(( لقرينة اقتضتهما )). أي: الصرف، والقصر. فقرينة الصرف قد تقدمت. وقرينة القصر إما عقلية، كما في قوله تعالى:{ والله على كل شئ قدير }. فإن ظاهره العموم، لكن القرينة العقلية وهي كون بعض الأشياء لا تدخل في مقدوره تعالى(1)كأعيان أفعال العباد، وغير ذلك من المستحيلات عليه تعالى. قصرته على بعض مدلولاته. وكذلك سائر المخصِّصات العقلية.
وإما مقالية. كالمخصِّصات المقالية المتصلة، والمنفصلة. كما تقدم.
فإن قلت: لِمَ فُسِّر المؤول والتأويل؟! ولم يُفسَّر الظهور، وإنما فُسِّر الظاهر فقط؟‍‍‍‍!
قلت: لأن‍‍‍‍‍ المقصود بحسب العرف، هو الظاهر دون الظهور. فليس بمقصود. وإنما فسر التأويل وإن كان أيضا غير مقصود، بحسب العرف. لأن بيانه بيان للمؤول إليه. أي: المعنى الذي صرف إليه الظاهر. فتأمل! والله أعلم .
نعم: (( و )) التأويل ثلاثة أقسام:
1_ لأنه (( قد يكون قريبا، فيكفي في أدنى مرجِّح )). لقربه كما ذكرنا في تأويل اليد: بالنعمة، فإنها مجاز في النعمة قريب، لقوة العلاقة. وكتأويل آية الجلد في الزان:ي على التنصيف في العبد، قياسا على الأمة. لأن هذا النوع، من القياس الجلي. فقد قصر العام على بعض مدلوله.
__________
(1) _هذه عبارة غير لائقة بالذات القادرة المطلقة، وكان الأنسب أن يقول:كون بعض الأشياء ليس من متعلقات القدرة.(1/181)


2 - (( و )) قد يكون (( بعيدا )). وبُعدُه بحسب خفاء العلاقة، (( فيحتاج إلى )) مرجِّح (( أقوى )) مما يترجح به التأويل القريب، ولا يترجح بالمرجِّح الأدنى. من ذلك: تأويل بعض الحنفية، وبعض أئمتنا قوله تعالى:{ فإطعام ستين مسكينا }. بأن المراد: إطعام طعام ستين مسكينا، لواحد أو أكثر. قالوا: لأن المقصود دفع الحاجة، وحاجة مسكين واحد في ستين يوما، كحاجة ستين شخصا لا فرق بينهما عقلا. ووجه بُعده: أنهم جعلوا المعدوم _ وهو طعام _ مذكورا بحسب الإرادة، مع إمكان(1) أن يكون المذكور _ وهو ستين _ هو المراد. لأنه يمكن أن يقصد إطعام ستين مسكينا، دون واحد في ستين يوما، لفضل الجماعة وبركتهم. بدليل: ( يد الله مع الجماعة ). ولتظافر قلوبهم على الدعاء للمحسن، فيكون أقرب إلى الإجابة، ولعل فيهم مستجابا. بخلاف الواحد. ونحو ذلك من التأويلات البعيدة. على ما هو مبسوط في بسآئط هذا الفن.
3_ (( و )) قد يكون (( مُتَعسَّفا )) لا يحتمله اللفظ (( فلا يقبل )). بل يجب رده، والحكم ببطلانه. وذلك: كتأويل الباطنية. مثل تأويلهم ثعبان موسى: بحجته. ونبع الماء من بين الأصابع: بكثرة العلم. وقولهم في قوله تعالى:{ حرمت عليكم أمهاتكم }. المراد بالأمهات: العلماء. وبالتحريم: تحريم مخالفتهم، وانتهاك حرمهم. وكتأويلهم الجبت والطاغوت: بأبي بكر وعمر. والبقرة في قوله تعالى: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}: بعائشة. وغير ذلك كثير من أباطيلهم. وبتمام هذا تم الكلام في شرح باب المجمل والمبين .
(( الباب الثامن ))من أبواب الكتاب (( في النسخ. هو ))
في اللغة يطلق على: الإزالة. مثل: نَسَخَت الشمسُ الظلَّ. أي: أزالته. وعلى النقل والتحويل. مثل: نسخت الكتاب.أي: نقلت ما فيه إلى آخر .
ومنه: المناسخات. لانتقال المال من وارث إلى آخر.
وقد اختُلِفَ فيه هل هو حقيقة في أحدهما، مجاز في الآخر؟ أم مشترك بينهما؟
__________
(1) _ في نسخة: مع ظهور أن.(1/182)


