والتقسيم، وكون الوصف غير ظاهر ولا منضبط، وكونه غير مفضٍ إلى المقصود، ثم النقض والكسر، ثم المعارضة في الأصل، ثم ما يتعلق بالفرع كمنع وجود العلة، وبمخالفة حكمه حكم الأصل، واختلاف الضابط، والحكمة والمعارضة في الفرع، والقلب، ثم القول بالموجب والله أعلم . وبتمام هذا تم الكلام في الإعتراضات والقياس .
[الاستدلال](( فصل ))
(( وبعض العلماء يذكر )) من جملة الأدلة الشرعية (( دليلا خامسا)) غير الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
(( وهو )) الذي يسمى (( الإستدلال. قالوا وهو )) في اللغة: طلب الدليل، وفي العرف: يطلق على إقامة الدليل مطلقا. من نص، أو إجماع، أو غيرهما. وعلى نوع خاص منه، وهو المقصود هاهنا وهو (( ما ليس بنص، ولا إجماع، ولا قياس علة )). فيدخل قياس الدلالة، والقياس في معنى الأصل. وقد يحذف في الحد لفظ: علة. فيقال: ولا قياس. فيخرج من الإستدلال على هذا جميع أقسام القياس .
(( وهو ))أي: الإستدلال (( ثلاثة أنواع )) على المختار:
(( الأول: تلازم بين حكمين، من غير تعيين العلة )). وإلا كان قياسا.
والتلازم أربعة أقسام:
لأنه إنما يكون بين حكمين، والحكم أما إثبات أو نفي. ويحصل بحسب التركيب أربعة أقسام.
لأنه إما بين ثبوتين.
أو بين نفيين.
أو بين ثبوت ونفي، بأن يكون الثبوت ملزوما والنفي لازما.
أو بين نفي وثبوت، بأن يكون النفي ملزوما والثبوت لازما .
فالأول وهو تلازم الثبوتين. (( مثل )) أن يقال (( من صح ظهاره، صح طلاقه )). ووجه التلازم أنا تتبعنا فوجدنا كل شخص يصح ظهاره، يصح طلاقه. وكل شخص لا يصح ظهاره، لا يصح طلاقه.
والثاني وهو تلازم النفيين. نحو: لو لم تُشترط النية في الوضوء، لم تشترط في التيمم. ووجه التلازم مثل ما تقدم .
والثالث وهو تلازم الثبوت والنفي. مثل: ما يكون مباحا، لا يكون حراما .(1/116)
والرابع وهو تلازم النفي والثبوت. مثل: ما لا يكون جائزا، يكون حراما. فهذه أقسام التلازم. والله أعلم.
النوع (( الثاني )) من أنوع الإستدلال (( الإستصحاب )) للحال،
(( وهو ثبوت الحكم في وقت، لثبوته في وقت آخر قبله، لفقدان ما يصلح للتغيير )) لثبوت الحكم في وقت دون وقت. وذلك: (( كقول بعض الشافعية في المتيمم )) إذا تيمم لعدم الماء فقط: (( رأى الماء في صلاته )) فإنه قال (( يستمر فيها )) ولا يبطل تيممه برؤية الماء. وذلك (( استصحابا للحال )) الأولى. (( لأنه )) أي: المتيمم (( قد كان وجب عيه المضي فيها )). أي: في الحال (( قبل رؤية الماء )). ولم يوجد ما يصلح للتغيير.
واعلم أنه قد اختُلِف في كون الإستصحاب دليلا شرعيا:
فقيل: ليس بحجة .
