وقد يأتي بصيغة الخبر، كقوله تعالى: {والوالدات يرضعن }.أي: ليرضعن .كما يأتي الخبر بصيغة الأمر، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت ).أي: صنعت. ونحو ذلك .
وقوله: على جهة الاستعلاء. ليخرج ما كان على جهة التسفل. وهو الدعاء. نحو : اللهم اغفر لي. وما كان على جهة التساوي، وهو الإلتماس. كقولك لمن يساويك رتبة: افعل كذا.
ومنهم من يشترط العلو. ومنهم من لم يشترطهما. والأول: هو المختار. والفرق بين العلو والإستعلاء أن العلو هو أن يكون الطالب أعلا مرتبة من المطلوب منه. فإن تساويا فالتماس. أو كان الطالب دون المطلوب فهو دعاء. والإستعلاء: هو الطلب لا على جهة التذلل، بل بغلظة ورفع صوت. وحاصله: أن العلو صفة المتكلم. والإستعلاء صفة الكلام. وقوله: مريدا لما تناولته. أي: الصيغة. ليخرج التهديد. نحو { اعملوا ما شئتم } .
(( والمختار )) عند الأكثر من العلماء (( أنه )) أي: الأمر
(( للوجوب )). أي: حقيقة فيه (( لغة وشرعا )) .
أما في اللغة فذاك. (( لمبادرة العقلاء )) من أهل اللغة (( إلى ذم عبد لم يمتثل أمر سيده )). وهم لا يذمون على ترك فعل، إلا والفعل واجب. فلو لا أنه حقيقة للوجوب لما فهموا ذلك منه، وتبادروا إليه. وكذلك فإنهم يصفون كل مأمور لم يفعل ما أُمر به بأنه عاص. ولا يوصف بالعصيان إلا من خالف ما حُتم عليه. ومن ذلك قول معاوية لعنه الله يخاطب مملوكه :
أمرتك أمرا حازما فعصيتني ……………..
(( و )) أما في الشرع فذلك (( لاستدلال السلف )) الماضين من الصحابة، والتابعين، وغيرهم، (( بظواهر )) صيغ (( الأوامر )). مطلقة مجردة عن القرائن، (( على الوجوب )). وتكرر ذلك وشاع وذاع، ولم ينكر عليهم أحد، وإلا لنقل. وذلك يوجب العلم باتفاقهم على ما اخترناه، كالقول الصريح .من ذلك حملهم قوله صلى الله عليه وآله وسلم في المجوس: ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) .(1/141)
وقوله في ناسي الصلاة: ( فليصلها إذا ذكرها ).
وقوله في ولوغ الكلب: ( فليغسله ).
ونظائر ذلك كثير. ولا يقال: إن السلف كما حملوا الأمر على الوجوب، حملوه أيضا على الندب. ونقل ذلك عنهم، كما نقل الحمل على الوجوب. وحملوه أيضا على الإباحة. فلا يصح هذا الإستدلال. لأنا نقول: إنهم وإن حملوه على الندب، أو الإباحة، ونقل عنهم ذلك، فإنه نقل عنهم أنهم إنما حكموا بذلك لقرائن أظهروها عند الإستدلال، تدل على ذلك. بخلاف الوجوب، فلم ينقل عنهم أنهم افتقروا إلى قرينة في حمل الأمر عليه، فصح ما قلنا. والله أعلم.
(( وقد ترد صيغته )) أي: الأمر، وهي افعل (( للندب، والإباحة، والتهديد، وغيرها، مجازا )). والمجاز لا بد فيه من علاقة. وسنذكرها في سياق الأمثلة إن شاء الله تعالى .
أما الندب. فذلك قوله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا }.
ومن الندب: التأديب. كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( كل مما يليك ) . فالأدب مندوب إليه. والعلاقة بين الندب والوجوب، مشابهة معنوية، وهي الإشتراك في الطلب .
وأما الإباحة. فكقوله تعالى : {كلوا من الطيبات }.
قيل : وأما قوله تعالى : {كلوا واشربوا }فلا يكون للإباحة. لأن الأكل والشرب واجبان لإحياء النفس.
