فالجامع بينهما وصف شبهي، وهو كون كل منهما طهارة ترادللصلاة . لأنه يوهم المناسبة بينهما، من حيث أنه قد اجتمع في تطهير النجس شيئان: كونها طهارة للصلاة، وكونها عن نجس . والشارع قد اعتبر الأول حيث رتب عليه حكم تعيين الماء في الصلاة ونحوها . ولم يعتبر الثاني وهو كونها عن النجس فاعتُبِر الأول لظهور اعتبار الشارع له والتفاته إليه، وأُلغي الثاني لعدم اعتبار الشارع له . فتوهم من ذلك أن الوصف الذي اعتبره الشارع، وهو الطهارة للصلاة مناسب للحكم، وهو تعيين الماء، لأن إلغاء ما لم يعتبره الشارع أصلا، أنسب من إلغاء ما قد اعتبره . فتأمل ذلك ! والله أعلم .
(( تنبيه [الاعتراضات] ))
(( وأما الإعتراضات )) للقياس المشهورة المتداولة في ألسنة الأصوليين (( فلا يليق إيراد ها بهذا المختصر )) لما فيها من كثرة المباحث التي أكثرها من علم الجدل الذي وضعه الجدليون باصطلاحهم، وله كتب غير كتب هذا الفن . (( ومن أتقن ما سبق )) من تفاصيل أركان القياس، وما يتصل بذلك من شرائطها، وتفطن لما تقدم من تحرير المسالك وتبييناتها (( لم يحتج إلى ذكرها إذ هي راجعة إلى منع، أو معارضة )) إذ المنازعة في كمال الشروط، وإلا لم تُسمع فحينئذ مرجعها إلى إهمال شيء مما تقرر .
(( وإنما حررت )) الإعتراضات (( للمناظرة )) بين الخصمين. هذا ونحن نذكرها في شرحنا هذا على سبيل الإختصار، إذ هي لا تخلو عن نفع في المقصود .
فنقول وبالله التوفيق: جملة الإعتراضات المتداولة في ألسنة الأصوليين على ما ذكره ابن الحاجب خمسة وعشرون اعتراضا .(1/86)


(( الأول الإستفسار وهو طلب بيان معنى اللفظ(1) ))
وتفسيره، لإجمال فيه أو غرابة، فلا يسمع إلى إذا كان في لفظ المستدل ذلك، وبيان وجودهما في اللفظ على المعترض، إذ الأصل عدمه .
مثاله : أن يقول المستدل على قتل المكرَه على القتل، بالقياس على المكرِه: مختارٌ فيُقتص منه كالمكرِه .فيقول المعترض: ما تعني بالمختار ؟ فإن فيه إجمالا من حيث أنه يقال للفاعل القادر والفاعل الراغب .هذا في دعوى الإجمال .
وأما في دعوى الغرابة فمثاله: أن يقول في الإستدلال على أن الكلب غير المعلم لا يؤكل من صيده، بالقياس على السيِّد: أَيلٌ لم يُرَض فلا تحل فريسته كالسيِّد .
فيقول المعترض : ما معنى الأَيل ؟ وما معنى لم يرض ؟ وما الفريسة؟ وما السيِّد ؟
وجوابه: ببيان ظهور اللفظ في مقصود المستدل، فلا إجمال حينئذ ولا غرابة . وذلك إما بالنقل عن أهل اللغة أنهم يستعملون اللفظ في ذلك . إما حقيقة أو مجازا، أو بالعرف العام أو الخاص . أو بالقرآئن المضمومة معه . فإن عجز عن ذلك فالتفسير لما أراد بما يحتمله اللفظ .كأن يقول في المثال الأول: أردت الفاعل القادر. ويقول في المثال الثاني: أردت بالأيل الكلب .وبقولي : لم يرض لم يُعلَّم . وأردت بالفريسة الصيد . وبالسيد الأسد .
وهذا الإعتراض داخل في المطالبة . إذ المعترض يطلب من المستدل تقرير ما قصد باللفظ . فيرجع إلى ما ترجع إليه .كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
(( الإعتراض الثاني ))
__________
(1) _ نص الكافل هكذا (الأول: الإستفسار.وهو طلب بيان معنى اللفظ .وهو نوع واحد، وإنما يسمع إن كان في اللفظ إجمال أو غرابة .ومن أمثلته أن يستدل بقوله تعالى : {حتى تنكح زوجا غيره}.فيقال: مالمراد بالنكاح، هل الوطء أو العقد ؟ وجوابه : أنه ظاهر في العقد شرعا، إذ لايسند إلى المرأة ) .(1/87)


