(( وإن وضع اللفظ الواحد للمعاني المتعددة، لا باعتبار أمر اشتركت فيه ))، بل إنما وضع أولا لشيء واحد ثم حصل الإشتراك من بعد من جهة تعدد الوضع: (( فهو المشترك اللفظي )). إذ الإشتراك في لفظ فقط.وذلك: (( كعين. للجارية، والجارحة )). فتسمية كل واحد منهما عينا ليس باعتبار أمر اشتركتا فيه. إذ الواضع الأول وضع العين للجارية مثلا فقط. والثاني وضعها للجارحة فقط. فلما تعدد الوضع حصل الإشتراك. بخلاف لفظ الحيوان، فإنه موضوع للإنسان والفرس والجمل وغيرها. باعتبار أمر اشتركت هذه الأشياء فيه، وهي الحيوانية. إذ الواضع وضعه لكل ما يتصف بها. والله أعلم .
(( فصل ))(( و )) أما لفظ (( المجاز ))
فوزنه مَفْعَل. لأن أصله مجوز أُعِلَّ إعلال أصله، وهو جاز، بأن نُقِلت حركة حرف العلة إلى ما قبله، ثم قلب ألفا.
وأما معناه في اللغة فهو: إما بمعنى المصدر وهو الجواز، أو بمعنى مكانه أو زمانه. لأن مفعلا يستعمل لهذه الثلاثة المعاني.
ثم استعمل للكلمة الجائزة أي: المتعدية مكانها الأصلي. واستعماله فيها مجاز لغوي، لاستعماله في غير ما وضع له لعلاقة.
وهي الجزئية. إن نُقِل من المصدر لأنه جزء منه.
أو المجاوزة. إن نُقِل من اسم المكان.
قيل:ولا يمكن أن ينقل من اسم الزمان، لعدم العلاقة بينه وبين الجائزة.
وأما استعماله في المعنى الاصطلاحي أي: المصطلح عليه: فهو حقيقة عرفية خاصة. والله أعلم(1/136)


والمعنى المصطلح عليه: (( هو الكلمة المستعلمة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب، لعلاقة مع قرينة )). قوله: الكلمة. جنس قريب للحد. وقوله: المستعملة. احتراز من الكلمة قبل الاستعمال، وبعد الوضع. فإنها ليست بحقيقة ولا مجاز. وفي اصطلاح التخاطب. متعلق بقوله. وضعت. أي(1): لا يشترط أن تكون مستعملة في غير ما وضعت له، إلا في اصطلاح التخاطب. ولو استعملت فيما وضعت له في اصطلاح آخر. وذلك: كالصلاة إذا استعملها الشارع في الدعاء، كما في قوله تعالى : {وصل عليهم} فإنها عنده مجاز. وإن كانت مستعملة فيما وضعت له. لكن في اصطلاح آخر. وقوله: لعلاقة. أي: بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي. واحترز به عن الغلط. نحو استعمال الأرض في السماء. فإنه لا يكون مجازا، لعدم العلاقة بينهما. والعلاقة تَعَلُّقٌ ما للمعنى المجازي بالمعنى الحقيقي. وسيأتي تفصيلها. قوله: مع قرينة. أي: تدل على أنه لم يرد معناه الحقيقي. قوله: في اصطلاح التخاطب. يشمل المجازات جميعها:
• ... اللغوي كالأسد للرجل الشجاع.
• ... والشرعي كاستعمال الصلاة في الدعاء.
• ... والعرفي العام كاستعمال الدآبة في كل ما يدب.
• ... والعرفي الخاص كاستعمال الجوهر في النفيس.
• ... والديني كاستعمال الإيمان في التصديق مطلقا.
واعلم أن المجاز لا يقف على نقل عن العرب، بمعنى أنا لا نقتصر في التجوز على ما تَجَوَّزت فيه _ على الصحيح _ بل إذا صحت العلاقة، فلكلٍ أن يتجوز. ويُعد ذلك من كمال البلاغة.
وأما العلاقة فالصحيح أنه لا بد من اعتبار العرب لها. فإذا وجدت العلاقة المعتبرة صح المجاز من كل أحد. والله أعلم.
(( وهو )) أي: المجاز باعتبار العلاقة (( نوعان )):
__________
(1) - عبارة الشارح غير دقيقة، ولو قال: ( أي يشترط أن تكون مستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب لا في غيره ).لكان أحسن.(1/137)


