ومثال الثاني: أن يعلل المستدل وجوب القصاص بالمحدد، بكونه قتلَ عمدٍ عدوان، فيجب في القتل بالمثقل مثله . فيقول المعترض: ليس العلة في وجوب القصاص بالمحدد ما ذكرت، بل كونه قتلَ عمد عدوان بالمحدد . وهذا لا يحتمل إلا أن يكون جزء علة . لأنه لا يصلح للإستقلال .
إذا عرفت ذلك، فقد اختلف في قبول المعارضة، ووجوب الجواب عنها ؟ والمختار: قبولها . إذ لو لم تقبل لَلَزِم التحكم – أعني –في المدعى علة . لأن المدعى علة عند المستدل، ليس بأَولى بكونه العلة أو جزءها، مما أتى به المعترض . لاشتراك ما أتيا به في الصلاحية للعلة ولجزئيتها، فوجب قبولها . والجواب عنها للتخلص من ذلك، إذا تقرر ذلك . فنقول: جواب المعارض يكون:
إما بمنع المعارَض به، مثل: أن يعارض المعترض القوت بالكيل . فيقول المستدل: لا نسلم أنه مكيل، لأنه كان في عصره صلى الله عليه وآله وسلم موزونا، والعبرة بعصره في ذلك .أو يقول: هو في مكة والمدينة موزون، والعبرة في الكيل والوزن بهما .
وإما: ببيان خفاء الوصف المعارَض به . أو ببيان عدم انضباطه، لما تبين من أن شرط العلة الظهور والانضباط.(1/101)
وإما: بأن يبين استقلال ما عدى الوصف المعارَض به من الأوصاف التي أتى بها المستدل بالحكم . إما بظاهر آية، أو خبر، أو إجماع .مثل أن يقول المستدل في الإستدلال على قتل اليهودي إذا تنصر، أو بالعكس: بَدَّل دينه فيقتل كالمرتد .فيقول المعترض: بَدَّل دينه بكفر بعد إيمان . فيجيب: بأن علته مستقلة بالحكم، بظاهر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من بَدَّل دينه فاقتلوه ) . ولا يضر المستدل كون هذا عاما، إذا لم يتعرض المستدل للتعميم، فلو تعرض له فقال: فيثبت اعتبار كل تبديل، للحديث لم يسمع منه ذلك . لأنه يكون إثباتا لحكم الفرع بالنص دون القياس.لا أنه تتميم للقياس بالإلغاء، والمقصود ذلك . فهذا تقرير المعارضة . قال الإمام المهدي عليه السلام: وإنما تقبل إذا أتى المعترض بوصف يبطل به استدلال المستدل، إما بأن يرد به الفرع إلى أصل مخالف لأصل المستدل في الحكم، أو بأن يأتي بوصف يجعله تكملة لعلة المستدل، ويبين به أن علة المستدل ناقصة، وأما إذا أتى بوصف لا يبطل استدلاله، بل يبقى على حاله .فهذه المعارضة لا يجب قبولها، ولا يلزم المستدل أن يجيب عنها .
مثاله: أن يعلل المستدل وجوب النية في الوضوء بكونه عبادة، فتجب فيه النية كالصلاة . فيقول المعترض: بل طهارة تراد للصلاة فتجب فيه النية كالتيمم . فهذه معارضة غير مخلة بالإستدلال، بل ناصرة له، فلا يلزم ردها والجواب عنها . هذا معنى ما ذكره عليه السلام .فتأمل ذلك !والله أعلم .
الإعتراض (( السادس عشر(1) ))
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: ( السادس عشر: منع وجود الوصف في الفرع. مثاله: أن يقال في أمان العبد: أمان صدر من أهله، كالعبد المأذون له في القتال. فيقول المعترض: لا نسلم أن العبد أهل للأمان. وجوابه في ببيان معنى الأهلية. بأن يقول: أريد أنه مظنة لرعاية المصلحة، لإسلامه وعقله ).(1/102)
التركيب . وهو أن يمنع الخصم كون الحكم معلَّلا بعلة المستدل، مع موافقته فيه. وذلك بمنع كونها علة، أو بمنع وجودها فيه _ أعني _ في الأصل. والأول: يسمى مركب الأصل، والثاني مركب الوصف . مثال الأول: أن يقول الشافعي في الإستدلال على أن العبد لا يقتل به الحر، بالقياس على المكاتب: عبد فلا يقتل به الحر كالمكاتب . ويستغني عن إثبات أن المكاتب لا يقتل به الحر بموافقة الخصم، وإن كان غير منصوص عليه، ولا مجمع عليه بين الأمة . فيقول الحنفي: الحر وإن كان لا يقتل بالمكاتب عندي، فليست العلة عندي كونه عبدا، بل جهالة المستحق للقصاص . هل السيد لاحتمال أن يبقى عبدا لعجزه عن الإيفاء بمال الكتابة أو ورثته ؟ لاحتمال أنه كان يوفى المال فيصير حرا . فإن صحت هذه العلة في عدم قتله بالمكاتب، وإلا مَنَعتَ حكم الأصل، وقلت: يقتل الحر بالمكاتب لعدم المانع . وعلى كلا التقديرين لا يصح القياس . إذ لا يخلو من عدم العلة في الفرع، أو منع حكم الأصل . ويسمى هذا مركب الأصل، لأن الأصل فيه مركب من ثبوت الحكم في نفس الأمر، وتسليم الخصم لذلك .
