الكلام هنا في لفظيهما، ومعنييهما لغة واصطلاحا. أما لفظ الحقيقة فوزنها: فعيلة. وهي مشتقة من الحق. والحق لغة: الثبوت. قال الله تعالى: { ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين } . أي: ثبتت .
ومن أسمائه تعالى: الحق. لأنه الثابت .
وأما معناها لغة: فهي: إما بمعنى فاعل. لأن فعيلا قد يكون بمعناه
كسميع بمعنى سامع. فمعناها: الثابتة. من قولهم: حق. إذا ثبت. وهي ثابتة فيما وضعت له .
وإما بمعنى: مفعول. لأن فعيلا أيضا قد يكون بمعناه كقتيل بمعنى:
مقتول. ومعناها حينئذ: المثبتة. من حققت الشي إذا أثبته. وهي كذلك. أي: مثبتة في محلها الأصلي. فهذا هو معناها لغة. فهي بهذا الاعتبار صفة .
وأما معناها اصطلاحا فقد بينه المصنف بقوله: (( الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح التخاطب )). فالكلمة: جنس الحد. لأنها تشمل الحقيقة وغيرها. ولم يقل: اللفظ. لأن اللفظ جنس بعيد، من حيث شموله للمهمل وغيره. بخلاف الكلمة، فهي جنس قريب، لخروج المهمل منها. إذ لا يسمى كلمة. وقوله: المستعملة. احتراز عن الكلمة التي لم تستعمل. وإن وضعت فإنها لا تسمى حقيقة ولا مجازا. وقوله: فيما وضعت له. ليخرج الغلط. نحو: خذ هذا الفرس، مشيرا إلى كتاب. والمجاز. لأنه مستعمل فيما لم يوضع له، كالأسد في الرجل الشجاع. وقوله: في اصطلاح التخاطب. يخرج المجاز المستعمل فيما وضع له. لكن في غير اصطلاح التخاطب، كالصلاة مثلا إذا استعملها الشارع في الدعاء. فإنه قد استعملها فيما وضعت له. لكن في اصطلاح آخر غير اصطلاحه. وهذا الحد يشمل جميع أقسام الحقيقة. والمراد بالوضع أما في اللغة فهو تخصيص اللفظ بما استعمل فيه .
وأما في غيرها فهو غلبة الإستعمال. فهذا معنى الحقيقة اصطلاحا. فالتاء فيها: للنقل من الوصفية إلى الاسمية. كالنتيجة، والأكيلة. فإنها للنقل إذ لا يأتي في الصفة. فلا يقال: شاة أكيل، ولا نطيح.(1/131)
فإن قلت: فما يكون لفظ الحقيقة بعد استعمالها في هذا المعنى ؟
قلت: يكون إما حقيقة عرفية، إن كان استعمالها في هذا المعنى غالبا، وإن كان غير غالب فهو مجاز. لأنه قد استعمل في غير ما وضع له في الأصل. والله أعلم.
(( وهي )) على المختار: خمسة أقسام :
1_ (( لغوية )). وهي مااستعمله الواضع الأصلي فيما وضع له. كالأسد للسبُع المفترس. والإنسان، والفرس، والسماء، والأرض، في مسهياتها المعروفة.
والواضع الأصلي للغات هو: البشر واحدا، أو جماعة، على المختار. ويحصل تعرُّفها بالإشارة والقرائن كالأطفال.
وطريق معرفتها: النقل. وهو بالتواتر فيما لا يقبل التشكيك كالأرض، والسماء، والحَرّ، والبرد، ونحوها. وبالآحاد في غير ذلك. فإن طرقه النقل عن أئمة اللغة. فإن اتفقوا وهم عدد كثير لا يتواطؤ مثلهم على الكذب، فقطعي. كنصوص القرآن الصريحة. فإنها مما اتفق أئمة اللغة على أن معانيها ما دلت عليه. وإلا فظنية. فتأمل ذلك! والله أعلم .
