والثاني: (( لأجل كذا، ولأنه )) كذا، (( أو فإنه )) كذا، (( أو بأنه )) كذا، ونحو ذلك مما أُتي فيه بالحروف المفيدة للعلية.
نحو{إن كنتم جنبا}. (إنها ليست بِسَبُع). {من أجل ذلك كتبنا}.{خاشعا متصدعا من خشية الله}. ( إن امرأة دخلت النار في هرة ). وهذا الذي أتي فيه بأحد حروف العلة، دون الأول الذي صُرِّح فيه بالعلة، لأن هذه الحروف قد تأتي لغير التعليل، فليست نصا في المقصود.
فاللام قد تكون: للعاقبة. نحو:
له ملك ينادي كل يوم لِدوا للموت وابنوا للخراب والباء: للمصاحبة و التعدية ونحوهما.
وإن: للشرطية أي: للزوم من غير تقييد.
ومن: للتبعيض والتعدية.
وفي: للظرفية. وغير ذلك، والله أعلم. (( و )) القسم الثاني: من النص (( غير الصريح )) وهو (( ما فُهِم منه التعليل لا على وجه التصريح )) بالعلة بأيِّ تلك الوجوه المذكورة آنفا.
ويسمى هذا القسم من النص (( تنبيه النص ))، وإيماء النص، وهو أنواع:
الأول: صدور حكم منه صلى الله عليه وآله وسلم جوابا، عقيب سماع واقعة، عرضت عليه لبيان حكمها، (( مثل )) قوله صلى الله عليه وآله وسلم للأعرابي حين قال هلكت وأهلكت.فقال: ( ماذا صنعت؟!) فقال: جامعت أهلي في شهر رمضان (( اعتق رقبة. جوابا لمن قال: جامعت )) أهلي (( في شهر رمضان )) .فإنه يعلم بذلك أن علة العتق: الجماع في شهر رمضان.
(( وقريب منه )) أي: من هذا النوع، ما إذا سأله صلى الله عليه وآله وسلم، أحد عن حكم شيء، فيذكر في الجواب ما قد ثبت فيه مثل ذلك الحكم بعلته، مما هو نظير المسؤول عنه أو دونه، ليثبت في المسؤول عنه ذلك الحكم بتلك العلة بالأولوية، أو بالمماثلة .
مثل قوله للخثعمية حين قالت له: إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج فإن حججت عنه أينفعه ذلك؟!(1/71)
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (( أرأيتِ لو كان على أبيك دين …) إلى آخر (( الخبر )) وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: فقضيتيه أكان ينفعه ذلك؟!
فقالت: نعم.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ( فدَينُ الله أحق أن يقضى ).
سَأَلَتْه عن: حكم دَين الله وهو النفع. فذكر نظيره وهو دين الآدمي بِعِلَّته وهو قضاؤه، فإنه يحصل النفع إذا قضي، فكذلك دَين الله. فَنَبَّه بذكر نظيره مع العلة على أن حكم المسؤول عنه كذلك لتلك العلة، وإلا لم يكن لذكره فائدة والله أعلم.
وإنما قال في هذا: وقريب منه. لأنه في الأول ذكر في الجواب حكم المسؤول عنه، وفي هذا ذكر فيه نظير المسؤول عنه، ليثبت في المسؤول عنه ما ثبت في نظيره كما بينا.
وهذا النوع من تنبيه النص يسمى: ترتيب الحكم على الوصف، وقد عُدَّ منه قوله تعالى: { فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل}. فنبه على أن العلة في صحة النيابة من الولي هي السفه، أو الضعف. والأَولى أن هذا من الطرف الثاني من صريح النص _ أعني ما أتي فيه بأحد حروف العلة _ لأنه قد أتى فيه بحرف العلة _ أعني – إن. فهو مثل: {وإن كنتم جنبا}. كما قدمنا والله أعلم.
ومن هذا النوع: قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعمر حين سأله عن قُبلة الصائم هل تفسد الصوم ؟
( أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يفسد ذلك؟!
فقال: لا.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ( فصم إذاً ) .
سأله عن حكم القبلة هل يَفسد بها الصوم؟ فذكر حكم نظيرها – أعني – المضمضة، وهو كونها غير مفسدة، بعلته وهو كونه لم يصل الجوف منها شئ، ليعلم أن حكم القُبلة كذلك لتلك العلة، وإلا لم يكن لذكر نظير القبلة فائدة فتأمل ذلك!
(( و ))النوع الثاني: الفصل بين الشيئين المذكورين بالوصف، إما مع ذكر الوصفين معا (( مثل )) قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( للراجل سهم، وللفارس سهمان ).(1/72)
وإما مع ذكر أحدهما فقط. مثل: القاتل عمدا لا يرث .فإنه لم يتعرض لغير القاتل وإرثه، فقد فَصَل صلى الله عليه وآله وسلم بين المجاهدين بصفة الفروسية، والرجولية. وكذلك فصل بين الوارثين بالقتل، وعدمه. فلو لا أن الصفة هي العلة في استحقاق النصيب المسمى في الأول، وعدم الإرث في الثاني، لما كان لذكرها فائدة.
(( والنوع الثالث )) أن يذكر الشارع وصفا مع حكم مناسب(( مثل )) قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يقضي القاضي وهو غضبان )). فنبه بذكر الغضب مع الحكم على أنه العلة في عدم جواز الحكم مع غضب القاضي . وإلا لم يكن لذكره فائدة .وذلك لأنه مُشَوِّش للنظر، وموجِب للاضطراب .
