(( فحوى الخطاب. نحو قوله تعالى : { ولا تقل لهما أف } فإنه يدل على )) ثبوت الحكم. وهو (( تحريم الضرب بطريق الأَولى )). فإنه يُعلم من تحريم التأفف المنطوق به، أن تحريم الضرب المفهوم منه أَول . إذ الأذية فيه أبلغ، والمقصود المنع منها. وهما متفقان في الحكم، وهو إثبات التحريم.
ومن ذلك قوله تعالى: { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعلم مثقال ذرة شرا يره } فإنه يعلم منه ثبوت الحكم. وهو الجزاء في المسكوت عنه. وهو ما فوق المثقال بطريق الأَولى. لأنه إذا ثبت الجزاء المكنَّى عنه بالرؤية في المثقال، فما فوقه أَولى وأحرى!!
(( فإن لم يكن فيه )) _أي: في المسكوت عنه _ (( معنى الأَولى )) بأن يكون مساويا للمنطوق به في ثبوت الحكم، (( فهو: لحن الخطاب )). أي: معناه. قال تعالى : { ولتعرفنهم في لحن القول } وذلك: (( نحو قوله تعالى : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مأتين } . فإنه )) أي: هذا اللفظ (( يدل )) بالمفهوم (( على
)) وجوب (( ثبات الواحد للعشرة )) للإتحاد في الحكم _ وهو وجوب الثبات _ لكن (( لا بطريق الأَولى )). بل بطريق المساواة. وذلك واضح. والله أعلم .
(( و )) النوع (( الثاني )) من نوعي المفهوم (( مختلف فيه )) بين العلماء.
فمنهم من يأخذ به أجمع.
ومنهم من نفاه أجمع.
ومنهم من فَصَّل، فأخذ ببعض دون بعض _ وهو المختار _
(( ويسمى )) هذا النوع (( مفهوم المخالفة )). لتخالف المنطوق، والمفهوم في الحكم .
(( و )) لذلك قيل في تفسيره (( هو: أن يكون المسكوت عنه مخالفا للمنطوق به في الحكم )) إثباتا ونفيا.
(( ويسمى )) هذا النوع من المفهوم في اصطلاح الأصوليين: (( دليل الخطاب )). أي: الدليل المأخوذ من الخطاب. فهو من باب إضافة الشيء إلى جنسه. كما في: خاتم فضة. أي: خاتم من فضة. وكذلك دليل الخطاب. أي: دليل من دلالات الخطاب .
(( وهو )) أي: مفهوم المخالفة (( أقسام ستة )):(1/126)
الأول: (( مفهوم اللقب )). وهو نفي الحكم عما لم يتناوله الاسم. مثل: في الغنم زكاة . فيفهم منه أن غير الغنم لا زكاة فيها.
ومثل: زيد في الدار . يفهم منه أن غير زيد ليس في الدار .
(( و )) هذا المفهوم (( هو أضعفها )). أي: أضعف مفاهيم المخالفة لما يأتي إن شاء الله.
(( والأخذ به قليل )). أي: أقل من الأخذ بغيره من المفاهيم، والصحيح: أنه غير مأخوذ به. إذ لو أُخذ به للزم الكفر. إذ كان يلزم من قولنا: محمد رسول الله، نفي الرسالة عن غيره من الأنبياء عليهم السلام. وكذلك من قولنا: زيد موجود، وعمرو عالم، وبكر قادر، إذ يفهم منه نفي هذه الصفات عن غيره. فيلزم نفيها عن الله تعالى. واللوازم باطلة. فكذلك الملزومات. وهذا واضح كما ترى .
وقد قيل: إنه يؤخذ به في أسماء الأجناس، كالغنم دون الأشخاص كزيد .
(( و )) الثاني (( مفهوم الصفة )). وهو: ما يفهم من تعليق الحكم بصفة من صفات اللفظ. مثل: في الغنم السائمة زكاة. فإن للغنم صفتين السوم والعلف. وقد عُلِّق الحكم وهو وجوب الزكاة بإحدى صفتيها، وهو السوم.
