(( بدليل العقل )). أي: بما يقتضيه، من حسن وقبح، فمِن شرط العمل به عدم الدليل الشرعي .
واعلم: أنه قد اختُلِف في أصل الأشياء هل على الحظر أم على الإباحة؟ (( والمختار )) عند أكثر الفقهاء والمتكلمين (( أن كل ما ينتفع به من دون ضرر عاجل ولا آجل، فحكمه الإباحة )) .بمعنى أنه لا إذن ولا حرج في ذلك، (( عقلا )). أي: يقضي العقل بذلك. نحو: اقتطاع الشجر والانتفاع بها، ونحت الصخور لينتفع بها، واستخراج المعادن، ونحو ذلك. فهذه يقضي العقل بالإباحة فيها، إذ لا ضرر علينا فيها لا عاجلا ولا آجلا .
(( وقيل )) أي: قال بعض الشافعية، وبعض الأمامية: (( بل )) الأصل فيها هو (( الحظر )).
واختلف القائلون به، فمنهم من قال: ما لا يقوم البدن إلا به من طعام وشراب ونحوه فمباح عقلا، وما زاد على ذلك فمحظور. ومنهم من قال: بل كل ما مسَّت الحاجة إليه فمباح، وما سواه محظور.
ومنهم من قال: بل الجميع على الحظر.
(( وبعضهم )) وهو: أبو الحسن الأشعري والصيرفي (( تَوَقَّف ))، وقال: بل يلزمنا الإمتناع من غير أن نحكم بحظر ولا إباحة.
(( والحجة لنا: )) على القول بالإباحة (( أنا نعلم )) قطعا (( حسن ما ذلك حاله ))، أي: الإنتفاع من غير ضرر عاجل ولا آجل،
(( كعلمنا بحسن الإنصاف )) والإحسان، (( وقبح الظلم )) من غير تفرقة. ونعلم انتفاء الضرر العاجل بفقد التألم والإغتمام .
وأما الآجل فبفقد السمع، إذ لو جوزنا أن نعاقب عليه لكان مفسدة، ولو كان مفسدة، لما جاز من الله تعالى أن يُخلِيها من الأدلة. والله أعلم . وبتمام هذه الجملة تم الكلام في شرح باب الأدلة .
(( الباب الثالث ))(( من أبواب الكتاب في المنطوق والمفهوم )).(1/121)


وهما وصفان لما يدل عليه اللفظ العربي. ولذا قال المصنف: (( المنطوق: ما دل عليه اللفظ في محل النطق )). أي: يكون حكما للفظ المذكو، وحالا من أحواله. (( فإن أفاد ))اللفظ (( معنى لا يحتمل )) ذلك اللفظ (( غيره، فنص )) في المقصود. (( ودلالته )) أي: دلالة ذلك اللفظ على المقصود
(( قطعية. وإلا ))يفد ذلك، بل أفاد معنى يحتمل المقصود، وغيره
(( فظاهر )). أي: فهو المسمى بالظاهر. (( ودلالته )) أي: دلالة اللفظ على المقصود حينئذ (( ظنية )). للإحتمال المذكور.
(( قيل ومنه )) أي: ومن الظاهر (( العام )) قبل التخصيص. لأن دلالته على المقصود ظنية، لاحتماله للتخصيص.
(( ثم النص )):
(( إما: صريح وهو ما وضع اللفظ له )) ودل عليه دلالة مطابقة، أو دلالة تضمن. (( بخصوصه ))، يخرج العام، فإنه لم يوضع اللفظ له بخصوصه، بل مع مشاركة غير المقصود. وذلك كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( فيما سقت السماء العشر ). فإنه صريح في بيان ما يجب من الزكاة. ومن ذلك حديث الغدير فإنه صريح في المقصود، ودلالته على إمامه أمير المؤمنين كرم الله وجهه، قطعية عند عآمة أهل البيت عليهم السلام.
(( وإما: غير صريح. وهو ما لم )) يوضع اللفظ له بخصوصه، بل (( يلزم عنه )). أي: يدل عليه اللفظ بالإلتزام.
فغير الصريح: ما دل عليه اللفظ، لا بالوضع بل بالإلتزام.
وغير الصريح ثلاثة أقسام:
• ... قتضاء.
2- وإيماء.
وإشارة.
وذلك لأنه إما أن يكون إفهام ذلك اللازم مقصودا للمتكلم، أول؟(1/122)


