وأيضا فإن السيد إذا قال لعبده: أكرم رجالا. فأكرم ثلاثة. عُدَّ ممتثلا، وسقط عنه الذم. ولو كان مجملا لما كان كذلك. وكذا إذا أقر شخص لآخر بدراهم، وفسَّرها بثلاثة، قُبِل ذلك منه. فلو لا أنه مبين لما قبل ذلك منه .
(( و )) منها: أنه (( لا )) إجمال (( في تحريم الأعيان )). أي: التحريم المضاف إلى الأعيان. نحو قوله تعالى:{ حرمت عليكم أمهاتكم}. { حرمت عليكم الميتة}. ونحوها. (( إذ يحمل على المعتاد )) من ذلك. كالوطء في الموطوء، والأكل في المأكول، واللبس في الملبوس، والشرب في المشروب. فإذا قال: حرمت عليكم الأمهات، والميتة، والحرير، والخمر. فُهِم تحريم الإنتفاع بها بالأكل، ونحوه. إذ لا يسبق إلى الفهم إلا ذلك. فهو متضح الدلالة، فلا إجمال.
وأيضا فإن الصحابة، ومن بعدهم استدلوا بها على تحريم الفعل المقصود منها. كما وقع منهم حين سمعوا مناديه صلى الله عليه وآله وسلم قد حرم الخمر. لم يَشُكُّوا أن المراد تحريم شربها. ولذا عَمِد كل منهم إلى ما عنده منها فأراقه. وكذا فهموا من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( الذهب والحرير هما حرامان على ذكور أمتي ). أن المراد تحريم لبسهما، لا ملكهما والنظر إليهما.
(( و )) منها: أنه (( لا )) إجمال (( في )) نحو (( العام المخصص )). والمراد بنحو العام المخصص: المطلق إذا قُيِّد.
واعلم: أن التخصيص لا يخلو: إما أن يكون بمبهم، أو بمبين .
إن كان بمبهم فلا يحتج به على شيء من الأفراد اتفاقا. لوضوح إجماله. مثاله قوله تعالى:{ أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم}.
وإن خُصَّ بمعين كما لو قيل: اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة. فالمختار أنه لا إجمال فيه. فيصح الإحتجاج به على ما بقي. بدليل أنه كان قبل التخصيص حجة في الجميع. فتبقى حجيته حتى يظهر المعارض. ولم يظهر إلا في القدر المخصوص، فيبقى حجة في الباقي.(1/176)


وأيضا فإن الصحابة كانوا يستدلون بالعمومات، مع وجود مخصصاتها. وشاع ذلك عنهم وذاع، وتكرر فيما بينهم ولم ينكر، فكان إجماعا. وذلك واضح الدلالة على عدم الإجمال.
(( و )) منها: أنه (( لا )) إجمال (( في نحو )) قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا صلاة إلا بطهور )). ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ). ( ولا نكاح إلا بولي ). ونحو ذلك كثير. مما نفي فيه الفعل، والمراد نفي صفته. والدليل على ذلك أنه إن ثبت عرف شرعي في إطلاقه للصحيح كان معناه:لاصلاة صحيحة، ولا نكاح صحيحا. ونفي مسماه ممكن، فيتعين. فلا إجمال. وإن لم يثبت عرف شرعي، فإن ثبت عرف لغوي، وهو أن مثله يقصد منه نفي الفائدة والجدوى، نحو: لا علم إلا ما نفع، ولا كلام إلا ما أفاد. فيتعين. فلا إجمال
أيضا. وإن قُدِّر انتفاء العرفين، فالأَولى حمله على نفي الإجزاء، دون الكمال. لأن ما لا يصح كالعدم، في عدم الجدوى. بخلاف ما لا يكمل. فكان أقرب المجازين إلى الحقيقة المتعذرة. فكان ظاهرا فيه. فلا إجمال.
(( و )) منها: أنه لا إجمال في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الأعمال بالنيات )). فحينئذ يصلح دليلا على وجوب النية في كل عمل. لأن المراد بذلك أنه لا عمل إلا بنية، والعمل بدون نية غير مُنتَفٍ. لعلمنا بوجوده، فيبقى المراد نفي جميع أحكامه، من الصحة، والكمال في الثواب والطاعة، ونحو ذلك. إذ لا تنافي بينها، ولا قرينة تشعر بخصوصية أحدهما، فلا إجمال.
(( و )) لا في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان )) . مما نفي صفته. والمراد نفي لازم من لوازمها. وذلك لأن العرف في مثله قبل ورود الشرع: رفعُ المؤآخذة والعقاب قطعا. بدليل أن السيد إذا قال لعبده: رفعت عنك الخطأ والنسيان.كان المفهوم أني لا أؤاخذك بهما، ولا أعاقبك عليهما. فكذلك بعد ورود الشرع. فلا إجمال حينئذ. والله أعلم.(1/177)


