(( و )) المختار: جواز (( نسخ ما قُيِّد بالتأبيد )). إن كان التأبيد قيدا للفعل. مثل أن يقول: صوموا أبدا. والدليل على ذلك:أنه قد ثبت جواز تخصيص العام، المؤكَّد بكل، وأجمعين. فيجوز نسخ ما قيد من الفعل بالتأبيد. لأنه بمثابة التأكيد بكل وأجمعين. والنسخ والتخصيص واحد، غير أن أحدهما في الأعيان والآخر في الأزمان. وهذا لا يقتضي فرقا بينهما فيما ذكر. فإن كان التأبيد قيدا للوجوب، وبيانا لمدة بقاء الوجوب واستمراره، فإن كان نصا. نحو أن يقول: الصوم واجب مستمر أبدا. لم يُقبَل خلافه. وإن لم يكن نصا بل ظاهرا. مثل: الصوم واجب في الأيام والأزمان. ونحو ذلك. قُبِل النسخ الذي هو خلاف التأبيد، وحمل ظاهر التأبيد على المجاز. كالتخصيص، ونحوه. كذا قرره بعض المحققين. والله أعلم .
(( و )) كذلك يجوز النسخ _ على المختار _ (( إلى غير بدل )). يعني: أنه يجوز نسخ التكليف من غير تكليف آخر بدل عنه. ومنعه الشافعي. وقال: لا ينسخ فرض إلا إذا ثبت مكانه فرض آخر. والصحيح: هو الأول. والدليل على ذلك: أما أولا: فقد ثبت أن الأحكام مصالح. ويجوز انقضاء المصلحة، ولا بدل لها. ولا يمنع من ذلك عقل، ولا شرع .
وأما ثانيا: فإنه قد وقع. وإنه دليل الجواز. وذلك: كنسخ وجوب تقديم الصدقة قبل نجوى الرسول. فإنه كان واجبا، ثم نسخ إلى غير بدل. وكنسخ وجوب الإمساك بعد الفطر. كما قال جار الله: إنه كان الرجل إذا أمسى جاز له الأكل، والشرب، والجماع، إلى أن يصلي العشاء الآخرة، فإذا صلاها، أو نام ولم يفطر، حرم عليه كل مفطر إلى القابلة. ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:{أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم…} الآية. من غير بدل. ونحو ذلك كثير .
(( و )) كذا يجوز نسخ الحكم (( الأخف بالحكم الأشق كالعكس
)) أي: كما يجوز العكس. وهو نسخ الأشق بالأخف .
أما الثاني: فاتفاق بين من أثبت النسخ.
وكذلك النسخ بالمساوي .(1/186)
وأما الأول: فمنهم من منعه. والصحيح الجواز. والدليل عليه: العقل، والسمع .
أما العقل: فلما ثبت من أن الأحكام مصالح، ولا مانع من أن تكون المصلحة بالأشق بعد الأخف أكثر. وذلك: كما ينقلهم من الصحة إلى السقم، ومن الشباب إلى الهرم. وهذا واضح .
وأما السمع: فأدلته كثيرة.
منها: نسخ التخيير بين الصوم والفدية، الثابت بقوله تعالى:{ وعلى الذين يطيقونه فدية… } إلخ. أي: على المطيقين الصيام الذين لا عذر لهم، فدية طعام مساكين. بقوله تعالى:{ فمن شهد منكم الشهر فليصمه }. ولا شك أن التزام أحد الأمرين، أشق من التخيير بينهما.
ومنها: نسخ صوم يوم عاشوراء، بصوم شهر رمضان. وصوم شهر، أشق من صوم يوم واحد.
ومنها: نسخ وجوب الكف عن قتال المشركين، الثابت بقوله تعالى: { ودع أذاهم }، ونحوها. بإيجاب القتال بآيات كثيرة، مع التشديد فيه، حتى أوجب ثبات الواحد للعشرة، ثم للإثنين، وهو أثقل من الكف. ونحو ذلك كثير .