وقيل: بل هو حجة.والأَولى أن يقال: إن ساوت الحال الأولى الثانيةَ، ولم يظن طر وُّ معارضٍ يزيله عَمِل به. مثلا: إنه لو شك في حصول الزوجية ابتداء، فإنه يحرم عليه الإستمتاع، استصحابا للحال الأولى، وهي عدم الزوجية. ولو شك في دوام الزوجية جاز له الإستمتاع استصحابا للحال الأولى، وهي بقاء الزوجية. وإن لم يساو الحالُ الأولى الثانيةَ لم يعمل به. كمسألة التيمم، فإن الحال الثانية غير مساوية للأولى، لوجود الماء فيها دون الأولى. وليس المقتضي لصحة الصلاة في الحالة الأولى إلا فقدان الماء، وقد وجد فلم يتشاركا في المقتضي لجواز التيمم، وهذا واضح كما ترى .
والنوع (( الثالث )) من أنواع الإستدلال (( شرعُ مَن قَبلَنا ))
من الأنبياء عليهم السلام .
فقد قيل: إنه دليل في حقنا، يجب علينا العمل به إذا عدم علينا الدليل.
وقيل: لا .
وأما في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد اختلف في ذلك على حالين:
الحالة الأولى قبل بعثته، فمنهم من قال: إنه تعبَّد بشريعة نوح.
وقيل: إبراهيم. وقيل: موسى. وقيل: عيسى. وقيل: ما ثبت أنه شرع.(1/117)
(( و )) منهم من قال _ وهو (( المختار _ إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن قبل البعثة متعبَّدا بشرع )) من شرائع الأنبياء عليهم السلام. إذ لو كلف بذلك وتعبد به لم يكن له بد من طريق له إلى ذلك، لعدم الثقة بالنقلة مع تحريف الكتابيي. وأيضا لم يعرف بالأخذ من أحد من أهل الكتاب .
الحالة الثانية بعد البعثة، فقيل: إنه صلى الله عليه وآله وسلم أتى بشريعة مبتدأة .
(( و ))المختار عند المصنف (( أنه )) صلى الله عليه وآله وسلم (( بعدها )) أي: بعد البعثة (( متعبَّد بما لم يُنسخ من الشرائع )) المتقدمة جميعا. وأما ما نسخ بشريعته فظاهر أنه لم يتعبد به، بل بغير ذلك. وهذا القول هو مذهب المؤيد بالله، وأبي طالب، والمنصور بالله، وغيرهم. قالوا: للإتفاق على الإستدلال على وجوب القصاص بقوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ... } الآية .
فلو لا أنه متعبد بشرع من قبله لما صح الإستدلال بوجوب القصاص في دين بني إسرآئيل، على وجوبه في دينه صلى الله عليه وآله وسلم. وأيضا فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( من نام عن صلاته أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها. وتلا قوله تعالى: { أقم الصلاة لذكري } وهي مقولة لموسى. فدل ذلك على تعبده بالشرائع التي لم تنسخ من شرائع مَن قَبلَه. ويمكن أن يُجاب عن هذا الإستدلال بأن يقال في الآية الأولى: إنها حكاية، وقررها الله تعالى في شريعته، فاتفق الشريعتان في الحكم. وكذا يقال في قوله تعالى : { وأقم الصلاة { لذكري } إنه اتفق الشريعتان في الحكم. كذا ذكره الإمام المهدي عليه السلام في شرح المعيار.(1/118)
وقال بعض المحققين من أهل المذهب: الصحيح عندنا أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن متعبدا بشيء من الشرائع المتقدمة، لا قبل البعثة ولا بعدها، إلا ما حكاه الله تعالى بالوحي، ولم يثبت فيه نسخ ولا إنكار له، فإنه متعبد به. وكذلك نحن متعبدون به. والله أعلم. وإذا صح تعبده صلى الله عليه وآله وسلم بما لم ينسخ من الشرائع
(( فيجب علينا )) حينئذ (( الأخذ بذلك عند عدم الدليل في شريعتنا)). كما ذكرنا في وجوب القصاص.
