الإعتراض (( الرابع والعشرون(1))
القلب . وهو أن يدعي المعترض أن الوصف الذي علل به المستدل حكم الفرع، يقتضي حكما مخالفا للحكم الذي أثبته به المستدل فيه. وهو ثلاثة أقسام:
لأنه إما أن يكون بتصحيح مذهب المعترض، فيلزم منه بطلان مذهب المستدل لتنافيهما، أو بإبطاله لمذهب المستدل ابتداء، أي: من غير نظر إلى إثبات مذهب المعترض .وذلك إما صريح، أو بالالتزام .
القسم الأول: وهو القلب لتصحيح مذهب المعترض. مثاله: أن يقول الحنفي في الإستدلال على وجوب الصوم في الاعتكاف، بالقياس على الوقوف بعرفة: لبثٌ في مكان مخصوص، فلا يكون قربة بنفسه، كالوقوف بعرفة . فيقول الشافعي: فلا يشترط فيه الصوم، كالوقوف بعرفة . فصحح الشافعي مذهبه بعلة الحنفي، ولزم بطلان مذهب الحنفي لتنافيهما .
القسم الثاني: وهو القلب لإبطال مذهب الخصم صريحا. مثاله: أن يقول الحنفي في الإستدلال على أنه لا يكتفي بأقل من ربع الرأس في المسح، بالقياس على سائر الأعضاء: عضوٌ من أعضاء الوضوء، فلا يكفي فيه أقله، كسائر الأعضاء . فيقول الشافعي: فلا يقدر بالربع، كسائر الأعضاء . فعلق المعترض على علة المستدل ما يبطل به مذهبه صريحا، ولا يلزم من هذا تصحيح مذهب الشافعي، إذ مذهبه أنه يكتفي بأقل، ولم يثبته القلب .
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: ( الرابع والعشرون: سؤآل التركيب. وهو ما تقدم من أن شرط حكم الأصل أن لا يكون ذا قياس مركب ).(1/111)


والقسم الثالث: وهوالقلب لإبطال مذهب الخصم التزاما . مثاله: أن يقول الحنفي في الإستدلال على صحة بيع الشيء الغائب، بالقياس على النكاح: عقدُ معاوضة فيصح مع الجهل بأحد العوضين، كالنكاح. فيقول الشافعي: فلا يشترط فيه خيار الرؤية، كالنكاح . ووجهه أن من قال بصحة بيع المجهول، قال بخيار الرؤية، فخيار الرؤية لازم للصحة، فقد علق الخصم على علة المستدل ما يبطل مذهبه بالإلتزام، لأنه علق عليها إبطال اللازم _ وهو خيار الرؤية – وانتفائِه. وهو يلزم منه انتفاء الصحة، لأنه إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم. والصحيح أن القلب بأقسامه راجع إلى المعارضة، لأنها دليل يثبت به خلاف حكم المستدل، والقلب كذلك. فيكون مقبولا كَهِيَ. بل هو أَولى بالقبول منها، لأن قصد هدم الدليل فيه بأدائه إلى التناقض أظهر منه فيها، ولأنه أيضا مانع للمستدل من الترجيح لدليله، لأن الترجيح إنما يُتصور بين دليلين، وهاهنا دليل مذهب المستدل، ومذهب المعترض واحد. والله أعلم.
الإعتراض (( الخامس والعشرون(1))
القول بالموجب. وهو تسليم مدلول الدليل، مع بقاء المنازعة. بأن يدعي المعترض: أن المستدل نصب الدليل في غير محل النزاع. وهذا الإعتراض لا يختص بالقياس، بل يجري في كل دليل، وهو على ثلاثة أَضرُبٍ:
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: ( الخامس والعشرون: سؤآل التعدية. وذكروا في مثاله: أن يقول المستدل في البكر البالغة: بكر فتخير كالصغيرة. فيقول المعترض: هذا معارض بالصغر، وما ذكرته وإن تعدى به الحكم إلى البكر البالغة، فما ذكرتُه أنا قد تعدى به الحكم إلى الثيب الصغيرة. وهذان الإعتراضان يعدهما الجدليون في الإعتراضات. وليس أيهما اعتراضا برأسه، بل يرجعان إلى بعض ما تقدم من الإعتراضات، فالأول راجع إلى المن، والثاني إلى المعارضة في الأصل. وقد تقدم بيان ذلك ).(1/112)


