وذلك مما يغلب في الظن عدم غيرها به. لأن الأوصاف العقلية والشرعية مما لو كانت لما خفيت على الباحث عنه، أو أن يقول الأصل عدم غيرها، وبذلك يحصل الظن المقصود فإن ظهر له وصف آخر فإن ظهر بطلانه فذاك، وإلا رجع عما حكم .
(( وشرط هذا الطريق )) المسمى بحجة الإجماع، (( وما بعده )) وهو المناسبة (( الإجماع )) من العلماء (( على )) أنه لا بد من
(( تعليل الحكم في الجملة، من دون تعيين العلة )) ما هي .وإنما تتعين هذه الطريق بالسير كما بينا .وفي الثاني بالمناسبة كما سيأتي. (( ورابعها )) أي: رابع طرق العلة (( المناسبة )) بين الحكم والعلة. (( وتسمى )) هذه الطريق في لسان الأصوليين (( الإخالة، وتخريج المناط )) .
ومعنى الإخالة: الظن .لأن ذلك الوصف بالنظر إليه يخال أي: يظن إن لا علة سواه .
ومعنى تخريج المناط: استخراج العلة، إذ المناط ما يعلق عليه الشيء. ولما كانت العلة تتعلق بها الأحكام سميت: مناط الحكم.
ولما كانت المناسبة تستنبط بها العلة سميت تخريجا.
وهي أي: المناسبة .في الاصطلاح: (( تعيين العلة )) في الأصل المقيس عليه (( بمجرد إبداء مناسبة )) بين العلة والحكم (( ذاتية )) أي: من ذات الوصف، لا بنص، ولا بغيره . وبذلك سميت: مناسبة. وذلك (( كالإسكار في تحريم الخمر )) .فإن من نظر في الخمر
وحكمه، وهو التحري، ووصفه وهو الإسكار، يعلم منه كون ذلك الوصف بالنظر إلى ذاته مناسبا لشرع التحريم، لأجل حفظ العقل .
(( وكالجناية للعمد العدوان في وجوب القصاص )) فإن من نظر في القتل ووصفه، وهو كونه عمدا عدوانا، يجد ذلك الوصف بالنظر إلى ذاته مناسبا لشرع القصاص، لأجل حفظ النفوس .كما نبه على عليته تعالى في قوله: {ولكم في القصاص حياة}.
فهذه هي الطرق إلى تعيين العلة . والدليل على أنها هي الطرق:(1/76)
إما النص وتنبيه النص. فالدليل على أنهما طريقان إلى العلة أن الشارع إذا نص على العلة أو نبه عليها، فكأنه قال هذه علة هذا الحكم .فلا يحتاج إلى سؤآله عن دليل على ذلك، كما لا يحتاج في سائر الأحكام، لأن قوله دليل . إذ قد علمنا صدقه بظهور المعجز.
وإما الإجماع. فلأن قول أهله كقول الشارع . لما ثبت من الدليل على أن قولهم حجة.وأما حجته، وكذا المناسبة، فالدليل على أنهما طريقان: الإجماع على أنه لا بد للحكم من علة في الجملة .وقد تعينت العلة بهما، فيجب اعتبارهما للإجماع على وجوب العمل بالظن في علل الأحكام .وقد حصل الظن بتعيين العلة بهما، فيجب كونهما طريقين. فتأمل ذلك ! والله أعلم
(( و )) اعلم أنها (( تنخرم المناسبة )) بين الحكم والعلة (( بلزوم مفسدة )) من إثبات الحكم بها . يعني إذا ثبت الحكم بوصف يفضي إلى حصول مصلحة على وجه يلزم منه وجود مفسدة، فإنها تنخرم تلك المناسبة، فلا تثبت بها العلة حينئذ . ولكن إنما تنخر م بذلك إذا كانت تلك المفسدة (( راجحة )) على المصلحة التي ثبتت بالمناسبة. (( أو )) كانت (( مساوية )) لتلك المصلحة .
