أما (( المطلق )) فهو: (( ما دل )) أي: شيء دل (( على مآهية مجردة )). أي: حقيقة من الحقائق غير مقيدة بشيء من القيود. فتخرج المعارف كلها، لتقييدها ببعض معين. وجميع الإستغراقات نحو: الرجال، وكل رجل. للتقييد بالإستغراق. فحينئذ معناه: ما دل على حصة ممكنة الصدق على حصص كثيرة من الحصص، تحت مفهوم كلي لذلك اللفظ كرجل. مثلا.
(( و )) أما (( المُقَيَّد )) فهو: (( ما دل عليها )) أي: على تلك المآهية. لكن لا مجردة، بل (( مع زيادة قيدٍ ) ). فتدخل المعارف كلها، وجميع الإستغراقات. كذلك يدخل فيه نحو: {رقبة مؤمنة}. فإنها وإن كانت شائعة في الرقاب المؤمنات، لكنها قد أخرجت من شياع ما، لأنها كانت شائعة بين المؤمنة وغير المؤمنة. فحين قُيِّدت بذلك القيد، زال ذلك الشياع. فتأمل!
(( وهما )) أي: المطلق والمقيد (( كالعام، والخاص )) في جميع ما تقدم من الأبحاث.
ويختصان بزيادة بحث، (( و )) هو: أنهما (( إذا وردا في حكم واحد، حُكِم بالتقييد إجماعا )). مثل أن يقول: أطعم تميميا أطعم تميميا عالما. ومثل: إن ظاهرت فاعتق رقبه، إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة. فيُحمل المطلق على المقيد. أي: يُعلم أن المراد بالمطلق هو المقيَّد. فلا يُطعم تميميا غير عالم، ولا يعتق رقبة غير مؤمنة .
قيل: بيانا. أي: أن المقيد بيان للمراد بالمطلق.
وقيل: ناسخا. إن تأخر المقيد وقتا يتسع للعمل بالمطلق.
وإنما وجب ذلك لأن العمل بالمقيَّد عمل بالمطلق. لأن المطلق جزء منه، ففي العمل به جمعٌ بين الدليلين. بخلاف العكس.
وأيضا ليخرج عن العهدة بيقين. وذلك واضح.
(( لا )) إذا وردا (( في حكمين مختلفين من جنسين )). فلا يُحمل أحدهما على الآخر (( اتفاقا )). سواء كانا نهيين، أو أمرين، اتحد سببهما أو اختلف. مثال النهيين أن يقول: لا تكس تميميا، ولا تطعم تميميا عالما.
ومثال الأمرين: اطعم تميميا، واكس تميميا عالما.(1/171)
وكذا لو قال: اكس ثوبا يمانيا، واطعم طعاما. فلا يقيَّد التميمي المطعم بالعالم. ولا الطعام بكونه يمانيا. (( إلا قياسا )). يعني: إذا كان هناك علة جامعة وجب إلحاق أحدهما بالآخر. لأن القياس أحد طرق الشرع المقررة.
(( و )) كذا (( لا )) يُحمل أحدهما على الآخر. (( حيث اختلف السبب، واتحد الجنس )). مثل: كفارتي الظهار، والقتل. حيث أطلق في كفارة الظهار، فقال: { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا}. وقيد في كفارة القتل، فقال: { فتحرير رقبة مؤمنة}. فالجنس واحد. وهو الكفارة، والسبب مختلف، وهو الظهار والقتل. فلا يُحمل أحدهما على الآخر. (( على المختار )). مطلقا.
وقيل: يحمل مطلقا.
وقيل: إن حصل قياس صحيح مقتضٍ لتقييد المطلق بما قيد به المقيد قُيِّد. وذلك كاشتراك الظهار والقتل في خلاص الرقبة المؤمنة، عن قيد الرِّقِّ لشوق الشارع إليه. وإن لم يحصل ذلك فلا. هكذا ذكره بعض المحققين. فتأمل! والله أعلم .
وبتمام هذا تم الكلام في العام والخاص .
(( الباب السابع )) (( في المجمل والمبين )).
(( و )) في (( الظاهر والمأول )).
أما (( المجمل )) فهو في اللغة: المجموع، وجملة الشيء: مجموعه. وأجملت الحساب: أي: جمعته.