(( مرسل )) إن كانت العلاقة غير المشابهة، كالسببية أي: إطلاق اسم السبب على المُسبَّب. مثل قولهم: رعينا الغيث. أي: النبات. لأن الغيث سببٌ فيه.
أو العكس أي: إطلاق المسبب على السبب. نحو: شرب الإثم. أي: الخمر. لأن الإثم مسبَّبٌ عن شرب الخمر.
أو تسمية الشيء باسم آلته (( كاليد )). التي هي حقيقة في الجارحة، إذا استعملت (( للنعمة )). كما يقال: لفلان علي يد. أي: نعمة .
(( و )) إطلاق اسم الجزء على الكل. كإطلاق اسم (( العين )) التي هي حقيقة في الحدقة، إذا استعلمت (( لِلرَّبِيئَة )) وهو الجاسوس. والعكس _ أعني _ تسمية الجزء باسم الكل. كتسمية السورة قرآنا. وغير ذلك من علائق المجاز المرسل. كما هو مذكور في موضعه.
(( واستعارة )).إذا كانت العلاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي المشابهة. فإن ذكر المشبه به وأريد المشبه، فهو الإستعارة المصرحة. (( كالأسد، للرجل الشجاع )).
وإن لم يذكر المشبه به، بل ذكر ما هو من لوازمه مضافا إلى المشبه، فهي الاستعارة بالكناية. كقولهم: أظفار المنية نشبت بفلان. شبَّه المنية بالسبع، وذكر ما هو من لوازمه وهو الأظفار، وإضافه إلى المنية. وإن ذُكِرا معا، فهو التشبيه .
(( و )) المجاز (( قد يكون )) مفردا. كما تقدم من الأمثلة.
وقد يكون (( مركبا )). إذا كان وجهه منتزعا من متعدد. (( كما يقال للمتردد في أمر: أراك تقدم رجلا، وتؤخر أخرى )). فقد شَبَّه صورة تردده في ذلك الأمر، بصورة تَرَدُّد من قام ليذهب. فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلا، وتارة لا يريد فيؤخر أخرى. فقد انتزع وجه التشبيه من متعدد. كما ترى.
(( وقد يقع )) المجاز (( في الإسناد )) فقط. إذا كان إلى غير من هو له. وهو المسمى بالعقلي. (( مثل )) قولهم: (( جَدَّ جَدُّه )). ومنه قول أبي: فراس شعرا :
سيذكرني قومي إذا جد جدهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.(1/138)


