وقيل: بل الأَولى أن يفصل. ففي بل ولا ولكن لايرجع إلى الجميع. وسائر حروف العطف كالواو. فإذا عرفت هذا فلا نزاع في أنه يمكن أن يرجع إلى الجميع، وإلى الأخيرة. وإنما الخلاف في الظهور.
(( و )) المختار عند الأكثر أنه ظاهر في أنه (( يعود إلى جميعها، فيحمل )) على أنه استثناء من كل واحدة منها. (( إلا لقرينة )) تصرف عنه، وتقتضي العود إلى بعضها. مثاله قول تعالى: { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا}. فهذا الإستثناء وقع بعد ثلاث جُمَل:
الأولى: أمرية.
والثانية: نهيية.
والثالثة: خبرية.
فيعود إلى جميعها. فلا يحكم بفسق التائب، وتقبل شهادته. وكان القياس سقوط الحد. لكنه حق لآدمي فلا يسقط إلا بإسقاطه. فلا يعود الإستثناء إليه لقيام القرينة.
وقيل: بل الظاهر رجوعه إلى التي تليه. فيخرج عن الفسق فقط. ويبقى الجلد، وعدم قبول الشهادة.
والدليل على ما ذهب إليه الجمهور: أن العطف يُصيِّرها كالجملة الواحدة. لأن العطف رابط، كما أن عطف المفردات الواقعة موقع الخبر للمبتدأ يصيرها بمنزلة اسم واحد. كما إذا قلت: اضرب الذين هم قتلة، وسرقة، وزناة، إلا من تاب. عاد الإستثناء إلى الجميع اتفاقا. لأنها بمنزلة خبر واحد. فكذلك الجُمَل في قولك: اضرب الذين قتلوا، وسرقوا، وزنوا، إلا من تاب. لعدم ما يصلح فارقا. والله أعلم.(1/161)


نعم: فإن كان ثَمَّ قرينة تقتضي عود الإستثناء إلى البعض، وجب أن يعود إلى ذلك البعض فقط. كأن يحصل تنافٍ بين الجُمَل، أو إضراب عن أولها. مثال التنافي: اضرب بني تميم، والفقهاء هم أصحاب الشافعي، إلا أهل البلد الفلاني. فالجملتان متنافيتان، لاختلافهما في النوع. فيعود الإستثناء إلى التي تليه. إذ الجملة الأولى مستقلة بنفسها. لأنها من نوع آخر. ومثال الإضراب: اضرب بني تميم. ثُمَّ تُضرب عن هذا الكلام. وتقول: أكرم قريشا إلا الأشرار. فإن الإستثناء يعود إلى التي تليه فقط. فتأمل! والله أعلم.
ولما فرغ من بيان المخصِّص المتصل، شرع في بيان المخصِّص المنفصل فقال:
(( وأما المنفصل فهو )) الذي يستقل بنفسه (( الكتاب، والسنة )) بأقسامها. (( والإجماع، والقياس، والعقل، والمفهوم على القول به )). فهذه هي: المخصِّصات المنفصلة. وهي قسمان:
لفظي.
ومعنوي.
فاللفظي: الكتاب والأخبار.
والمعنوي: الإجماع، والقياس، والعقل، والفعل، والتقرير.
إما الكتاب والسنة. فقد اختلف في تخصيص بعضها ببعض
(( والمختار )) عند الأكثر من العلماء (( أنه يجوز تخصيص كل من الكتاب والسنة بمثله )). أي: يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب. والسنة بالسنة .
أما الكتاب بالكتاب فقد قيل: إنه إجماع.
وقيل: بل منعه بعض الظاهرية.
لنا: وقوعه كثيرا. من ذلك قوله تعالى: { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}. فإنه مخصِّص لقوله: { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا}. لأن هذا عام للحاملات وغيرهن، فخصَّص الحاملات بالأول. لأن عدتهن ليست بالأشهر فقط. بل بها مع الوضع. فأ يهما تقدم لم يحكم به. بل ينتظر الآخر. ونحو ذلك كثير. وأيضا قال تعالى: { تبيانا لكل شئ}. والقرآن شئ. والتخصيص نوع بيان. فيبين نفسه ولا مانع.(1/162)


وأما السنة بالسنة فالمختار: أنه يجوز. إذ قد وقع، وهو دليل الجواز. وذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) وقد خرج بالأول.
(( و )) كما يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب، والسنة بالسنة، يجوز تخصيصها (( بسآئرها )). أي: بسائر المخصصات المنفصلة. فيجوز تخصيص الكتاب بالسنة، والإجماع، والقياس، والعقل، والمفهوم. وكذلك السنة.
أما تخصيص الكتاب بالسنة بأقسامها فذلك جائز. فإن كانت قولا متواترا جاز اتفاقا. وإن كان آحاديا جاز على المختار. بدليل وقوعه. فإن قوله تعالى: { وأحل لكم ما وراء ذلكم}. عام يدخل فيه جواز نكاح المرأة على عمتها، وخالتها. وقد أجمعت الصحابة على أنه مخصَّصٌ بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( لا تنكح المرأة على عمتها، وخالتها ). وكذلك قوله تعالى: { يوصيكم الله في أولادكم}. فإنه يوجب الميراث للولد عموما، وقد أجمعوا على تخصيصه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( لا يرث القاتل، ولا الكافر المسلم ). ونحو ذلك. وإن كانت فعلا جاز أيضا. وذلك كرجمه صلى الله عليه وآله وسلم للمحصَن لقوله: { الزانية والزاني فاجلدوا}. وهذا على مذهب من يقول بسقوط الجلد.
وأما من لا يقول بسقوطه. فلا تخصيص. والله أعلم.
وأما تخصيص القرآن بالعقل، فذلك كما في قوله تعالى: { خالق كل شئ}. فإن العقل قاضٍ بخروجه تعالى عن هذا العموم. لاستحالة كونه مخلوقا. ونحو ذلك.
وأما تخصيص القرآن بالقياس، فإن كان جليا جاز التخصيص به، عند الأكثر. وذلك كما في قياس العبد على الأمة في تنصيف الجلد، بجامع المِلك. فإنه مخصِّص لقوله تعالى: { فاجلدوهم ثمانين جلدة}. وكذا إن كان خفيا، فإنه أيضا يُخصَّص به على الصحيح. مثل أن يعم قوله تعالى: { خذ من أموالهم صدقة}. المديون، وغيره. ثم يُخصَّص المديون. قياسا على الفقير.(1/163)