(( وغير ذلك )) من الوجوه التي يُفهم منها التعليل، لا على وجه التصريح كثير.نحو المدح، أو الذم في عَرَض ذكر الفعل، نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ). فلو لا قصدُ التنبيه على علة لعنهم بكونهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لم يكن لذكر ذلك فائدة.
وكالفصل بين الشيئين بالشرط، والإستثناء .
فالشرط مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم )، ففصل بين الشيئين المكيلين في جواز التفاضل، بشرط اختلاف الجنس، فيعلم بذلك أن العلة في جواز التفاضل هي الاختلاف في الجنس . وإلا لم يكن لذكر الشرط فائدة .(1/73)
والإستثناء مثل قوله تعالى: { إلا أن يعفون}. ففصل تعالى بين المطلقات العافيات، وغيرها، في سقوط المهر بالإستثناء. فلو لا أن العلة في سقوط مهر العافية هو العفو، لم يكن لذكر الإستثناء فائدة. ومن ذلك: الغايات. مثل: {ولا تقربوهن حتى يطهرن}. ونحوه. فلو لا أن العلة في جواز الوطء هو الطهر، لم يكن لذكر الغاية فائدة. ونحوه اقتران الصفة بحكم من الشارع، حيث لا وجه لذكر الصفة إلا قصد التعليل للحكم بها، وإلا لكان ذكرها عديم الفائدة. نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم حين امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب.
فقيل له: إنك تدخل على آل فلان وعندهم هرة ؟!
فقال: إنها ليست بسبع، إنها من الطوافين عليكم والطوافات.
حيث ذكر ذلك جوابَ إنكارِ دخوله بيتا فيه هرة. فنبه على أن العلة كونها غير سبع . ولو لا قصد التعليل لما كان لإخباره بذلك وجه يقتضيه. كذا قيل.
والأَولى: أن هذا مما أتي فيه بأحد حروف العلة، فيكون من الطرف الثاني من الصريح كما تقدم . ونحو ذلك كثير.
فهذه الوجوه كلها تنبيه نص على العلة، من حيث أنه لو لم يقصد فيها ذلك لكان ذكر هذه الأمور لغوا لا فائدة فيه، وكلام الحكيم منزه عن ذلك.
(( وثالثها )) أي: ثالث طرق العلة (( السبر والتقسيم )).
(( ويسمى )) هذا الطريق عند الأصوليين (( حجة الإجماع )) وليس بإجماع صريح. وإنما سمي بذلك لأنه يرجع في تعيين ما أدعي أنه العلة، إلى الاحتجاج بالإجماع على أنه لا بد لذلك الحكم من علة.
(( وهو )) أي: حجة الإجماع (( حصر الأوصاف في الأصل )). التي يمكن أن تكون علة. وهذا هو التقسيم.
(( ثم )) بعد ذلك الحصر (( إبطال التعليل بها )). أي: بتلك الأوصاف، (( إلا واحدا )) منها. (( فيتعين )) حينئذ كونه علة. وهذا هو السبر.
(( و )) الطريق إلى (( إبطال ما عداه )) يكون بأمور:(1/74)
(( إما ببيان ثبوت الحكم من دونه )). كما يقال في قياس الذرة على البر في تحريم التفاضل، بعد الإجماع على أن تحريمه لعلة من دون تعيين للعلة:
حصرتُ الأ وصاف في البر التي يمكن أن تصلح علة للتحريم في بادئ الرأي، فوجدتها الطعم، أو القوت، أو الكيل. فيبطل الطعم، والقوت بثبوت الحكم، وهو التحريم بدونهما .كما في النورة، والملح، فيتعين.
(( أو ببيان كونه وصفا طرديا )). أي: من جنس ما علم من الشارع إلغاؤه وعدم اعتباره في حكم من الأحكام. كما يقال مثلا في قياس الخل على المرق في عدم التطهير:
حصرتُ الأوصاف في المرق التي يمكن أن تصلح علة لعدم التطهير في بادئ الرأي، فوجدتها إما كونه متغيرا، أو كونه لا تبنى عليه القنطرة، ولا يصاد منه السمك. ثم تُبطل هذين الوصفين _ أعني كونه لا تبنى عليه القنطرة، وكونه لا يصاد منه السمك _ بأن الشارع لم يعتبر ذلك في حكم من الأحكام.
وكما يقال في قياس الأَمة على العبد في سراية العتق:
حصرتُ الأوصاف التي يمكن أن تُدَّعى علة لذلك، فوجدتها إما المِلك، أو الطول، أو القصر، أو الذكوة . ثم تبطل الطول، والقصر بأنه لم يعتبرهما في أحكام العتق، فيتعين المِلك.
(( أو بعدم ظهور مناسبته )). أي: بأن لا يظهر للوصف وجهُ مناسبةٍ يقتضي بها الحكم، فيلغى حينئذ. كما يقال في قياس النبيذ على الخمر:
حصرتُ الأوصاف في الخمر التي تصلح علة لتحريمه، فوجدتها إما الإسكار، أو السيلان، أو الإشتداد. فيبطل ما عدى الإسكار لعدم المناسبة بينه وبين التحريم، فيتعين الإسكار.
فهذه هي الطرق إلى إبطال التعليل بما عدى الوصف المُعلَّل به . فإن قلت: قد بينت الطريق إلى الإبطال فما الطريق إلى انحصار الأوصاف فيما ذكر المعلِّل ومن أين له ذلك؟!! قلت: الطريق إلى ذلك أن يقول: بحثت فلم أجد سوى هذه الأوصاف. وعدالته وتَدَيُّنه يقتضيان صدقه فيما ادعاه من البحث.(1/75)