الأول: أن يستنتج المستدل من الدليل ما يتوهم أنه محل النزاع أو ملازمه، فيثبته وهو ليس كذلك . مثاله: أن يقول الشافعي في الإستدلال على وجوب القصاص في القتل بالمثقل، بالقياس على القتل بالخارق المحدد: قتلٌ بما مثله يقتل في العادة، فلا ينافي وجوب القصاص، كالقتل بالحاد الخارق. فيقول المعترض: نحن نقول بموجب هذا الدليل، وهو عدم المنافاة، لكنه ليس محل النزاع، إذ هو وجوب القتل، وهو أيضا لا يقتضي محل النزاع، إذ لا يلزم من عدم منافاته للوجوب أن يجب .
وجوابه: أن يبين المستدل أن اللازم من الدليل محل النزاع أو ملازمه، كما إذا قال المستدل: لا يجوز قتل المسلم بالذمي، قياسا على الحربي. فيقول المعترض: أنا أقول بأنه لا يجوز، لأنه ليس بجائز بل واجب . فيقول المستدل: المراد بقولي لا يجوز هو التحريم. وهو محل النزاع لا ما زعمت .وإذا كان ذلك هو المراد لزم انتفاء قولك، لأن التحريم يستلزم عدم الوجوب .(1/113)


الضرب الثاني: أن يستنتج المستدل من الدليل إبطال أمر يتوهم أنه مأخذ الخصم ومبنى مذهبه. والخصم يمنع من كونه مأخذ مذهبه، فلا يلزم من إبطاله إبطال مذهبه . مثاله: أن يقول الشافعي في المثال المتقدم، وهو القتل بالمثقل: التفاوت في الوسيلة _ وهي آلة القتل _ لا يمنع من وجوب القصاص، كما لا يمنع من المتوسل إليه، وهي أنواع الجراحات القاتلة. فيرد القول بالموجب، بأن يقول الحنفي: نحن نقول بموجب هذا، لكن الحكم لا يثبت إلا بارتفاع جميع الموانع، ووجود الشرائط بعد قيام المقتضي. وهذا غايته انتفاء مانع واحد من وجود الحكم، ولا يلزم انتفاء بقية الموانع، ولا وجود الشرائط، ولا وجود المقتضي. فلا يلزم [منه](1) ثبوت الحكم . والمختار أن المعترض إذا قال ليس هذا مأخذ مذهبي ومذهب إمامي قُبِل قوله . لأنه أعرف بمذهبه ومذهب إمامه، فيصدق في ذلك، وأن ثم مانعا آخر، أو شرطا آخر، أو مقتضيا لم يحصل . وأكثر القول بالموجب من هذا الضرب – أعني _ ما يقع لاشتباه المأخذ لخفاء مأخذ الأحكام . وجواب هذا الضرب ببيان أنه أي: ما أستنتجه، ما أخذ الخصم باشتهاره بين أهل النظر والنقل عن أئمة المذهب .
__________
(1) _ يوجد في بعض النسخ كلمة (من)، وفي نسخ أخرى لا توجد .وما أثبتُ فهو اجتهاد .(1/114)


الضرب الثالث: أن يسكت المستدل عن المقدمة الصغرى في القياس المنطقي، وهي الأولى لكونها مشهورة . مثاله: أن يقول المستدل في الإستدلال على أن الوضوء تجب فيه النية: ما ثبت قربةً فشرطه النية كالصلاة. ويسكت عن الصغرى، فلا يقول الوضوء قربة .فيقول المعترض: نحن نقول بموجب هذا _ أعنى _ ما ثبت قربة تجب فيه النية، لكن من أين يلزم أن الوضوء شرطه النية. فورد هذا لما سكت المستدل عن الصغرى. وأما إذا كانت الصغرى مذكورة، فإنه لا يرِدُ إلا منعها، بأن يقول: لا نسلم أن الوضوء قربة، وهو يكون حينئذ منعا لها لا قولا بالموجب. وجواب هذا الضرب ببيان أن الحذف عند العلم بالمحذوف شائع، والمحذوف مراد ومعلوم، فلا يضر حذفه . والدليل هو المجموع لا المذكور وحده .
فهذه جملة الإعتراضات على ما ذكره ابن الحاجب. وكل واحد منها نوع مستقل، ويصح تعددها إذا كانت من نوع واحد، كاستفسارات أو معارضات، تورد على قياس واحد اتفاقا . وأما إذا كانت من نوعين فصاعدا، كأن يورد على مسألة واحدة استفسار، ومنع، ونقض مثلا. فقد اختلف فيه:
قال ابن الحاجب: والمختار جوازه. وإذا جاز ذلك فينبغي إيرادها مترتبة، وإلا كان منعا بعد تسليم. مثلا إذا قال: لا نسلم أن ا لحكم معلل بكذا. فقد سلم ضمنا ثبوت الحكم حيث منع علته فقط. فإذا قال بعد ذلك: ولو سُلِّم فلا يُسلَّم ثبوت الحكم كان مانعا لما سلمه. فلا يسمع منه. وكما إذا اعترض الفرع، كان تسليما للأصل. فلو اعترضه بعد ذلك، لم يسمع منه بخلاف العكس. فإذا تقرر ذلك فالترتيب اللائق أن يقدم منها: الاستفسار، ثم فساد الاعتبار، ثم فساد الوضع، ثم منع ثبوت حكم الأصل، ثم منع وجود العلة فيه، ثم الأسئلة المتعلقة بالعلية كالمطالبة، وعدم التأثير، والقدح في المناسبة،(1/115)

23 / 49
ع
En
A+
A-