أما اللغوي فهو: أنه يطلق على المرشد.
والمرشد له معنيان:
الأول: الناصب لما يُسترشد به من الأدلة، قولا أو فعلا. فالباري تعالى يوصف بأنه دليل، لأنه مرشد أي: ناصب للدلالة العقلية والسمعية. والثاني: الذاكر له.
وكذا يطلق أيضا الدليل في اللغة على: ما به الإرشاد، كالأعلام التي تنصب في المفاوز لتعرف بها الطرق، وكذا مخلوقات الباري تعالى، إذ يحصل بها الإرشاد إلى وجوده تعالى.
وأما الاصطلاحي: فحقيقة الدليل في الاصطلاح (( ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بالغير )) وهو المدلول.
وإنما قال: ما يمكن، دون: ما يتوصل، تنبيها على أن الدليل من حيث هو دليل لا يعتبر فيه التوصل بالفعل، بل يكفي إمكانه.
والنظر هو: الفكر. وهو ترتيب أمور معلومة للتأذي إلى مجهول. كما يقال في الاستدلال على حدوث العالم _ بعد العلم بأنه متغير، وأن كل متغير حادث _: العالم متغير، وكل متغير حادث، فيؤدي هذا الترتيب إلى مجهول، وهو كون العالم حادثا.
وقوله: بصحيح النظر.لأنه لا يمكن التوصل إلى المطلوب بالنظر الفاسد.
إما صورة: بأن لا يكمل فيه شرائط المقدمتين.
وإما مادة: كما في قولنا: العالم بسيط، وكل بسيط له صانع.فصورة هذا الدليل صحيحة، ولكن مادته فاسدة. إذ ليس البساطة مما ينتقل الذهن منه إلى ثبوت الصانع، وإنما ينتقل إلى الثبوت والحدوث من الحدوث.وإن كان قد يفضي إلى المطلوب، لكن اتفاقي لا ذاتي.
وقوله: إلى العلم. لتخرج الأمارة، لأن التوصل بها إلى الظن فقط.ولذا قال: (( فأما ما يحصل عنده الظن فأمارة ))لا دليل.
وهي: ما يلزم من حصوله حصول غيره، لزوما عاديا لا ذاتيا، كان صداع الجدار، فإنه أمارة لا انهدامه.
وقد يقال في حقيقتها على انفرادها: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى الظن بالغير.
(( وقد تسمى )) الأمارة (( دليلا توسعا )) وتجوزا.
ومنهم من لم يفرق بينهما ويقول في حقيقتهما: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب.(1/11)


(( والعلم )) قد يطلق في المشهور على معان:
أحدها: مطلق الإدراك الذي يعم التصور _ وهو ما يحصل بالمعرِّف _ والتصديق _ وهو ما يحصل بالبرهان _ إما مطلقا، أو مقيدا بكونه يقينيا.
وثانيها: مطلق التصديق، الذي يساوي اليقيني من الأحكام.
وثالثها: التصديق اليقيني الذي (( هو )) عبارة عن (( المعنى المقتضي لسكون النفس إلى أن متعلقه كما اعتقده )) وهذا المعنى الثالث: هو المقصود بالعلم في تعريف الدليل، لأن المقصود منه: هو البرهان اليقيني، بقرينة ذكر الأمارة معه.
(( وهو )) أي: العلم نوعان:
(( ضروري )) يحصل بلا طلب واكتساب
(( واستدلالي ))لا يحصل إلا بهما.
وانقسامه إليهما: ضروري لا يحتاج إلى دليل، بدليل أن العاقل يجد من نفسه أنه يحتاج في بعضه إلى نظر، كالعلم بحدوث العالم، ولا يحتاج في بعض منه إلى نظر، كالعلم بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان، وبأن الكل أعظم من الجزء.
(( فالضروري )) من العلم (( مالا ينتفي )) لا (( بشك ولا شبهة )) كالعلم بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان
(( والإستدلالي مقابله )) وهو: ما ينتفي بشك أو شبهة، فيحتاج إلى دليل كالعلم بأن العلم حادث.ولهذا خالف فيه كثير من العقلاء واحتاج إلى دليل قاطع.
(( والظن تجويز راجح )) قوله: تجويز. يخرج العلم. وقوله: راجح. يخرج الوهم والشك.
(( والوهم تجويز مرجوح )) قوله: تجويز. يخرج العلم.وقوله: مرجوح. يخرج الظن والشك.
(( واستواء التجويزين )) أي: لا ترجيح لأحدهما على الأخر
(( شك )). (( والإعتقاد: هو الجزم بالشيء )).خرج الظن والوهم والشك. (( من دون سكون النفس )). خرج العلم.
(( فإن طابق )) الواقع (( فصحيح ))كاعتقاد أن الله تعالى لا يفعل القبيح. (( وإن لا )) يطابق الواقع (( ففاسد ))كاعتقاد أن الله تعالى لا يفعل القبيح، تعالى عن ذلك.
(( و ))الإعتقاد الفاسد (( هو الجهل المركَّب )). لأنه اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه.(1/12)