فساد الإعتبار وهو مخالفة القياس للنص (1)وسمي به لأن اعتبار القياس في مقابلة النص باطل، وإن كان تركيبه صحيحا . مثاله: أن يقول من لم يشترط التسمية في الذبح قياسا على الناسي: ذبح من أهله في محله فيحل، وأن لم يسم كناسي التسمية فيقول المعترض هذا القياس فساد الاعتبار لمخالفة النص، وهو قوله تعالى : {ولا تأكلوا مما لم يذكر الله عليه }؟
وجوابه: إما بالطعن في سند النص إن لم يكن متواترا، أو بمنع ظهوره فيما يدعى، أو بتأويله بأن المراد به خلاف ظاهره، أو بأن يقول بموجَبِه أي : النص . بأن يدعي أن مدلوله لا ينافي مدلول القياس، وإظهار كونه غير مصادم للقياس، أو ببيان كون ذلك النص معارَضا بمثل ما يطابق القياس، أوببيان ترجيح القياس على النص، بما يرجح به القياس على النص إذا ورد بخلاف القياس . فجواب هذا الإعتراض: بأحد هذه الأمور .وليس المراد أن كل نص يُعارض به القياس يمكن فيه هذه الوجوه . بل قد يمكن بعضها فيجيب بما يتأتى منها . وقد لا يمكن شيء منها، فتكون الدآئرة على المستدل، فيتأتى من هذه الجوابات في المثال المذكور :
__________
(1) _نص الكافل هكذا: النوع الثاني : فساد الإعتبار . وهو مخالفة القياس للنص . مثاله : أن يقال في ذبح تارك التسمية عمدا : ذبح من أهله في محله فيحل، كذبح ناسي التسمية .فيقول المعترض : هذا فاسد الإعتبار، لمخالفته قوله تعالى{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} .فيقول المستدل : مؤول بذبح عبدة الأوثان . بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ذكر على قلب المؤمن سمى أو لم يسم . و نحو ذلك ) .(1/88)