2_ (( وعرفية عامة )). وهي: ما نقله أهل العرف من معناه الأصلي إلى معنى آخر، وغلب عليه. كالدآبة لذوات الأربع . بعد أن كانت في الأصل لكل ما دَبَّ . وكالقارورة لما استقر فيه الشيء من الزجاج. بعد أن كانت في الأصل لما استقر فيه الشيء من إناء، أو غيره، وأشباههما كثير.
3_ (( واصطلاحية )). وهي: العرفية الخاصة. وهي ما نقله ناس مخصوصون من معناه الأصلي إلى معنى آخر، وغلب عليه بينهم . وذلك: كاصطلاح النحاة في جعلهم الرفع لعلامة الفاعل، وما أشبهه. بعد أن كان في الأصل للإرتفاع ضد الانخفاض. وكاصطلاح علماء الكلام في جعلهم الجوهر للمتحيز، بعد أن كان في الأصل: للنفيس. وما أشبه ذلك.
5_ (( وشرعية )). وهي: ما نقله الشرع من معناه الأصلي إلى معنى آخر، وغلب عليه عنده. وذلك: كالصلاة لذات الأذكار والأركان المخصوصة. بعد أن كانت في الأصل: للدعاء. قال تعالى : { وصل عليهم } . أي: أدع لهم.
وقال الأعشى:(1/132)
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ……………..
أي: دعوت.
وكذلك: الزكاة. فإنها في الشرع: اسم لأداء مال مخصوص. بعد أن كانت في الأصل: للنماء .
وكذا الصيام: في الشرع للإمساك عن المفطرات، من الفجر إلى الغروب مع شرائط . بعد أن كانت للإمساك مطلقا .
وكذا الحج: اسم للعبادة المختصة بالبيت الحرام. بعد أن كان في الأصل: للقصد للشيء المعظم على جهة التكرار .
6_ (( ودينية )) وهي: اسم لنوع خاص من الشرعية.
وهي: ما وضعه الشارع ابتداء. بعد أن كان لا يعرف أهل اللغة لفظه، أو معناه أو كليهما. وليس من أسماء الأفعال، كالصلاة، والصوم، والمصلي، والصائم.
والظاهر أن الواقع هو القسم الثاني. وهو ما لم يعرف أهل اللغة معناه، وذلك كالمؤمن والإيمان. فهذه هي أقسام الحقيقة على الصحيح. والدليل على إثبات الشرعية: وقوعها في لفظ الصلاة، والزكاة. كما تبين.
وعلى إثبات الدينية: أن الإيمان في اللغة: التصديق، وفي الشرع: العبادات المخصوصة. لأنها الدين المعتب.ر بدليل قوله تعالى: { ليعبدوا الله مخلصين له الدين }. والمقصود به العبادات المذكورة، وغيرها. لكن اكتفى بذكرها لأنها الأساس. والدين المعتبر: هو الإسلام. لقوله تعالى: { إن الدين عند الله الإسلام }. والمراد به: الإيمان. حيث يقبل من مبتغيه. إذ لو كان غيره لما قبل، لقوله تعالى: { فلن يقبل منه }. وهو مقبول إجماعا. فثبت أن الإيمان: هو العبادات. وهو المطلوب. والله أعلم .
واعلم: أنه يخرج المجاز عن الأقسام الأربعة بقيد الغلبة، لأن اللفظ إذا أطلق بعد أن قد غلب على شيء، فُهم منه ذلك الشيء بغير قرينة. والمجاز ليس كذلك .
(( و )) الحقيقة خمسة أقسام:
1_ متباينة.
2_ ومنفردة.
3_ ومترادفة.
4_ ومشككة.
5_ ومتواطئة .
وذلك لأنها إما أن تتعدد لفظا ومعنى، أولا ؟(1/133)
(( إن تعددت لفظا ومعنى: فمتباينة )). كالإنسان، والفرس، فإنهما متعددان لفظا _ وهو ظاهر _ ومعنى. لأن الإنسان: هو الحيوان الناطق. والفرس: هو الحيوان الصاهل .
(( و )) إن لم تتعدد كذلك. فإما أن تتحد لفظا ومعنى، أولا ؟
(( إن اتحدت لفظا ومعنى: فمنفردة )). أي: فهي الحقيقة المنفردة. وذلك: كزيد في مفهومه. فإنه متحد لفظا ومعنى.وهو ظاهر.