(( قيل ومنه )) أي: ومن الإستدلال نوع رابع، وهو (( الإستحسان )). والمختار أنه دليل ثابت عندنا. (( وهو عبارة عن دليل يقابل القياس الجلي )). كما يقال مثل:إن القياس يقتضي أن المثليَّ مضمون بمثله. فالعلم بخبر المصرآة استحسان.لأنه دليل قابل القياس كما ترى. (( وقد يكون ثبوته )) أي: الاستحسان (( بالأثر )) كما في خبر المصرآة. (( وبالإجماع )) كما في دخول الحمام بأجرة مجهولة. والقياس(1) أن لا يجوز، لكن استحسن جوازها للإجماع .
(( وبالضرورة )) كما في طهارة الحياض والآبار على أصول الحنفية. (( وبالقياس الخفي )) كما يقال في الصيرفي مثلا، إذا ملك دون نصاب من الذهب أو الفضة، قيمته نصاب من الجنس الآخر، فالقياس الجلي على أموال التجارة، أنها لا تجب عليه الزكاة، كما إذا ملك ما قيمته دون نصاب من عروض التجارة، لأن نقود الصيارفة كسلع التجارة. والإستحسان يجب للقياس الخفي. لأنه قد ملك نصابا كاملا، مما تجب فيه الزكاة على غيره. والله أعلم.
(( و )) اعلم أنه (( لا يتحقق استحسان مختلف فيه )).لأنه قد ذكر في حقيقته أمور لا تصلح محلا للخلاف. لأن بعضها مقبول اتفاقا. مثل ما ذكره المصنف، ومثل قول أبي عبد الله البصري، وأبي الحسن الكرخي: أنه العدول عن الحكم في الشيء عن حكم نظائره لدلالة تخصه، ونحو ذلك .
__________
(1) -أي الأوفق للقواعد.(1/119)
وبعضها متردد بين ما هو مقبول اتفاقا، وبين ما هو مردود اتفاقا. مثل ما ذكره بعضهم من أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد يعسر عليه التعبير عنه. لأنه يقال: ما المعنى بقوله ينقدح؟ إن كان بمعنى أنه يتحقق ثبوته. فيجب عليه العمل به. ولا أثر لعجزه عن التعبير بالنسبة إليه، إذ ليس عليه إن يمكنه الحِجاج، بل العمل بما علمه بعد توفية الإجتهاد حقه . وإن كان بمعنى أنه شاكٌ فيه فهو مردود اتفاقا. إذ لا تثبت الأحكام بمجرد الشك والإحتمال .
(( وأما مذهب الصحابي )) وقوله (( فالأ كثر )) من العلماء _ وهو الصحيح والمختار _ (( أنه ليس بحجة )) يجب على المجتهد الرجوع إليها. بل الصحابي وغيره على سواء .إلا أمير المؤمنين على كرم الله وجهه فإن قوله حجة عند عآمة أهل البيت عليهم السلام، كما تقدم.
وأما غيره فليس بحجة. أما على صحابي مثله فذلك اتفاق. وأما على غيره، فالمختار: ما ذكره المصنف. وقد قيل: بل هو حجة مقدمة على القياس. واحتجوا بما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم (( و )) هو (( قوله: أصحابي كالنجوم… الخبر )) وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( بأيهم اقتديتم اهتديتم ).
(( ونحوه )) من الأحاديث الدآلة، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي ).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( خير القرون قرني ) .ونحو ذلك. قلنا: لا دليل في ذلك على ما ذكرتم. (( إذ المراد به المقلدون )) في أنه يجوز لهم تقليدهم .
وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( خير القرون قرني ) . فيدل على فضلهم لا على الإحتجاج بقولهم. والله أعلم .
(( خاتمة ))
أي: هذه خاتمة للأدلة الشرعية. وهي أنه (( إذا عدم الدليل الشرعي )) من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وأنواع الإستدلال عند من جعلها من الأدلة. فإذا عدمت هذه الأدلة (( عمل )) حينئذ(1/120)