(( وقد يطلق )) الجهل (( على عدم العلم )) وهو المسمى بالبسيط.
وأما السهو والنسيان: فهما يخالفان الجهل، لأن السهو عدم ملكة العلم بعد حصوله، فمعناه أنه لا يصير العلم ملكة للنفس. والنسيان مثله.
وقد يفرق بينهما بأن السهو: زوال الصورة عن القوة المُدِرِكة، مع تحققه في الحافظة. والنسيان: زوالها عن المدركة والحافظة جميعا. والله أعلم.
ولما فرغ من تعريف الدليل والأمارة، شرع في بيان الأدلة الشرعية فقال :
[الأدلة الشرعية] ( فصل )
(( والأدلة الشرعية أربعة وهي:
1_ (( الكتاب )) العزيز.
2_(( والسنة )) النبوية.
3_ (( والإجماع )) . من الأمة أو من أهل البيت عليهم السلام.
4_ (( والقياس )) .
ووجه الانحصار أن يقال:
الدليل إما: وحيٌ، أو غيره. والوحي إما: متلوٌّ وهو القرآن. أولا. وهو السنة.
وغير الوحي: إن كان قولا لكل الأمة فهو الإجماع. وإن كان مشاركةُ فرعٍ لأصل في علة الحكم فهو القياس.
وسيأتي بيان الجميع إن شاء الله تعالى.
(( فالكتاب القرآن )).
غلب عليه من بين سائر الكتب المنزلة في عُرف الشرع، كما غلب على كتاب سيبويه في عرف أهل العربية. وسمي قرآنا. لأنه يُجمع ويُقرن بعضه ببعض.
وهو الكلام(( المنزل على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإعجاز بسورة منه )).فالكلام: جنس الحد. وقوله: المنزل. يخرج كلام البشر، فإنه لم ينزل. وقوله: للإعجاز. يخرج ما نزل لا للإعجاز، كسائر الكتب السماوية، كالتوراة والإنجيل وكالسنة النبوية.
والمراد بالإعجاز: قصد إظهار صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوى الرسالة بفعل خارق للعادة. وقوله: بسورة منه. بيان لقدر ما به الإعجاز. إذ لا يحصل بالآية والآيتين .
والمراد بالسورة: الطائفة المترجمة _ توقيفا _ المسماة باسم خاص.وأقلها: ثلاث آيات، فبكوثر مثلا، وهذا على القول بأن البسملة ليست بآية. فتأمل!
ومِن في قوله: منه. للتبعيض. والضمير راجع إلى القرآن.(1/13)