لأن إلقائس استغنى عن إقامة الدليل عليه، فكان مركبا من أمرين .(1/103)
ومثال الثاني: أن يقول الشافعي في الإستدلال على أن تعليق الطلاق للأجنبية قبل النكاح على شرط لا يصح . قياسا على تنحيز طلاقها. مثل: أن يقول إن تزوجت فلانة فهي طالق، ثم تزوجها، طلاق معلق على شرط، فلا يصح قبل النكاح . كما لو قال: زينب التي أتزوجها طالق . فيقول الحنفي: العلة التي عللت بها وهي كونه تعليقا مفقودة في الأصل، إذ قوله: زينب التي أتزوجها طالق تنحيز لا تعليق .فإن صح أنها مفقودة في الأصل بطل الإلحاق للتعليق به، لعدم الجامع . وإن لم يصح منعت حكم الأصل، وهو عدم الصحة، في قوله: زينب التي أتزوجها طالق. لأني إنما منعت الوقوع لكونه تتحيزا. فلو كان تعليقا لقلت به. وعلى التقديرين فلا يصح القياس، إذ لا يخلو من منع العلة في الأصل، أو منع حكم الأصل المقيس عليه . وسمي هذا: مركب الوصف، لأن العلة فيه مركبة من وصف وتعليق، وإلا لم يثبت الحكم. وجواب هذا الإعتراض: أن يثبت المستدل أن العلة هي ما علل به، وأنها موجودة. بدليل من عقلٍ، أو حسٍ، أو شرع، أو غيرها . فيصح القياس حينئذ، وإن لم يسلم الخصم . إذ لو اشترطنا تسليمه لم تقبل مقدمة تقبل المنع. والله أعلم.
الإعتراض (( السابع عشر(1) )):
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: ( السابع عشر: المعارضة في الفرع بما يقتضي نقيض حكم الأصل. بأن يقول: ما ذكرته من الوصف وإن اقتضى ثبوت الحكم في الفرع، فعندي وصف آخر يقتضي نقيضه. وهذا هو الذي يعنى بالمعارضة عند الإطلاق. وجواب هذه المعارضة بجميع ما مر من الإعتراضات من قبل المعترض على المستدل ).(1/104)
التعدية. وقد ذكر في مثالها أن يقول المستدل على أن البكر البالغة تجبر كالصغيرة: بِكرٌ فتجبر كالصغيرة . ويجعل العلة المعدية هي البكارة. فيقول المعترض: هذا معارض بالصغر. وعلتك وإن تعدى بها الحكم إلى البكر البالغة، فعلتي يتعدى بها الحكم إلى الثيب الصغيرة . وهذا الإعتراض راجع إلى المعارضة في الأصل بوصف آخر. فإنه في هذا المثال عارض البكارة بالصغر، وهما متساويان في التعدية. فلا يرجح وصف المستدل بها. فلا يكون سؤآلا برأسه. والله أعلم.
الإعتراض (( الثامن عشر(1))
منع وجود الوصف المدعى علة في الفرع. وإن كان موجودا في الأصل وعلة له. مثاله: أن يقول المستدل على صحة أمان العبد الغير المأذون، قياسا على المأذون: أمانٌ صدر من أهله فيصح، كأمان المأذون. فيمنع المعترض من وجود الأهلية في المحجور، بأن يقول: لا أهليه فيه؟
وجوابه: أن يبين ما قصد بالأهلية أولا، ثم يبين وجودها في الفرع بما يبين به وجود العلة في الأصل. فيقول: أريد بالأهلية كونه مظنة لرعاية مصلحة الإيمان(2). ثم يبين وجود ذلك في الفرع، إما بحس، أو عقل، أو شرع . بأن يقول: العبد بواسطة إسلامه وبلوغه مظنة لرعاية مصلحة الإيمان. أي : يُظن فيه أنه يرعاها، بدلالة العقل. والله أعلم.
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: ( الثامن عشر: الفرق. وهو إبداء خصوصية في الفرع هي مانع. ومرجع هذا إلى المعارضة في الأصل، وقد مر ).
(2) _أي: الأمان.(1/105)