(( فإن قصد )) إفهام ذلك اللازم بإطلاق اللفظ _ (( و )) هو قسمان: لأنه إما أن يتوقف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه، أولا ؟ فإن (( توقف الصدق، أو )) توقفت (( الصحة العقلية أو ))توقفت (( الصحة الشرعية عليه، )) أي: على قصد ذلك اللازم _ (( فدلالة اقتضاء )). أي: فاللفظ يدل على ذلك المعنى دلالة اقتضاء. أي: يقتضيه اللفظ وليس بنص صريح. فالذي يتوقف الصدق عليه (( مثل )) قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ). لم يرد نفس الخطأ والنسيان، بل أراد المؤاخذة ونحوها. وإلا لكان كذبا، لأنهما لم يرفعا عنهم، إذا المعلوم أنهم ينسون ويخطؤون. فعلم أن المراد المؤاخذة. واللفظ لا يدل عليها بصريحه، بل يقتضيها لتوقف الصدق على ذلك، كما بينا. والذي تتوقف عليه الصحة العقلية نحو قوله تعالى: { واسأل القرية } فإن العقل قاضًٍ بأنه لم يُرد نفس القرية. لأنها لا تَعقل والعالم لا يأمر غيره بسؤآل من لا يعقل. فعُلم أنه أراد أهلها. واللفظ لا يدل عليه صريحا بل يقتضيه لتوقف الصحة العقلية على ذلك.
والذي تتوقف عليه الصحة الشرعية مثل قول القائل لغيره (( اعتق عبدك عني على ألف )). فإنه لم يرد اعتقه عني وهو مملوك لك، لأن العتق عن الغير لا يصح، بل أراد اجعله مملوكا لي، ثم اعتقه. لتوقف العتق على ذلك. واللفظ لا يدل عليه صريحا، بل يقتضيه. لتوقف الصحة الشرعية على ذلك. فدلالة اللفظ على استدعاء الملك دلالة اقتضاء.
(( فإن )) قصد المتكلم ذلك اللازم، ولكن (( لم يتوقف )) صدق ذلك النطق ولا الصحة العقلية ولا الشرعية على ذلك المعنى الذي يلزم من اللفظ، (( و )) لكن قد (( اقترن )) ذلك اللفظ (( بحكم لو لم يكن )) ذلك اللفظ (( لتعليله )) أي: لتعليل الحكم الذي اقترن به(1/123)


(( لكان )) اقتران اللفظ به (( بعيدا )). لعدم الملآئمة بينه وبين ما اقترن به: (( فتنبيه نص، وإيماء )). أي: فهو المسمى تنبيه النص، وإيماء النص. فيقال: نبه النص على هذا، وأومأ إليه. لا أنه نص صريح فيه. وذلك: (( نحو )) قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( عليك الكفارة. جوابا لمن قال: جامعت أهلي في نهار رمضان )). فإن الأمر بالتكفير قد اقترن بوصف، وهي المجامعة في رمضان الذي لو لم يكن لتعليله، أي: لبيان أن العلة في الإعتاق هو الوقاع لكان بعيدا. وكذلك قوله عليه السلام: (( إنها ليست بسبع ))‍‍‍‍‍‍‍‍ جوابا لمن أنكر عليه دخول بيت فيه هرة .
وكذلك قوله عليه السلام: (( أرأيتَ لو تمضمضتَ بماء ))؟ جوابا لمن سأل عن القُبلة هل تفطر؟ وقد مر تحقيق هذا عند بيان طرق العلة في فصل القياس، فليرجع إليه .
(( و )) أما (( إن لم يقصد ذلك اللازم )) للّفظ. أي:لم يقصده المتكلم، بل فُهم منه عند إطلاق اللفظ (( فدلالة إشارة )). أي: دلالة اللفظ على ذلك اللازم تسمى في الاصطلاح: دلالة إشارة. فيقال: أشار إليه النص ولم يقتضه، ولا نبه عليه، ولا أومئ إليه. وذلك:(1/124)


(( كقوله )) صلى الله عليه وآله وسلم: (( النساء ناقصاتُ عقل ودين )). فلما (( قيل )) له صلى الله عليه وآله وسلم: (( وما نقصان دينهن؟‍ قال : تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي )). (( فإنه )) صلى الله عليه وآله وسلم (( لم يقصد )) بذلك اللفظ (( بيان أكثر الحيض، وأقل الطهر. ولكن المبالغة )) _ أي: في نقصان دينهن لما قصدها صلى الله عليه وآله وسلم _ (( تقتضي ذلك )). أي: أن يكون أكثر الحيض نصف عمر المرأة، فيكون أكثره خمسة عشر يوما، وأقل الطهر كذلك. إذ لو كان زمان ترك الصلاة وهي أيام الحيض أكثر من ذلك، أو زمان الصلاة _ وهي أيام الطهر _ أقل لَذَكَرُه . فاللفظ لا يدل على ذلك بصريح، ولا باقتضائه ولا بإيمائه. بل يشير إليه إشارة فقط. كما تبين. ومن هذا قوله تعالى: { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } مع قوله في آية أخرى { وفصاله في عامين } فإنه يُعلم منهما أن أقل الحمل ستة أشهر. ولكنه سبحانه لم يقصد بالآيتين بيان ذلك. لأن المقصود في الأُولى: بيان حق الوالدة، وما تقاسيه المرأة من التعب في الحمل والفصال. والمقصود في الثانية: بيان أكثر مدة الفصال. ولكن لزم منه ذلك. لأنه إذا كان أكثر مدة الرضاع حولين كاملين _ ومدة الحمل والفصال ثلاثون شهرا _ لزم منه كون أقل الحمل ستة أشهر. وذلك واضح كما ترى.
[ فصل ](( والمفهوم )) حقيقته
(( ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق )). بأن يكون حكما لغير المذكور، وحالا من غيره أحواله.
(( وهو نوعان )):
مفهوم موافقة.
ومفهوم مخالفة.
النوع (( الأول متفق عليه. ويسمى مفهوم الموافقة )).
(( وهو أن يكون )) المفهوم من اللفظ أي: (( المسكوت عنه موافقا للمنطوق به في الحكم )) المذكور. (( فإن كان فيه )) أي: في المسكوت عنه (( معنى الأول )). أي: ثبوت الحكم في المسكوت عنه أَولى من ثبوته في المنطوق به (( فهو )) المسمى في الاصطلاح:(1/125)

25 / 49
ع
En
A+
A-