واعلم: أن المراد بالعكس. في قوله: كالعكس. مجرد تقديم ما أخَّر، وتأخير ما قدَّم. لا معناه الاصطلاحي _ أعني _ تبديل طرفي القضية. كما تقدم بيانه. وتسمية ذلك عكسا: تجوز للمناسبة بينهما. والله أعلم .
(( و )) يجوز نسخ (( التلاوة )). فلا يبقى اللفظ قرآنا. (( والحكم )) فلا يبقى حكما معمولا به. (( جميعا )) أي: حال كون النسخ لهما جميعا. وذلك: كما روى مسلم عن عائشة أنها قالت: ( كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات محرِّمات، ثم نسخ بخمس ). فقد نسخ تلاوته وحكمه .
(( و )) يجوز أيضا نسخ (( أحدهما دون الآخر )). أي: إما التلاوة، فلا يبقى اللفظ قرآنا. دون الحكم فيبقى .(1/187)
وأما الحكم دون التلاوة، بأن يبقى اللفظ قرآنا يتلى معجزا، ولا يبقى الحكم الدآل هو عليه. مثال الأول: ما روى الشافعي عن عمر أنه قال: ( مما أنزل الله تعالى في كتابه: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ). وفي بعض الروايات: (نكالا من الله ورسوله ). والمراد بهما: المحصن والمحصنة. ثم نسخ تلاوته دون حكمه، فهو باقٍ. وهذا، والأول وهو ما نسخ تلاوته وحكمه، الأصح أنه يجوز للمحدِث، والجنب تلاوته، ولمسه. إذ ليس بقرآن حينئذ.
ومثال الثاني: نسخ الإعتداد بالحول في حق [المميتة] الثابت بقوله تعالى: {متاعا إلى الحول غير إخراج} بقوله تعالى:{ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا }. ونسخ آية السيف وهي قوله تعالى:{ فإذا انسلخ الشهر الحرم فاقتلوا المشركين … }الآية. لآيات كثيرة. كالآيات التي فيها الإعراض والصفح. وقد قيل: إنها ناسخة لمائة وأربع وعشرين آية.
نعم: والمراد بالأشهر الحرم: ذو القعدة، وذوالحجة، ومحرم، ورجب. ومفهومها منسوخ عند الأكثر.
وقيل: المراد أشهر الأجل. وسماها حرما لحرمة العهد. والله أعلم.
وما نسخ حكمه دون تلاوته كما تقدم، لا يجوز للمحدِث، والجنب تلاوته، ولمسه. لأنه قرآن.
(( و )) يجوز نسخ (( مفهوم الموافقة )). وقد تقدم بيانه. (( مع أصله)) أي: الذي له المفهوم. كما ينسخ تحريم الضرب، وأصله الذي هو تحريم التأفيف. ووجوب قيام الواحد للإثنين، وأصله الذي هو قيام المائة للمائتين .
(( و )) يجوز نسخ (( أصله )). أي: أصل مفهوم الموافقة. (( دونه )) أي: دون المفهوم. كما ينسخ تحريم التأفيف، ويبقى تحريم الضرب.
(( وكذا )) يجوز (( العكس )). أي: يجوز نسخ المفهوم، دون الأصل. لكن (( إن لم يكن )) المفهوم (( فحوى )). بل كان لحنا. كما ينسخ وجوب قيام الواحد للعشرة، ويبقى الأصل وهو قيام العشرين للمائتين .(1/188)
وأما إن كان فحوى، فلا يجوز. فلا ينسخ تحريم الضرب الذي هو أولى بالحرمة من التأفيف. لأن الأذى فيه أكثر. دون التأفيف فيبقى تحريمه. وهذا بَيِّنٌ كما ترى .
(( و )) المختار عند المحققين من العلماء: أنه (( لا يجوز نسخ الشيء قبل إمكان فعله )). سواء كان قبل دخول الوقت، أو بعده. قبل انقضاء زمان يسع المأمور به. فلا يصح أن يقول: حجوا هذه السنة. ثم يقول قبل دخول عرفة: لا تحجوا. ولا أن يقول يوم عرفة من قبل انقضاء زمان يتسع لأسباب الحج: لا تحجوا. والدليل على ذلك: أنه لو صح نسخ الشيء قبل إمكان فعله، إذاً لنهى عن نفس ما أمر به. أو العكس. فيكون:
إما بداءً. حيث تبين له من بعدُ القبح أو الحسن.