(( و )) المختار: (( أنه يجوز )) للرسول صلى الله عليه وآله وسلم (( تأخير التبليغ )) لما أوحي إليه من الأحكام، إلى وقت الحاجة إليها. إذ لا مانع من ذلك، لا عقلا ولا شرعا.
وأيضا يجوز أن يكون في التأخير مصلحة يعلمها الله تعالى.
وقال قوم: لا يجوز ذلك. لقوله تعالى:{ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك}. والأمر للوجوب، وللفور.
قلنا: ذلك لا يمنع جواز التأخي.ر (( إذ القصد المصلحة )). فكأنه قال: بَلِّغ على ما تقتضيه المصلحة من التأخير، وغيره. لأن المقصود بالشرائع المصالح. فتبليغها يكون على وفق المصالح، لأن الفرع تابع للأصل. وقد تكون المصلحة في التأخير. والله أعلم.
(( ولا يجوز تأخير البيان )) للمجمل، (( ولا التخصيص )) للعام، والتقييد للمطلق، (( عن وقت الحاجة )). أي: وقت إمكان العمل بما اقتضاه الدليل المجمل، أو العام، أو المطلق. فلا يجوز أن يخاطبنا تعالى بالصلاة مثلا، وقد علمنا أنه لم يرد بها المعنى اللغوي، من غير أن يبين لنا ما قصد بها، مع تضييق وقتها. فهذا ممتنع (( إجماعا. إذ يلزم من ذلك التكليف )) للعباد (( بما لا يُعلم )). وهو قبيح على الله تعالى. إلا عند مجوزي تكليف ما لا يطاق. وكأنه لم يعتد بمذهبهم لخسته. فلهذا قال: إجماعا.
(( فأما )) تأخير البيان، والتخصيص، ونحوهما، (( عن وقت الخطاب )) إلى وقت الحاجة، فقد اختلف فيه على أقوال:
الأول: أنه يجوز مطلقا. لأن الصحابة سمعوا قوله تعالى: { اقتلوا المشركين كآفة}. وهو عام، ولم يسمعوا تخصيصه، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم في المجوس: ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ). إلا بعد حين. ونحو ذلك كثير .
الثاني: لا يجوز. لأنه كالخطاب بالمهمل، وما لا يفهم معناه. وهو ممتنع.
والجواب أن بينهما فرقا، لأن المجمل ونحوه، يُفهم منه أحد مدلولاته، فيطيع أو يعصي بالعزم على فعله، أو تركه. بخلاف المهمل. إذ لا يُفهم منه شيء.(1/178)