ومثل قوله تعالى : { أخرجت الأرض أثقالها }. فإسناد الإخراج إلى الأرض مجاز. إذ المخرج هو الله تعالى.
وقد يقع فيهما أي: في المفرد، والإسناد جميعا. كقولك لمن تحبه أحياني اكتحالي بطلعتك. أي: سرتني رؤيتك. فاستعمل الإحياء في السرور، والإكتحال في الرؤية. وهذا مجاز في المفرد. ثم أسند الإحياء إلى الإكتحال. وهو مجاز في الإسناد. لأن المحيي هو الله تعالى.
(( ولاستيفاء الكلام في ذلك )) أي: في الحقيقة والمجاز، وأقسامها، وما يتعلق بذلك، (( فنٌّ آخر )). وهو فن المعاني والبيان. فهذا الذي ذكره المصنف هو الذي يليق بهذا الفن، ومن أراد الإستيفاء فليرجع إلى ذلك.
(( وإذا تردد الكلام بين المجاز والإشتراك )). أي: إذا ورد لفظ يحتمل معنيين، وتردد بينهما، هل حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر؟ أو مشتركا بينهما ؟ (( حُمِل على المجاز )) في أحدهما، والحقيقة في الآخر. أي: يحمل على أنه مجاز في أحدهما، وحقيقة في الآخر.ولا يحمل على أنه مشترك. وذلك: كالنكاح. فإنه يحتمل أنه حقيقة في العقد، مجاز في الوطء. وأنه مشترك بينهما، أي: حقيقة فيهما. فيحمل حينئذ على أنه مجاز في الوطء، حقيقة في العقد. ولا يحمل على أنه مشترك بينهما. لأن المجاز أكثر وأغلب من الإشتراك. عُلم ذلك بالإستقراء. والظن يقضي بأن المفرد يلحق بالأغلب. ولأنه قد يكون أبلغ من الحقيقة. فإن قولك: اشتعل رأسي شيبا، أبلغ من قولك: شبت. ولأنه لا يخل بالفهم، إذ يحمل مع القرينة عليه. ومع عدمها على الحقيقة. بخلاف الإشتراك عند خفاء القرينة، فإنه لا يفهم منه شيء على التعيين. ولأن المجاز يكفي فيه قرينة واحدة. والمشترك لا بد فيه من قرينتين.
(( ويتميز المجاز من الحقيقة )) بأمور:
منها: أنه يتميز (( بعدم اطِّراده )) في كل ما يصلح له، كنخلة للرجل الطويل فقط. ولا يَطَّرِد في كل طويل، فلا يقال للجدار الطويل: نخلة. بخلاف الحقيقة. فإنها تَطَّرد في كل ما تصلح له .(1/139)


(( و )) منها: (( صدقُ نفيه )). بخلاف الحقيقة. كما يقال للبليد: ليس بحمار.
ومنها: استعمال اللفظ مع القرينة. وهي إما:
مقالية. كقولك رأيت أسدا في يده سيف.
أو حالية. كأن يحمل على القوم رجل شجاع، فيقول أتاكم الأسد.
أو يستعمل اللفظ في المستحيل. كقوله تعالى : {واسأل القرية }.
(( وغير ذلك )) من قرائن المجاز.
وأما قرائن(1) الحقيقة وهي إما: سبق فهم جماعة من أهل اللغة إلى أحد المعنيين بدون قرينة. فإن هذا يدل على أن اللفظ حقيقة في ذلك المعنى.كما روي أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما سمع قول العباس بن مرداس :
أيقسم نهبي ونهب العبيد ... بين عُيَيَنة والأقرع
قال: اقطعوا لسانه. تجوزا في تسكيته بالعطاء. فتبادر إلى فهم بعضهم أن المراد القطع حقيقة. أي: بالسكين. وسبق الفهم إليه لعدم القرينة. فدل ذلك على: أن اللفظ حقيقة فيما سبق الفهم إليه. لأن السامع لو لم يعلم أن الواضع وضعه له، لم يسبق فهمه إليه دون غيره.
وأما تَعَرِّي اللفظ عن القرائن حيث سمعنا العرب يُعبِّرون بلفظ واحد عن معنيين، لكن لا يستعملونه مع أحدهما إلا بقرينة، ومع الآخر بغير قرينة، فيكون اللفظ في المعنى الآخر حقيقة. كلفظ الأسد، فإنه يُستعمل في الرجل الشجاع، وفي السبع المفترس. لكن في الرجل بقرينة، وفي السبع بغيرها .
وإما أن ينص إمام في اللغة: على أن هذا اللفظ حقيقة، أو مجاز. ونحو ذلك من القرائن كثير.
(( الباب الخامس ))من أبواب الكتاب (( في الأمر والنهي )).
أما (( الأمر )) فالصحيح أنه حقيقة في الصيغة المخصوصة. لسبق الفهم عند إطلاقه إلى ذلك من دون قرينة.
وهي (( قول القائل لغيره: افعل، أو نحوه، على جهة الإستعلاء، مريدا لما تناوله )). قوله: افعل أو نحوه. فصلٌ يخرج النهي. ونحو افعل: لِيَفْعل ولأ فعل، واسم الفعل بمعناه نحو: تَرَاكِ .
__________
(1) _ صواب العبارة:خوآص.(1/140)

28 / 49
ع
En
A+
A-