(( وهو )) أي: هذا المفهوم (( أقوى )) مما قبله. (( والأخذ به أكثر )) من الأخذ بمفهوم اللقب. لأن من أخذ بمفهوم اللقب، أخذ بهذا من دون عكس .
قال الإمام المهدي عليه السلام في شرح المعيار: والصحيح أنه لا يعمل به أيضا. أما أولا: فلأنه كان يلزم من قوله تعالى: { ولا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } جواز أكل القليل منه. إذ يفهم منه ذلك. والمعلوم أن القليل والكثير على سواء في التحريم .(1/127)
وأما ثانيا: فلأن تعليق الحكم بالوصف لا يفيد نفيه _ أعني _ الحكم عما لم يتصف به. بل إنما ينتفي إما لعدم الدليل فيه، فيبقى على الأصل، أو لدليل خاص. إذ الصفة إنما وضعت في اللغة للتوضيح في المعارض. كما في: جاءني زيد العالم. والتخصيص في النكرات. كما في: جاءني رجل عالم. فلا تفيد الصفة في المثالين المذكورين إلا توضيح الذي جاء، أو تخصيصه. لا نفي المجيء عمن ليس بعالم. إذ لم توضع للتقييد _ وهو قصر الحكم على المتصف بها ونفيه عمن سواه _ والله أعلم .
واعلم أن الذين اخذوا بهذا المفهوم اختلفوا: هل يدل على نفي الحكم عما هو صفة له في اللفظ؟ أو عن كل ما يتصف به؟ مثلا: في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( في الغنم السائمة زكاة ) هل تدل الصفة على نفي وجوب الزكاة عن المعلوفة من الغنم فقط، أو على نفيها عن المعلوفة من جميع الأجناس الغنم وغيرها ؟
قيل: والصحيح أنها إنما تدل على النفي في ذلك الجنس الذي وقعت الصفة له كالغنم، ولعل ذلك بالمفهوم . وأما القياس فيصح والله أعلم.
(( و )) الثالث (( مفهوم الشرط )). وهو: ما يفهم من تعليق الحكم على شيء بكلمة إن، أو غيرها من أدوات الشرط اللغوية .
(( وهو )) أي: مفهوم الشرط (( فوقهما )). أي: فوق المفهومين المتقدمين في القوة. والأخذ به أكثر من الأخذ بهما. لأن من أخذ بهما أخذ به من دون عكس. مثاله قوله تعالى : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن } . يفهم منه أنهن إن لم يكنَّ أولات حمل، فلا ينفق عليهن.
واعلم أنه لا خلاف في أنه: يثبت المشروط عند ثبوت الشرط. بدلالة إن عليه. وفي أنه: يعدم المشروط عند عدم الشرط.
واختلفوا هل ذلك بدلالة إن عليه؟ أو هو منتف بالأصل؟
والصحيح أنه بدلالة إن عيه. لأن النحاة نصوا على: أنها للشرط. ويلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط. وإلا لم يكن لذكره فائدة .(1/128)
(( و )) الرابع (( مفهوم الغاية )). وهو استمرار الحكم إلى وقت معلوم. مثل قوله تعالى : { وأتموا الصيام إلى الليل } .فمفهومه ارتفاع وجوبه عند دخول الليل. وكذلك قوله تعالى : { فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } .فمفهومه عدم الإنفاق عقيب وضع الحمل.
(( و )) هذا المفهوم (( هو أقوى منها )). أي: من الثلاثة المتقدمة. والأخذ به أكثر من الأخذ بما قبله. لأن من أخذ بما قبله أخذ به، من دون عكس. والمختار: أنه يؤخذ به. لأن وضع حرف الغاية لرفع الحكم عما بعدها. كما في المثالين المذكورين. وإلا لم يتبين للفعل آخر. ولأنه بمنزلة قوله: آخر وقت وجوب كذا وقت كذا. وهذا يقتضي ارتفاع الوجوب عند دخول ذلك الوقت. فكذا إذا قال: إلى كذا. أو حتى كذا. والله أعلم.