وأما تخصيص القرآن بالإجماع، فالمختار أيضا: جوازه. مثل: إجماعهم على أن القريب إذا كان مملوكا لا يرث. فإنه مخصَّص لعموم آ ية المواريث. والتحقيق: أن التخصيص به، إنما هو لتضمنه نصا، هو المخصِّص في الحقيقة. إذ الإجماع متأخر. فتأمل!
وإنما جاز التخصيص في الحقيقة بما ذكر، لأن كل واحد منها دليل يجب العمل به. كما تبين في موضعه. فصح التخصيص بها، كما صح تخصيص الكتاب، بالكتاب وبالسنة. إذ لا فرق.
أما تخصيص السنة بالكتاب فهو أيضا جائز. بدليل قوله تعالى:
{ تبيانا لكل شيء}. فدخلت السنة. إذ هي شيء. والتخصيص نوع بيان.
وأما تخصيصها بالسنة فهو أيضا جائز. سواء كانت قولا، أو فعلا، أو تقريرا.
فالقول كما في قوله: ( فيما سقت السماء العشر ) .ثم قال: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ).
والفعل مثل أن يقول: ( لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط ). ثم يفعل ذلك من غير تراخٍ. فإن الفعل مخصِّص لعموم الأول. فلا يبقى على ظاهره.
وأما بالتقرير فمثل أن يقول: ( لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط ). ثم يَرى من يفعل ذلك ويسكت. فإنه يكون مخصِّصا لذلك الفاعل. ثم يُحمل عليه غيره. إما بالقياس إن وجدت علة جامعة، أو بقوله: (حكمي على الواحد، حكمي على الجماعة ).
وأما تخصيصها بالإجماع فهو أيضا جائز. إذ هو دليل قطعي. كما تقدم.
قيل: ولا خلاف فيه.
وأما تخصيصها بالقياس فهو أيضا كذلك كما ذكر. مثل أن يقول الشارع: لا تبيعوا الموزون بالموزون تفاضلا . ثم يقول: بيعوا الحديد بالحديد كيف شئتم. فيقاس النحاس والرصاص عليه، بجامع الإنطباع. وذلك يحصل به تخصيص الأول.
وأما تخصيصها بالعقل فهو جائز أيضا _ على الصحيح _ كما إذا قال الشارع: الحج واجب على الناس. فإن العقل قاضٍ بخروج من لم يفهم الخطاب كالأطفال، والمجانين، من هذا العموم. وذلك تخصيص.(1/164)


وأما تخصيص الكتاب والسنة بالمفهوم.فإن من قال به صح التخصيص به عنده. وسواء كان مفهوم موافقة، أو مفهوم مخالفة. كما إذا قيل في مفهوم المخالفة: في الغنم زكاة. فهذا عام للمعلوفة وغيرها. ثم يقول: في الغنم السائمة زكاة. فيدل بالمفهوم على أن ليس في المعلوفة زكاة. فيتخصص الأول.
وإنما مثل في المخالفة لأنه أضعف. ليثبت في الموافقة بطريق الأَولى.
(( والمتواتر )) من الكتاب والسنة يجوز تخصيصه (( بالآحادي )). وقد مر تحقيقه. فهذه جملة المخصِّصات المنفصلة _ على المختار _ وقد ذكر منها أمور غير هذه:
منها: عود الضمير إلى بعض العام.
ومنها: ذكر حكم لبعض جملة بعد ذكره لجميعها. وقد تقدم ذلك.
ومنها: السبب.
(( والمختار )) عند المحققين (( أنه لا يقصر العموم على سببه )). ولا يخصص به. بل يبقى العام على عمومه. بمعنى انه إذا بني عام على سبب خاص سواء كان ذلك السبب سؤآلا أم لا ؟ فهل يعتبر بعموم اللفظ؟ أو بخصوص السبب؟
المختار: أن المعتبر بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. مثاله في السؤآل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم وقد سئل عن بئر بضاعة: ( خلق الماء طهورا لا ينجسه إلا ما غيَّر لونه أو طعمه أو شمه ) .
ومثاله في غير السؤآل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم حين مر بشاة ميمونة وهي ميتة: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ). فإنه في هاتين الصورتين يعتبر بعموم اللفظ. فيحكم بطهورية كل ماء لم يتغير أحد أوصافه. وطهور كل إهاب بالدباغ.
ومنهم: من اعتبر خصوص السبب. فيحكم بطهورية بئر بضاعة، وإهاب شاة ميمونة بذلك فقط. وهذا ضعيف. لأن الصحابة رضي الله عنهم عممت أكثر العموميات مع ورودها في أسباب خاصة.
*منها: آية اللعان. وهي نزلت في هلال بن أمية.
*ومنها: آية الظهار.وهي نزلت في سلمة بن صخر.(1/165)

33 / 49
ع
En
A+
A-