الثالث: يجوز التأخير في البيان. إذ لا يقطع المخاطب بالمجمل بشيء معين. إذ لا ظاهر له فيعتقد. فلا يحمل الخطاب به على اعتقاد الجهل. ولا يجوز في التخصيص، ونحوه. لأن التأخير يوجب حمل الكلام على ظاهره. فيعتقد العموم ونحوه، والمراد غيره، فيقبح لما فيه من اللَّبس. واستغرب هذا الكلام الإمام الهادي عليه السلام !!‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍
‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ورُدَّ بأن سامعه ممنوع من اعتقاد ظاهره. إذ المجتهد لا يعمل بظاهر العام، حتى يبحث عن تخصيصه. كما يأتي.
وأيضا فإنه منقوض بالنسخ. فإن ظاهر المنسوخ الدوام، مع انه غير مراد.
الرابع: اختاره المصنف حيث قال (( فالمختار جواز ذلك )). أي: تأخير البيان، والتخصيص، ونحوهما، (( في الأمر والنهي )). لأنهما إنشاء، فلا يُحمل سامعهما على اعتقاد جهل. فجاز الخطاب بهما، وإن لم يُبين.
(( و )) حينئذ يجب (( على السامع للعموم )) فيهما أن لا يعتقده شاملا في العام، ولا ظاهره، حتى يقع منه (( البحث )) عن تخصيصه، وبيانه. كما يأتي.
(( و لا يجوز )) ذلك (( في الأخبار )) إذ السامع إذا أُخبِر بعموم اعتقد شموله. فيكون إغراءً بالجهل، فيقبح هذا في العام.
وأما المجمل فلأنه يكون عبثا. إذ فائدة الأخبار الإفهام، ولا إفهام في المجمل. إذ لا يُفهم المراد به.
وأجيب عن هذا: بأن المخاطب بالعام لا يعتقد شموله، حتى يقع منه البحث عن تخصيصه فلا يجده.
وأما الخطاب بالمجمل ففائدته توطين النفس على الإمتثال إذا تبين. إذ يُفهم منه أحد مدلولاته كما تقدم. والله أعلم.
فائدة:
مَن منع مِن تأخير التخصيص لم يُجَوِّز إسماع بعض المخصِّصات دون بعض، ضرورة.
وأما المجوزون فقد اختلفوا في ذلك ؟ والمختار أنه يجوز. بدليل وقوعه. ألا ترى أن قوله تعالى:{ اقتلوا المشركين }. عامٌ. ثم أُخرج منه أهل الذمة، ثم العبد، ثم المرأة، بتدريج.(1/179)


وأيضا فقد جاز مع إيهام وجوب الإستعمال في الجميع، فمع إيهام وجوب الإستعمال في البعض أجدر. فتأمل! والله أعلم.

وهذا:
(( فصل )) في الظاهر والمؤول.
(( والظاهر )) في اللغة: الواضح. ومنه الظهر.
وفي الإصطلاح: (( قد يطلق على ما يقابل النص )). فيكون قسيما له. وحقيقته بهذا المعنى: ما أفاد معنى يحتمل غير المقصود.
(( و )) قد يطلق: (( على ما يقابل المجمل )). وحقيقته بهذا المعنى: ما يُفهم المراد به تفصيلا. فيكون النص قِسما منه. لأن ما يُفهم منه المراد تفصيلا قد يفيد معنى لا يحتمل اللفظ سواه، وهو النص. وقد يفيد معنى يحتمله اللفظ، وغيره، وهو الظاهر. (( وقد تقدما )). الأول: في باب المنطوق، والمفهوم. والثاني: في صدر الباب. لأن الظاهر يرادف المبين. وقد تقدم تفسير المبين.
(( والمؤول: ما يراد به خلاف ظاهره )). فيخرج المجمل. إذ لا يُفهم المراد به. وهذا قد فُهِم أن المراد به خلاف ظاهره. ويخرج الظاهر، لأن المراد به ظاهره. ويخرج المهمل أيضا. إذ لا يراد به شيء .
(( و )) أما (( التأويل )) فهو في اللغة: مشتق من آل، يؤول. إذا رجع. ومآل الشيء: مرجعه .
وفي الاصطلاح: (( صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه )) لقرينة.
إما عقلية. كتأويل اليد في بعض مواضعها في القرآن بالنعمة. إذ هي حقيقة في العضو. لكن لما قامت الدلالة العقلية القاطعة على نفي التجسيم، حملناها على خلاف حقيقتها. وقلنا: أراد بها النعمة. لكثرة استعمالها فيها عند أهل اللغة.
وإما مقالية. كصرف ما ظاهره التجسيم من الآيات، بقرينة قوله تعالى: { ليس كمثله شيء }. (( أو قصره )). أي: اللفظ (( على بعض مدلولاته )). كما يُقصر العام على بعض ما يدل عليه.(1/180)

36 / 49
ع
En
A+
A-