قلت: ومثال ذلك: ما يقال فيمن غُصَّ بلقمة مثلا وخشي التلف، ولم يجد ما يُنزلها به إلا الخمر. فإن في تحريمه مناسبة لحفظ العقل كما تبين. ولكن يلزم من المناسبة حصول مفسدة، وهو هلاكه لو لم يشربه، وهذه المفسدة أرجح من المصلحة، إذ حفظ النفس أَولى من حفظ العقل .فتأمل ذلك! والله أعلم .
وإنما انخرمت المناسبة بذلك، لأن العقل يقضى بأن لا مصلحة مع حصول مفسدة مثلها .وأما إذا كانت المصلحة أرجح، فإنها لا تنخرم المناسبة لمعارضتها .
وترجيح المصلحة على المفسدة يحصل: إما بطريق إجمالي شامل لجميع المسائل، وهو أنه لو لم يعتبر رجحان المصلحة على المفسدة لزم التعبد بالحكم بلا وجه . إذ يكون الحكم قد ثبت في محل النزاع لا لمصلحة، وهو باطل.
إذ فيه التعبد بالتحكم.(1/77)
وإما بطريق تفصيلي وهو: يختلف باختلاف المسائل والله أعلم.
(( و )) أما (( المناسب )) فحقيقته (( وصف ظاهر منضبط يقضي العقل بأنه الباعث على الحكم )) .وذلك كالإسكار في تحريم الخمر، واحترز بقوله: ظاهر. عن الخفي، وبقوله: منضبط .عن المضطرب، لأن العلة مُعَرِّفة للحكم، فإذا كان الوصف خفيا، أو غير منضبط، لم يعرف هو في نفسه، فكيف يعرف به الحكم، فما يصلح معرفا للحكم لا بد وأن يكون منضبطا، فالوصف الذي يحصل المقصود من ترتب الحكم عليه إن كان ظاهرا منضبطا اعتبر علة بعينه، كما مثلنا في الإسكار.
(( فإن كان خفيا، أو غير منضبط، اعتبر ملازمُه ومظنته )).أي: اعتبر وصف ظاهر منضبط يلازم ذلك الوصف الذي يحصل المقصود من ترتب الحكم عليه .ملازمة عقلية، أو عرفية، أو عادية. بمعنى: أن ذلك الوصف يوجد ملازمه الظاهر المنضبط، فيجعل الملازم معرفا للحكم، ويعبر عنه بالمظنة . وذلك: (( كالسفر للمشقة )) . يعني: أن المشقة مناسبة لترتب الترخيص عليها، تحصيلا لمقصود الشارع – أعني – التخفيف. ولا يمكن اعتبارها بنفسها إذ هي غير منضبطة، لأنها ذات مراتب تختلف بالأشخاص والأزمان، ولا يعلق الترخيص بالكل، ولا يمتاز للبعض بنفسه، فيعلق الحكم بما يلازمه، وهو السفر .
وكذلك القتل العمد العدوان، فإنه مناسب لشرع القصاص، ليحصل مقصود الشارع من حفظ النفوس . لكن وصف العمدية خفي، لأن القصد وعدمه أمر نفسي لا يدرك شئ منه . فيناط القصاص بما يلازم العمدية من أفعال مخصوصة، يقضي العرف عليها بكونها عمدا، كاستعمال الجارح في القتل .
(( وهو )) أي: المناسب (( أربعة أقسام )):
1_ مناسب (( مؤثر )).
2_ (( و )) مناسب (( ملائم )).
3_ (( و )) مناسب (( غريب )).
4_ (( و )) مناسب (( مرسل )).