واعلم أنه يجب أن تكون الإباحة معلومة من غير الأمر، ليكون قرينة لحمله على الإباحة، كما وقع في إباحة الأكل من الطيبات. والعلاقة هنا هي الأذن، وهي مشابهة معنوية. فاستعمال صيغة الأمر في هذين استعارة، لأن العلاقة هي المشابهة كما ترى .
وأما التهديد: فكقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم }.فليس المراد الأمر بكل عمل شاءوا. وذلك ظاهر، بل المراد التخويف، والتهديد، وهو أعم من الإنذار. لأنه إبلاغ مع التخويف. مثاله قوله تعالى: {قل تمتعوا }. والعلاقة بين التهديد والإيجاب، هي المضآدة. لأن الشيء المهدد عليه، إما حرام، أو مكروه. بخلاف الواجب. فيكون مجازا مرسلا. قوله: وغيرها. أي: غير هذه الثلاثة. وذلك:(1/142)
كالتسوية. نحو قوله تعالى: {اصبروا ولا تصبروا سواء عليكم }.أي: الصبر وعدمه سواء. والفرق بين التسوية والإباحة، أن المخاطب في الإباحة كأنه توهم كون الفعل محظورا عليه، فأذن له فيه مع عدم الحرج في تركه. وفي التسوية كأنه توهم أن أحد الطرفين من الفعل والترك أرجح له، فرفع هذا الوهم بالتسوية بنيهما. وعلاقة التسوية هي المضآدة أيضا. لأن التسوية بين الفعل والترك، مضآدة لوجوب الفعل.
والدعاء. كقول القائل: اللهم اغفر لي. وهو طلب الفعل على سبيل التضرع. والعلاقة فيه هي الطلب.
والتعجيز. كقوله تعالى : {فأتوا بسورة من مثله }. فليس المراد طلب إتيانهم بسورة من مثله لكونه محالا. والعلاقة بينه وبين الإيجاب، هي المضآدة. لأن التعجيز إنما هو في الممتنعات، والإيجاب في الممكنات.
والتسخير. كقوله تعالى : {كونوا قردة خاسئين }.فليس المراد أن يطلب منهم ذلك، لعدم قدرتهم عليه. لكن في التسخير يحصل الفعل _ أعني _ كونهم قردة. بخلاف الإهانة. ومعنى التسخير. الإنتقال إلى حالة ممتهنة. لأن التسخير لغة: هو الذل والإمتهان في العمل. ومنه قوله تعالى : {سبحان الذي سخر لنا هذا }.أي: ذللّه وأهانه لِنَركَبَه. والعلاقة فيه مشابهة معنوية، وهو التحتم في وقوعه، وفي فعل الواجب. والإهانة. كقوله تعالى: { قل كونوا حجارة أو حديدا }.فليس الغرض طلب ذلك منهم، لعدم القدرة عليه. ولا يحصل منهم أيضا. بل المقصود قلة المبالاة بهم. والعلاقة فيه هي المضآدة. لأن الإيجاب على العباد تشريف لهم، لما فيه من رفع درجاتهم. بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( ما تقرب المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم ).
أو كما قال.
والإلتماس. كقولك لمن يساويك رتبة: افعل كذا .
والعلاقة فيه هي الطلب. ونحو ذلك كثير، مما يرد بصيغة الأمر ولم يرد به الوجوب.(1/143)
هذا واعلم: أن الأمر إن ورد مقيدا بالمرة حمل عليها، وإن ورد مقيدا بالتكرار حمل عليه، وكذا الفور، والتراخي. لأن ذلك قرينة دآلة عليها. وإن ورد مطلقا. أي: غير مقيد بشيء من هذه القيود، فقد اختلف فيه من جهتين :
إحداهما: هل يدل على المرة؟ أو على التكرار ؟
فقيل: يدل على المرة.
وقيل: يدل على التكرار مدة العمر. (( والمختار أنه لا يدل على المرة، ولا على التكرار )). بل يفيد طلب المآهية من غير إشعار بأيهما. إلا أنه لا يمكن إدخال تلك المآهية في الوجود بأقل من مرة واحدة . فصارت المرة من ضروريات المأمور به. فحينئذ يدل عليها من هذه الحيثية. فتأمل!