(( وإن ))لم تتحد كذلك، بل (( تعددت لفظا، و اتحدت معنى: فمترادفة )). وذلك: كالإنسان والناطق، فإن لفظهما متعدد، ومعناهما واحد. ولو قال: متساوية لكان أَولى.
(( وإن تعددت معنى، واتحدت لفظا، فإن وضع )) اللفظ
(( لتلك المعاني )) المتعددة (( باعتبار أمر )) كلي (( اشتركت )) تلك المعاني (( فيه )) أي: في ذلك الأمر (( فمشكِّكٌ )).
لكن (( إن تفاوتت )) تلك المعاني في استحقاق ذلك اللفظ بأولية، أو أولوية. أي: بأن يكون حصول اللفظ في بعض أفراده قبل حصوله في الآخر، أو أولى من حصوله فيه، وذلك:
(( كالموجود، للقديم والمحدث )). فإن لفظ الموجود حاصل في القديم قبل حصوله في المحدث. وهو أيضا أولى وأتم.
وسمي مشكِّكا لأن النظر فيه يوقع في الشك، هل هو متواطئ من حيث اتفاق أفراده في أصل المعنى، أو مشترك من حيث تفاوت أفراده في الاستحقاق ؟
(( وإن لم تتفاوت )) أفراده في استحقاق اللفظ، بل تساوت فيه (( فمتواطئ )). إذا صدق عليها على سواء. كالإنسان والفرس، فإنَّ صدقهما على أفرادهما بالسوية، وليس بعض الأفراد أولى به من بعض.
وسمي متواطئا لتوافق الأفراد في معناه. من التواطؤ، وهو التوافق. (( وحينئذ )) أي: حين إذ لم تتفاوت بل اتحدت، (( فإن اختلفت حقائق تلك المعاني )) الدآل عليها اللفظ، بأن يكون فصل كل حقيقة غير فصل الأخرى. (( فهو: الجنس كالحيوان )). فإن لفظه قد دل على معانٍ مختلفة الحقائق، كالإنسان، والفرس، والجمل، والحمار. وهي لا تتفاوت في استحقاق لفظ الحيوان.(1/134)
وحقيقة الجنس: هو المقُول على الكثرة المختلفة الحقيقة في جواب ما هو؟
وهو ينقسم إلى قسمين:
• ... قريب.
• ... وبعيد.
لأنه إن كان تمام المشترك بين المآهية، وبين جميع ما يشاركهما فيه كالحيوان مثلا، فإنه تمام المشترك بين الإنسان، وبين جميع ما يشاركه في الحيوانية. فيكون أيضا تمام المشترك بينه وبين بعض المشاركات فيه: فهو الجنس القريب. وإن لم يكن تمام المشترك بين المآهية وبين جميع المشاركات فيه، بل بينهما وبين بعض المشاركات فيه: فهو الجنس البعيد. كالجسم النامي، فإنه تمام المشترك بين الإنسان وبين بعض المشاركات فيه:وهو الشجر مثلا.
وأما بعض المشاركات فيه فليس تمام المشترك بين الإنسان وبين ذلك البعض كالفرس. إذ تمام المشترك الجسم النامي الحساس المتحرك بالإرادة.
(( وإلا )) تختلف حقائق تلك المعاني، بل اتحدت (( فهو النوع. كالإنسان )). فإن لفظه قد دل على معانٍ متحدة الحقيقة. كزيد، وعمر، وبكر، وخالد. وهي لا تتفاوت في استحقاق لفظ الإنسان. وحقيقة النوع: المقول على الكثرة المتفقة الحقيقة في جواب ما هو؟
(( وبعضهم يعكس )). ويقول: إن اختلفت حقائق تلك المعاني: فهو النوع. وإن اتحدت: فهو الجنس. وهذا هو اصطلاح الأصوليين، فإنهم قالوا: المندرج كالإنسان جنس، والمندرج فيه كالحيوان نوع. والأول: اصطلاح أهل المنطق. وعلى اصطلاح أهل الأصول يقال للإتفاق في الحقيقة: تجانس. وللإختلاف فيها تنوع.(1/135)