فقيل: هو حقيقة في النقل، مجاز في الإزالة .
وقيل: العكس.
وقيل: مشترك. قيل لا يتعلق بهذا الخلاف غرضٌ علمي .

وفي الاصطلاح: (( إزالة مثل الحكم الشرعي بطريق شرعي، مع تراخٍ بينهما )). إنما قال: مثل الحكم. ولم يقل: إزالة عينه. لأن إزالة العين لا تُتَصوَّر على الله تعالى. لأنه بداء، وهو مستحيل في حقه تعالى. إذ لا ينكشف له ما لم يكن قد علمه. لأنه عالم لذاته. فحينئذ لا بد مما يتمكن المكلف من الفعل قبل النسخ. وإلا عاد على غرضه بالنقض. وإذا تمكن من فعله فقد خرج الأمر مثلا عن كونه عبثا، ثم إذا نهاه عن مثله في المستقبل، علمنا أن مدة المصلحة فيه قد انقطعت، فحسن نسخه حينئذ .
وقوله: الشرعي. احتراز عن الحكم العقلي. فإن إزالته بطريق شرعي ليس نسخا. وذلك: كالأدلة المبيحة لذبح الأنعام، بعد أن كان محرما بحكم العقل .
وقوله: بطريق. ولم يقل: بدليل. ليشمل القطعي، والظني .
وقوله: شرعي. لتخرج الإزالة للحكم الشرعي بالموت، والنوم، والجنون، والغفلة. فإن ذلك ليس نسخا.
وقوله: مع تراخ بينهما. ليخرج التخصيص. فإنه ليس نسخا، وإنما هو بيان لمراد المتكلم من لفظ العموم. وهذا الحد قد انطوى على شروط النسخ. وهي أربعة:
الأول: أن لا يكون الناسخ ولا المنسوخ عقليا. مثال الأول: ارتفاع التكليف بالنوم.
ومثال الثاني: إباحة ذبح البهائم. كما بينا.
الثاني: أن لا يكون الذي يزيله الناسخ صورة مجردة. كنسخ التوجه إلى بيت المقدس. فإن الناسخ لوجوب
التوجه إليه لم ينسخ صورة التوجه، وإنما أزال وجوبه. وكذلك كل منسوخ.
الثالث: أن يتميز الناسخ من المنسوخ. بأن يكون مخالفا له بوجه.
الرابع: أن ينفصل عنه. احترازا من الغاية، ونحوها. نحو:{ أتموا الصيام إلى الليل}. فإنها متصلة بالجملة، فلا يكون نسخا. والله أعلم .
فإن قلت: هذا الحد لا يتناول نسخ التلاوة فقط؟! إذ الحكم باق لم يرفع!(1/183)