وإنما قلنا في تعريف السورة : الطائفة… إلى آخره. ولم نقل البعض المترجم أوله وآخره. لأن الآية أيضا كذلك، إذ لا معنى للمترجَم أولُّه وآخره إلا المبين. ولا يتبين أول الآية وآخرها إلا بالتوقيف.
فإن قلت: ما وجه الإعجاز في القرآن؟
قلت: اختلف فيه على ستة أقوال:
الأول: أنه أمر من جنس البلاغة والفصاحة، كما يجده أرباب الذوق .
الثاني: أنه الصرف. وهو أن الله سبحانه وتعالى صرف دواعي العرب عن معارضته، مع قدرتهم عليها.
الثالث: أن وجه الإعجاز: وُرُودُه على أسلوب مبان لأساليب كلامهم في خطبهم وأشعارهم، لا سيما في مطالع السور ومقاطع الآي، مثل: {يؤمنون}{ يفقهون}{ يعلمون}، ومثل: {حم} {طش} وما أشبه ذلك .
الرابع : أنه في سلامته مع طوله جدا عن التناقض .
الخامس : أنه اشتماله على الغيوب.
السادس: أنه كون قارئه لا يَكِلُّ وسامعه لا يَمِلُّ.
فهذه هي وجوه الإعجاز في القرآن على الخلاف .
والأول: هو الذي اعتمده الجمهور. ووجه الحكمة في أنه جُعِل وجه الإعجاز: أنه إذا أتى بما يخرق العادة فيما يتعاطاه المخاطَبون به ويَدَّعون الصناعة فيه، علموا عجزهم عنه. ولم يكن لأحد أن يقول: لو كنت من أهل هذه الصناعة لأتيت بمثل ما أتى به .
ورُدَّ الثاني: بأنه يُخرج القرآن عن كونه معجزا. والإجماع على خلافه. وأيضا كأن يكون غير البليغ أدخل في الإعجاز.
ورُدَّ الثالث: بأن أكثر أسلوبه يشابه أساليب الكلام، لا سيما المنثور والخطب والرسائل. وأيضا لو كان اختصاصه بأسلوب لكان التحدي بذلك لا يقع لعدم اعتيادهم له.
ورد الرابع: بأن الله تعالى إنما تحداهم بأن يأتوا بما يساويه في الفصاحة والبلاغة فقط.
ورُدَّ الخامس: بأن ذلك لا يشمل القرآن. والتحدي واقع بكله، بدليل {من مثله}، وأيضا كثير من الكتب المتقدمة فيه ذلك، وليس بمعجز.
ورُدَّ السادس: بأن للخصم أن يقول: إنما لَذَّ لكم لاعتقادكم صحته، والإيمان به، وحصول الثواب عليه.(1/14)


فثبت أن وجه الإعجاز: هو الفصاحة لاستقلالها بذلك.
نعم. ولا يقدح هذا الاختلاف في وجه الإعجاز في: إعجازه. لأنه قد اتُّفِق على الحكم وهو: الإعجاز . فلا يضر الاختلاف في علته. بل لا يضر الجهل بها والله أعلم.
واعلم: أن التعريف المتقدم للقرآن والسورة لفظي، بالنسبة إلى من يعرف الإعجاز والسورة. فهو تعريف لهما بأي: راد لفظ أشهر، يزيل الشَّبه، وليس تعريفا باللازم البَيِّن، إذ لا يخفى أن كون القرآن للإعجاز مما لا يعرف مفهومه ولزومه إلا أفراد من العلماء، فلا يكون بَيِّنًا. كذا ذكره بعض المحققين والله أعلم.
(( وشرطه )) أي: شرط كونه قرآنا (( التواتر )) اللفظي. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
ولا خلاف في ذلك في جملة القرآن. وأما القرآءآت المروية، فسيأتي الخلاف فيها.
(( فما نقل )) من القرآن حال كونه(( آحاديا فليس بقرآن )).
وإنما اشتُرِط ذلك(( للقطع بأن العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله )) أي: هو وما كان مثله، مما تتوفر الدواعي إلى نقله، وذلك لما تضمنه من الإعجاز الدال على صدق المُبَلِّغ . ولأنه أصل سائر الأحكام. والعادة تقضي بوجوب التواتر في تفاصيل ما كان كذلك. حتى يحصل العلم اليقين بثبوته. فما نُقِل غير متواتر عُلِم: أنه ليس بقرآن _ قطعا _.
وبهذا الطريق يُعلم أن القرآن لم يعارض
(( و ))إذا تقرر وعُلم أن القرآن شرطه التواتر عُلم: أنها(( تحرم القراءة )) للقرآن (( بـ )) القرآءآت (( الشَّوآذ )). لأنها ليست بقرآن كما تقرر.
(( و )) الشواذ (( هي ما عدى السبع )) القرآءآت التي هي قرآءة:
1_ نافع.
2_ وأبي عمر وبن العلا النحوي.
4_ فبكسائي.
5_ وابن كثير.
6_ وابن عامر.
7_ وعاصم.
7_ وحمزة.
وأما هذه فمتواترة قطعا. على الصحيح، ومن فَتَّش وجد عدد الرواة لها بالغا حد التواتر.
وقال البغي: بل الشاذة ما عدى العشر القرآءآت. وهي: السبع المتقدمة، وقراءة:
8_ أبي يعقوب الحضرمي.
9_ وأبي معشر الطبري.(1/15)

3 / 49
ع
En
A+
A-