(( و )) الخامس: (( مفهوم العدد )). وهو: ما يفهم من تعليق الحكم بعدد معين. مثل: قوله تعالى: { فاجلدوهم ثمانين جلدة } . فمفهومه تحريم الزيادة والنقصان. وهو مأخوذ به عند الأكثر.
(( و )) السادس: (( مفهوم إنما )). نحو قوله تعالى: { إنما الصدقات للفقراء } . وكذلك ما أفاد القصر، كالإستثناء نحو ما الصدقات إلا للفقراء. فمفهومه أنه لا شئ من الصدقة لغير من ذُكر، وأما أنها لا تجب لغيرهم فمنطوق.
وكذلك لا إله إلا الله. مفهومه أن الله إله. وأما نفي إلهية الغير فمنطوق. فتأمل!
وكتقديم الوصف على الموصوف الخاص وجعله مبتدأ والموصوف خبرا نحو: العالم زيد. يفهم منه أنه لا عالم غيره .
(( وقيل هما )) أي: مفهوما العدد، وإنما. وكذا ما أفاد الحصر مما ذكرنا: (( منطوقان )). أي: يدلان على الحكم بالمنطوق لا بالمفهوم. لإفادة الحصر فيما دلا عليه .
(( وشرط الأخذ بمفهوم المخالفة على القول به ))، أي: عند من يقول به، ويعمل بمقتضاه ثلاثة شروط:(1/129)
الأول: (( أن لا يخرج الكلام مخرج الأغلب )). أي: ما قد اعتِيد في أغلب الأحوال. فإن كان كذلك لم يؤخذ به. مثل قوله تعالى: { وربائبكم اللاتي في جحوركم } . فلم يرد بذلك التقييد، وأن الربائب إذا لم يكنَّ في الحجور كن حلالا . للإجماع على تحريم الربيبة مطلقا. لأن الغالب كون الربائب في الجحور، ومن شأنهن ذلك. فقيد به لذلك. لا لأن اللاتي لسن في الحجور بخلافه .
(( و )) الثاني: أن (( لا )) يأتي المذكور جوابا (( لسؤآل )). أي: لسؤآلِ سائل عن المذكور. نحو أن يُسأل: هل في سائمة الغنم زكاة؟
فيقول: في سائمة الغنم زكاة. فلا يؤخذ منه أن المعلوفة لا زكاة فيها. لأن الوصف إنما أُتِيَ به لمطابقة السؤآل فقط . لا للتقييد .
والثالث: قوله: (( أو )) يأتي المذكور لسبب (( حادثة متجددة )).
(( أو )) لسبب (( تقدير جهالة )) في الحكم المسكوت عنه.
مثال الأول: أن يقال في حضرته صلى الله عليه وآله وسلم:
لفلان غنم سائمة . فيقول: فيها زكاة. فإنه لا يعمل بمقتضى هذا المفهوم. ومثال الثاني: أن يعتقد المكلف أن في المعلوفة زكاة، ولم يعلمها في السائمة. فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: في السائمة زكاة. فلا يُؤخذ بهذا المفهوم. لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يُرد: التقييد. بل أراد في الأول: مطابقة الحادثة. وفي الثاني: بيان أنها في السائمة، كما في المعلوفة. (( أو غير ذلك مما يقتضي تخصيص المذكور بالذِّكر )).
وعلى الجملة إنه لا يؤخذ بمفهوم المخالفة، إذا لم تظهر لتخصيص تلك الصفة بالذكر فائدة أخرى، غير نفي الحكم عما عدى الوصفالمذكور. فإن ظهرت له فائدة فلا يؤخذ به. والله أعلم.
(( الباب الرابع )) من أبواب الكتاب (( في الحقيقة والمجاز ))(1/130)