قلت: بل يتناوله. لأن نسخها قد رفع حكما ما. لأنه عبارة عن نسخ الأحكام المتعلقة بنفس النظم، كالجواز في الصلاة، وحرمة القرآءة على الجنب، والحائض. والله أعلم.
واعلم انه قد اختلف في النسخ هل هو باقٍ في عرف الشرع على معناه اللغوي؟ أم هو منقول إلى معنى آخر؟
والصحيح: أنه منقول. لأنه في اللغة: إزالة الأعيان. وفي الشرع: إزالة الأحكام. وأين أحدهما من الآخر!! فحينئذ يكون حقيقة شرعية. إن كان الناقل هو الشرع. وعرفية اصطلاحية. إن كان الناقل هو أهل الشرع. والله أعلم.
(( والمختار جوازه )). أي: النسخ. وقد شذ المخالف فيه من المسلمين. والأكثر على وقوعه، إلا عن الأصفهاني. فرُوِي عنه أنه وإن كان جائزا، لكنه لم يقع. ورُوِي عنه: أنه منع من نسخ القرآن بالقرآن فقط. والصحيح المختار عند جميع العلماء أنه جائز، واقع. والدليل على ذلك: العقل والنقل.
أما العقل: فلأنه قد ثبت أن الشرائع مصالح للعباد.
أما الواجبات: فلكونها الطافا مقرِّبة من فعل الطاعات العقلية.
وأما المندوبات: فلكونها مسهِّلات للواجبات.
وأما المحرمات: فلكونها مفاسد. ولا شك أن دفع المفسدة أهم من جلب المنفعة .
وأما المكروهات: فلكونها مسهِّلة لاجتناب المحرمات. وحينئذ فيلزم أن تتغير بتغيرها. فإنا نقطع بأن المصلحة قد تتغير بحسب الأوقات. كما تتغير بحسب الأشخاص. فلا بُعدَ في أن تكون المصلحة تقتضي شرعَ الحكمِ في وقت، ورفعه في وقت آخر.
وأما النقل: فقوله تعالى:{ما ننسخ من آية أو ننسها }. أي: نؤخرها. {نأت بخير منها، أو مثلها}. فإنها مصرحة بوقوع النسخ في القرآن. وأيضا فإنه قد وقع. وهو دليل الجواز. وذلك كما جاء في التوراة أن آدم عليه السلام أُمِرَ بتزويج بناته من بنيه. وقد حرم ذلك باتفاق. وإن كان قد روي عن جعفر الصادق عليه السلام: المنع من أن يكون آدم أمر بتزويج بناته من بنيه. بل: إنه أنزل لابن آدم حوراء فولدت، فجازت ابنتها لابن أخيه .(1/184)


قال الإمام المهدي عليه السلام: لكنها رواية شآذة مغمورة غير مشهورة، عن الصادق عليه السلام. والله أعلم .
قيل: والنسخ من ضروريات الدين. فهو معلوم ضرورة. بدليل نسخ بعض أحكام الشرائع السابقة، من شرائع الأنبياء عليهم السلام. بالأدلة القاطعة على حَقِّية شريعتنا. ونسخ بعض أحكام شريعتنا بالأدلة القاطعة منها. والله أعلم.
وهو أيضا جائز (( وإن لم يقع الإشعار به )) _ على المختار _ فلا يشترط في جوازه ذلك.
ومنهم: من اشترط أن يقع الإشعار به (( أولا )). أي: عند الابتداء بذلك المنسوخ. مثل قوله تعالى:{ أو يجعل الله لهن سبيلا }.{لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا}.
قالوا: لأن الظاهر من الأمر الدوام. والخطاب إنما يُراد به ظاهره. فلو لم يكن ثَمَّ إشعار، لكان قد لبَّس على المكلف، وحمله على اعتقاد دوامه. وهو قبيح. فلا يجوز على الله تعالى. فيجب الإشعار بأن الحكم سينسخ دفعا لهذا الظاهر!
والجواب: أنا لا نسلم الإحتياج إلى ذلك. لأن لفظ الأمر لا يقتضي ذلك. أي: الدوام. لا لغة، ولا عرفا. لا عاما، ولا خاصا بأهل الشرع. فإذا اعتقدوا دوامه لغير دليل. فقد أُتِيَ من جهة نفسه، لا من جهة الله تعالى. فحينئذ لا يجب الإشعار به .(1/185)

37 / 49
ع
En
A+
A-