الحادثة بغيرهما. لأن مرجعه إلى رفع حكمها، مع العلم بأن أحدهما حق. وذلك مما لا يجوز. والله أعلم.
(( الباب التاسع ))من أبواب الكتاب (( في الإجتهاد والتقليد )).
أما (( الإجتهاد ))
فهو في اللغة: استفراغ الوسع في تحصيل الشيء. ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة ومشقة. يقال: اجتهد في حمل الصخرة، ولا يقال: اجتهد في حمل النواة. وهو: مأخوذ من الجُهد _ بضم الجيم، وفتحها _ وهو: الطاقة.
وفي الاصطلاح: (( استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل ظن، بحكم شرعي )). فقوله: استفراغ الفقيه الوسع. جنس الحد. وقوله: في تحصيل ظن. احتراز من استفراغ الوسع في فعل من الأفعال.
وقوله: بحكم شرعي. احتراز من العقلي واللغوي. فلا يسمى الإستفراغ لتحصيلهما اجتهادا. والحكم الشرعي أعم من أن يكون أصليا، أو فرعيا.
قيل: والأَولى أن يقال: في تحصيل حكم شرعي. ليعم القطعي، والظني.
(( والفقيه )) في اصطلاح العلماء: (( من يتمكن من استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها )) وأماراتها (( التفصيلية )). وقد تقدم بيان هذه القيود في أول الكتاب.
(( وإنما يتمكن من ذلك )) أي: من الإستنباط المذكور الفقيه. وهو: المجتهد _ على ظاهر كلام القوم _ وإن كان قد شاع إطلاقه على من يعلم فن الفقه، وإن لم يكن مجتهدا.
والمجتهد هو: (( من حصَّل )) من العلوم (( ما يحتاج إليه فيه )). أي: في الإستنباط. والمحتاج إليه في ذلك: علوم خمسة، قد بينها بقوله:
1_ (( من علوم العربية )). من نحو، وتصريف، ولغة. وذلك لأن الأدلة من الكتاب والسنة: عربية الدلالة، فلا يتمكن من استنباط الأحكام منهما، إلا بفهم كلام العرب. إفرادا، وتركيبا. والذي يحتاج إليه منها: قدر ما يتعلق باستنباط الأحكام من الكتاب والسنة.(1/195)

39 / 49
ع
En
A+
A-