إما التأويل .بأن يقول: الآية مؤولة بعبدة الأوثان دون المسلمين، بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( اسم الله على قلب المؤمن سمى أم لم يسم ) . أو بان يرجح القياس على ظاهر الآية، بكونه مقيسا على الناسي، وهو مجمع عليه . فهو مخصص للآية بالإتفاق. وهذا الإعتراض راجع إلى دعوى اختلال شرط من شروط العلة بمصادمة النص .
(( الإعتراض الثالث ))
فساد الوضع وهو أن يمنع المعترض من القياس المخصوص(1)
وحاصله: بيان كون الجامع بين الأصل والفرع قد ثبت أن الشارع اعتبره في نقيض الحكم المدعى .
وسمي بذلك: لأن المعترض يدعي أن المستدل وضع في المسألة قياسا لا يصح وضعه فيها . مثاله أن يقول المستدل على أن التكرار يسن في التغشي بالقياس على الإستجمار: مسح فيسن فيه التكرار كالإستجمار . فيقول المعترض: المسح لا يناسب التكرار، لأن الشارع قد جعله علة في سقوطه وكراهيته، وذلك في المسح على الخف، فكيف يعتبر في إثباته ؟!
وجوابه: ببيان وجود المانع في أصل المعترض . فيقول في المثال: إنما اعتبر الشار كراهية التكرار في الخف، لأنه يعرض الخف للتلف، لأن الخف يتلف بكثرة الماء وتكرره، وهذا المانع قد زال في التغشي . فاقتضاء المسح للتكرار باق فيه .
وهذا الإعتراض يعود إلى منع كون الوصف علة لانتقاضه . وذلك خلل شرط .
الإعتراض (( الرابع منع )) ثبوت (( الحكم في الأصل ))
. وهو أن يمنع المعترض من ثبوت حكم الأصل مطلقا . أي: من غير تقسيم.
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: (الثالث : فساد الوضع . وحاصله: إبطال وضع القياس المخصوص في إثبات الحكم المخصوص، بأنه قد ثبت بالوصف الجامع نقيض ذلك الحكم . مثاله أن يقال في التيمم : مسح فيسن فيه التكرار، كالإستجمار . فيقول المعترض: المسح لايناسب التكرار .لأنه ثبت اعتباره في كراهة التكرار في المسح على الخف ‍‍‍. فيقول المستدل: إنما كره التكرار في الخف لمانع وهو التعريض لتلفه ) .(1/89)


احتراز مما بعد هذا، فيبطل بذلك استدلال المستدل بهذا القياس، ولا يكون هذا الإعتراض قطعا للمستدل بمجرده، وإنما ينقطع إذا عجز عن إثباته بالدليل _ على الصحيح – (( مثاله أن يقول المستدل ))على عدم قبول جلد الخنزير للدباغ بالقياس على جلد الكلب (( جلد الخنزير لا يقبل الدباغ للنجاسة الغليظة كالكلب . فيقول المعترض لا نسلم أن جلد الكلب لا يقبل الدباغ )) ؟! أولِمَ قلت إن جلد الكلب لا يقبل الدباغ ؟ فالمنع والمطالبة بالدليل واحد .
(( وجوابه بإقامة الدليل )) على ذلك .ثم للمعترض بعد أن أقام المستدل الدليل على صحة ما ادعاه أن يعترض ثانيا، ولا ينقطع بمجرد إقامة الدليل، إذ لا يلزم من صورة الدليل صحته، فيطالب بصحته . والله أعلم . وهذا الإعتراض راجع إلى دعوى اختلال شرط .
الإعتراض (( الخامس التقسيم ))
أي: منع ثبوت الحكم بعد التقسيم . (( وحقيقته أن يكون اللفظ مترددا بين أمرين أحدهما ممنوع )) . فيمنعه المعترض . إما مع السكوت عن الآخر، لأنه لا يضره، أو مع التعرض لتسليمه، لأنه أيضا لا يضره . وهذا الإعتراض مقبول إذا كان المنع لما يلزم المستدلَ بيانُه .
وجوابه بمثل ما تقدم في المنع مطلقا . (( مثاله(1) أن يقول المستدل في قياس الصحيح الحاضر إذا )) تعذر عليه الماء، على المسافر والمريض في جواز التيمم: مكلف وجد السبب في جواز التيمم بتعذر الماء فساغ له التيمم كالمسافر والمريض . فيقول المعترض : ما المراد بكون تعذر الماء سببا في جواز التيمم، هل تعذر الماء مطلقا، أو تعذره في السفر والمرض ؟
__________
(1) _نص الكافل هكذا: ( مثاله: أن يقال في الصحيح الحاضر إذا فقد الماء: وجد سبب جواز التيمم . فيقول المعترض: أتيد أن تعذر الماء مطلقا سبب جواز التيمم ؟ أم تعذره في السفر والمرض ؟ فالأول ممنوع . وجوابه بإقامة الدليل على الإطلاق ) .(1/90)

18 / 49
ع
En
A+
A-