أما أنه لا يقتضي التكرار، فلأن المأمور يعد ممتثلا بمرة .وأما أنه لا يدل على المرة فلأنه لو ورد مقيدا بها لكان تكرارا. ولو ورد مقيدا بالمرات لكان نقضا لما دل عليه الأمر.
وأما إذا ورد مقيدا بشرط، كقوله تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا }. أو بصفة، كقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} فهل يتكرر المأمور به عند تكرر شرطه، أو صفته ؟ من قال بذلك في الأمر المطلق، قال به هنا. ومن قال إنه لا يدل على ذلك، فقد اختلفوا على ثلاثة مذاهب:
فقيل: لا يقتضيه لا من جهة اللفظ ولا من جهة القياس .
وقيل: يقتضيه من جهة اللفظ. أي: هذا اللفظ قد وضع للتكرار .
وقيل: _ وهو المختار _ إنه لا يقتضيه لفظا، ويقتضيه من جهة القياس.
أما أنه لا يدل عليه من جهة اللفظ فلأنه لو قال: طلقها إن دخلت الدار.لم يلزم تكرر الطلاق بتكرر الدخول. بل يعد ممتثلا بمرة. وذلك معلوم لغة وشرعا.ولو كان يقتضيه لتكرر. كما لو قال: كلما.
وأما أنه يقتضيه قياسا. فلأن ترتب الحكم على الشرط أو الصفة، يفيد كونهما علة لذلك الحكم. فيتكرر الحكم بتكرر علته.كما مر في القياس.
الثانية: هل يدل على الفور أو على التراخي ؟
فمن قال: بالتكرار، قال بالفور . ومن لم يقل به فقد اختلفوا:
فقيل: يفيد الفور. أي: وجوبا.(1/144)
وقيل: إنه يفيد التراخي. أي : جوازا .
(( و )) المختار أنه (( لا )) يدل أيضا (( على الفور ولا )) على
(( التراخي )). بل يدل على طلب الفعل. (( وإنما يرجع في ذلك )) أي: في المرة، والتكرار، والفور، والتراخي، (( إلى ا لقرائن )) الدآلة عليها .إما على المرة. كما في الحج . وإما على التكرار. كما في الصلاة، والزكاة، والصيام .
(( و )) المختار أيضا (( أنه )) أي: الأمر إذا كان بفرض مؤقت بوقت معين (( لا يستلزم )) وجوب (( القضاء ))، ولا الأداء فيما بعد ذلك الوقت، إذا لم يفعل فيه. (( وإنما يعلم ذلك )) أي: وجوب القضاء (( بدليل آخر ))، غير الأمر. كقوله تعالى: {فعدة من أيام أخر}. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ).
وذلك: لأنا نعلم أن حكم ما بعد الوقت حكم ما قبله. فكما لا يجب الفعل قبل الوقت إلا بدليل كذلك بعده. إذ الشرائع مصالح ولا يمتنع أن يعلم الله تعالى أن المصلحة في الفعل في وقت بعينه، دون ما قبله وما بعده. وأيضا فإن الموقت بوقت كالمعلق بمكان، فكما أن المعلق بمكان لا يقتضي الفعل في غير ذلك المكان، كذلك هذا. كما إذا قيل للعبد: اضرب زيدا في الدار. لم يلزمه ضربه في غيرها. إذا لم يفعل فيها. والله أعلم.
(( وتَكريره )) أي: الأمر (( بحرف العطف )) نحو: صل ركعتين وصل ركعتين، (( يقتضي تكرار المأمور به )).بحسب تكرار الأمر
(( اتفاقا )) بين العلماء، إذ لو لم يقتضه لكان الثاني تأكيدا للأول. ولم يعهد التأكيد بواو العطف عن العرب! أو ينقل. فإن ورد في المعطوف ما يقتضي التأكيد، كالتعريف نحو: صل ركعتين وصل الركعتين. أو غيره نحو: اقتل زيدا، واقتل زيدا. وقع التعارض بين العطف المقتضي للتكرار، والقرينة المانعة منه المناسبة للتأكيد. فيرجع حينئذ إلى الترجيح بينهما. فإن ثم مرجح رُجِعَ إليه، وإلا وجب الوقف.(1/145)