أو قصداً إلى النهي عن الحسن أو الأمر بالقبيح.
أو عبثا. حيث لم يتبين له ما لم يكن عرفه مما ذكر. وكلٌ من ذلك محال في حقه تعال.ى وما أدى إلى المحال فهو محال. فيكون النسخ قبل التمكن من فعل المنسوخ حتى نسخ محالا. لأن المكلف مع عدم
التمكن منه: غير مكلَّف به، فلا نسخ. وإن كان قد كلِّف به، ولم يتمكن منه، فهو بداء. كما بينا .
وأما بعد التمكن فيجوز. سواء كان قبل فعله أو بعده. فلا يشترط الفعل.
ومنهم: من جوز النسخ قبل الإمكان. وأقوى حججهم على ذلك: ما احتجوا به من أن إبراهيم عليه السلام أٌمِر بذبح ولده، ثم نسخ قبل التمكن!
والجواب: أنا لا نسلم أن إبراهيم عليه السلام أُمر بالذبح على الحقيقة. وإنما أُمر بما فعله من إضجاع ولده، وأخذ المدية فقط. بدليل قوله تعالى: { يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا }. وهو لم يذبح. وإن سلمنا أنه أُمر به! فلا يخلو الأمر: إما أن يكون مؤقتاً؟ أولا ؟(1/189)
والأول باطل. إذ ليس في الآية ما يدل على التوقيت. وإن كان مطلقا كما هو الظاهر، فلا حجة لهم فيه. إذ ليس مما نحن بصدده. لأن الخلاف في الفعل المؤقت قبل دخول وقته، أو بعد دخول الوقت قبل انقضاء زمان يسع المأمور به. والفعل هاهنا مطلق موسع غير مضيق. بدليل: {فانظر ماذا ترى}. ولو كان مضيَّقا لما اشتغل عنه بمراودته! وحينئذ فالغرض حصول الفعل. فيجوز أن يكون قد مضى وقت يمكن فيه إيجاد الفعل. فالنسخ بعد التمكن لا قبله. وذلك جائز كما بينا. والله أعلم.
(( والزيادة على العبادة نسخ لها )). أي: للعبادة المزيد عليها. لكن لا مطلقا. بل: (( إن لم يجز المزيد عليه بدونها )). أي: إن كان الزائد مخرِجا للأصل عند الإعتداد به. بحيث يجب استئنافه لو فعل وحده. وقد كان يفعل أولاً وحده ويجزي. فحينئذ يكون نسخا. وذلك: كزيادة ركعة، أو ركوع، أو سجود، في إحدى الصلوات الخمس. وكزيادة ركعتين في الرباعية. فإنه روي أنها فرضت مثنى مثنى، فزِيدت في الحضر. فإن هذه الزيادة تبطل أجزاء المزيد عليه. وذلك واضح. وإن لم يكن كذلك، بل كان فعله معتدا به دون الزائد، وإنما يلزم ضم الزائد إليه، ولا يجب الاستئناف، فلا يكون نسخا. وذلك: كزيادة عشرين جلدة في حد القاذف. وزيادة التغريب على الجلد في الزاني. وإنما كانت الزيادة على العبادة نسخا في الأول، دون الثاني. لأنه ارتفع بها في الأول حكم شرعي، وهو الإجزاء. فإن زيادة ركعة على الفجر مثلا، تبطل إجزاء الركعتين لو اقتصر عليهما المصلي. وتوجب استئناف ثلاث ركعات متوالية، بخلاف الثاني. فإن الزيادة لم ترفع حكما شرعيا، بل عقليا. ومدار النسخ على كون المرتفع بالناسخ حكما شرعيا. والله أعلم.
وهذا في الزيادة الغير المستقلة. وأما زيادة عبادة مستقلة على ما قد شرع من العبادات المتسقلة، فليس نسخا على الصحيح. كما إذا زِيدَ على الصلوات الخمس صلاة سادسة.(1/190)