وأما في الاصطلاح فحقيقته: (( ما لا يُفهم المراد به تفصيلا )). عدل عن قولهم: اللفظ الذي. إلى لفظ: ما. ليعم كل مجمل من لفظ، أو فعل. لأن الإجمال يكون في الفعل، كما يكون في اللفظ. قوله: المراد به. يخرج المهمل. لأنه لم يُرد به شئ، لا جملة، ولا تفصيلا.
وقوله: تفصيلا. قيل: إنه لإ خراج المهمل. وهو غير مستقيم. لأنه خارج من قوله: المراد. كما بينا. و حينئذ فلا حاجة إليه، اللهم إلا أن يكون بيانا لقوله: لا يفهم. أي: لا يشترط في الإجمال إلا عدم الفهم التفصيلي لا الإجمالي.
هذا: واعلم أن الإجمالي قد يكون:(1/172)
في الفعل. كالقيام من الركعة الثانية من غير تشهد، فإنه يحتمل الجواز، إذا فعله متعمدا، أو السهو. فلم يُفهم المراد به، فكان مجملا بينهما.
وقد يكون: في اللفظ المفرد. وذلك كالمشتَرَك فإنه مجمل، لتردده بين معانيه وإجماله. إما بالأصالة كالعين. أو بالإعلال كالمختار. فإنه متردد بين اسم الفاعل، واسم المفعول. ولكن بعد الإعلال، وأما قبلُ فإنه كان مُبَيَّنا بالحركة للياء، الفاعل بالكسر، والمفعول بالفتح(1). وقد يكون في اللفظ المركب وهو أنواع:
• ... منها: ما هو في جملة اللفظ. نحو قوله تعالى:{ أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح}. فإنه متردد بين الإسقاط والزيادة. لأنه إن أريد به الزوج فالمراد به الزيادة. وإن أريد به الولي فالمراد به الإسقاط .
• ... ومنها: ما هو في مرجع الضمير. حيث تقدمه أمران يصلح أن يرجع إليهما. مثل قوله تعالى:{ أو لحم خنزير فإنه رجس }. فإنه يتردد بين اللحم والخنزير.
• ... ومنها: ما هو في مرجع الصفة. نحو: جاءني غلام زيد الكاتب. لاحتمال أن تكون الصفة لزيد، أو الغلام. ومثل: زيد طبيب ماهر. فإن الماهر يحتمل أن يرجع إلى زيد، وإلى الطبيب.
• ... ومنها: ما هو في تعدد المجاز. إذا تعذر حمل الكلام على الحقيقة. مثل: {بل يداه مبسوطتان}. فإنه _ بعد تعذر الحقيقة وهي الجارحة _ متردد بين مجازات، لاحتمال إرادة النعمة، وإرادة التشبيه. وقد يكون في غير هذه الأمور. فهذا هو المجمل بأقسامه .
(( و )) أما (( المبين )) فهو (( مقابله )). أي: مقابل المجمل، وهو: ما يفهم المراد به تفصيلا. وكما انقسم المجمل إلى مفرد، ومركب. فكذلك مقابِله، وهو المبين قد يكون مفردا، قد يكون مركبا، وقد يكون في الفعل أيضا، وقد يكون فيما سبق له إجمال، وهو واضح، وقد يكون فيما لم يسبق، كمن يقول ابتداء:{ والله بكل شئ عليم}.
والبيان يطلق على معنيين:
__________
(1) _ أصله: مختيِر للفاعل، ومختيَر للمفعول.(1/173)
أعم. وهو فعل المبين. أي: التبيين، كالسلام بمعنى التسليم، وذلك كخلق العلوم الضرورية، ونصب الأدلة والأمارات العقلية، والشرعية.
وأخص. وهو المراد (( هنا )). وهو (( ما يبين به المراد بالخطاب المجمل )). وهذا يشمل العلم الضروري، والدلالة، والأمارة. سواء كانتا قولا، أو فعلا.
(( و )) اعلم أنه (( يصح البيان )) للمجمل (( بكل )) واحد (( من الأدلة )) والأمارات (( السمعية )). وهي: الكتاب، والسنة المقالية، والفعل، والتقرير، والإجماع، والقياس.