وهذا هو الذي سماه الأصوليون إذا استنبطت العلة به، وأثبت الحكم بها: القياس المرسل.(1/78)
والدليل على انحصار المناسب في الأربعة الأقسام أمر عقلي وهو أن يقال: لا يخلو من أن يكون ذلك المناسب قد اعتبره الشارع أولا ؟
ولا قسم ثالث. إن كان قد اعتبره فلا يخلو: إما أن يعتبره بعينه في عين الحكم المطلوب أو لا ؟ إن كان قد اعتبره كذلك، فهو المناسب المؤثر. وسواء اعتبره بنص، أو تنبيه نص، أو إجماع، أو حجة إجماع. وإن لم يعتبره كذلك فلا يخلو:
إما أن يكون قد اعتبره بعينه في جنس الحكم، أو جنسه الأقرب في عين ذلك الحكم أو جنسه، أو لا ؟ إن كان قد اعتبره كذلك، فهو
المناسب الملائم . وإن لم يكن قد اعتبره الشارع في عين ذلك المحل، وإنما اعتبر جنسا له أبعد في غير محل الحكم، فهو المناسب الغريب . وإن لم يكن الشارع قد اعتبره لا في المحل، ولا في غيره، فهو المناسب المرسل . فدل ذلك على انحصار المناسب في هذه الأربعة الأقسام .
وهذا بيانها:
(( فـ )) القسم الأول وهو المناسب (( المؤثر، ما ثبت بنص أو إجماع )) أو تنبيه نص، أو حجة إجماع، (( اعتبارُ عينه في عين الحكم )) . وذلك (( كتعليل ولاية المال )) في حق الصغير (( بالصغر الثابت بالإجماع )) .لأنه قد أجمع على اعتباره _ أعني _ الصغر في ولاية المال .
(( وكتعليل وجوب الوضوء بالحدث الخارج من السبيلين ))، الثابت بالنص اعتباره في وجوب الوضوء.
(( و )) القسم الثاني وهو المناسب (( الملائم ما قد ثبت اعتباره بترتب الحكم على وَفْقِه فقط )) . يعني: من دون أن يثبت بنص، أو إجماع، أو تنبيه نص، أو حجة إجماع، اعتباره بعينه في عين الحكم.
(( لكنه قد ثبت بنص، أو إجماع ))، أو تنبيه نص، أو حجة إجماع
(( اعتبار عينه في جنس الحكم )) الذي يراد إثباته بالقياس عليه. وذلك (( كما ثبتت للأب ولاية نكاح ابنته الصغيرة، قياسا على ولاية المال، بجامع الصغر. فقد اعتبر عين الصغر في جنس الولاية )).(1/79)
بيانه أن يقال: ثبت للأب ولاية النكاح على الصغرى، كما ثبت له عليها ولاية المال، بجامع الصغر . فإن الوصف وهو الصغر أمر واحد، وليس جنسا تحته نوعان . والحكم وهو الولاية جنس، تجمع ولاية المال وولاية النكاح، وهما نوعان من التصرف . وعين الصغر معتبر في جنس حكم الولاية بالإجماع على الولاية على الصغير في المال، لأن الإجماع على اعتباره في ولاية المال إجماع على اعتباره في جنس الولاية العامة للمال والنكاح . فقد ثبتت الولاية مع الصغر في الجملة .
وأما اعتبار الصغر في عين ولاية النكاح، فإنه إنما يثبت بمجرد ترتب الحكم على وفقه فقط
(( أو ثبت ) بنص، أو إجماع، أو تنبيه نص، أو حجة إجماع
(( اعتبار جنسه )) أي: الوصف (( في عين الحكم )) الذي تريد إثباته بالقياس. وذلك: (( كجواز الجمع في الحضر للمطر، قياسا على السفر بجامع الحرج )) .بأن يقال: يجوز الجمع في الحضر مع المطر قياسا على السفر بجامع الحرج .فالحكم هو رخصة الجمع، وهو أمر واحد ليس جنسا تحته نوعان، والوصف المناسب وهو الحرج جنس يجمع الحاصل في السفر، وهو خوف الضلال والإنقطاع، وبالمطر وهو التأذي وهما نوعان مختلفان
(( فقد اعتبر )) كما بينا (( جنس الحرج في عين رخصة الجمع )) . وذلك بتنبيه النص _ أعني _ قولهم كان صلى الله عليه وآله وسلم: يجمع في السفر . فإن في ذلك إيماء إلى أن علة ترخيص الجمع هو حرج السفر ومشقته . والله أعلم .
(( أو )) ثبت بنص، أو إجماع، أو تنبيه نص، أو حجة إجماع(1/80)