أما الكتاب، والسنة المقالية، والإجماع، فلا خلاف في صحة البيان بها.
وأما الفعل، والتقرير، والقياس فيصح البيان بها على المختار.
ومنهم: من منع من البيان بالفعل. لأنه لا ظاهر له، وإنما البيان بما تضمنه من القول الذي يؤخذ منه.
ومنهم: من منع من البيان بالتقرير. قال: لأن دلالته ضعيفة لاحتماله.
والصحيح هو الأول. بدليل رجوع الصحابة إليهما. أي: إلى فعله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقريره، في بيان المجملات، واعتمادهم عليهما كاعتمادهم ورجوعهم إلى قوله في ذلك، من غير فرق.
وأيضا مشاهدة الفعل أدل في بيانه من الإخبار عنه. ولذا قيل في المثل النبوي: ( ليس الخبر كالمعاينة ).
وأيضا فإن البيان بالفعل قد وقع. كما في بيان الصلاة، والحج. لا يقال: بل هما مُبَيَّنان بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، ( وخذوا عني مناسككم ). لأنا نقول: هذا دليل كون الفعل بيانا. لا أنه هو البيان. إذ ليس فيه بيان. فتأمل!
ولأنه لو لم يقع البيان بالتقرير لأدى إلى أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم سكت على منكر، وذلك لا يجوز. لما فيه من الإخلال بأداء الشرائع . كما إذا رأى رجلا يفعل في الصلاة فعلا بعد أن نهى عن الأفعال فيها. فإن سكوته على منكر كالإباحة لذلك الفعل. إذ لايجوز سكوته على منكر. وفي ذلك بيان للقدر المحرم من الأفعال في الصلاة.(1/174)
(( و )) المختار أنه (( لا يلزم شهرة البيان )) في النقل (( كشهرة المبين )). فلا يلزم إذا كان المجمل متواترا، أو جليا أن يكون البيان مثله. بل يجوز أن يبين القطعي بالظني، والجلي بالخفي.
ومنهم: من يشترط المساواة بينهما.
ومنهم: من اشترط أن يكون البيان أقوى. والصحيح هو الأول. بدليل أنه يصح البيان بالقياس، وبخبر الواحد. لأن دليل العمل بهما قطعي، ولم يُفرق بين البيان وغيره.
وأيضا لا يضر كون المبين قطعيا، والبيان ظنيا. إذ لا يمتنع تعلق المصلحة بذلك. ولأن الظن كالعلم في جلب النفع، ودفع الضرر.
وأيضا فقد وقع. وهو دليل الجواز. وذلك كتخصيص القرآن والخبر المتواتر بالخبر الآحادي. كما تقدم. إذ لا فرق بين التخصيص للعام، والبيان للمجمل. فتأمل! والله أعلم.
(( و )) المختار (( أنه يصح التعلق في حسن الشيء بالمدح )) عليه. كما يتعلق في حسن إخراج الزكاة بقوله تعالى: { والذين في أموالهم حق معلوم }.(( إذ هو )) أي: المدح على ذلك الشيء (( كالحث )) على ذلك الشيء.
(( و )) كذا يصح التعلق (( في قبحه بالذم )) عليه. كما يتعلق في قبح حبس الزكاة بقوله تعالى: { والذين يكنزون الذهب والفضة… }الآية . (( إذ هو )) أي: الذم (( آكد من النهي )) عليه. لأن النهي قد يكون عما هو حسن كالمكروه، والذم لا يكون إلا على القبيح. فيصح حينئذ الإستدلال بذلك على حسن الفعل، أو قبحه. لأنهما لم يكونا مجملين، بل ظاهرين. كالأمر والنهي. وذلك لأن الفعل الذي لا يعلم حسنه، ولا قبحه، إذا وصف به ثم تعقبه المدح أو الذم، اقتضى أنهما لأجل الفعل لا لغيره. فيلزم قبح الفعل، أو حسنة. وذلك ظاهر. والله أعلم.
(( و )) المختار (( أنه لا إجمال في )) أمور:
منها: (( الجمع المنكَّر )). نحو: رجال. (( إذ يحمل على الأقل )) مما يدل عليه، وهو ثلاثة. إذ هو المتيقن دخوله في الخطاب. والأصل برآءة الذمة عن الزائد .(1/175)