(( و )) الشرط الثالث: (( أن لا يرد فيه نص )) أي: لا يرد على حكم الفرع نص ولا ظاهر، وذلك إذا كان حكم الأصل ثابتا بدليل عام، يدخل تحته حكم الفرع، أو كان حكم الفرع ثابتا بنص مستقل، فلا يستند في إثبات حكم الفرع إلى القياس حينئذ، بل إلى ذلك النص. إلا أن يستدل بالقياس مع النص استظهارا فلا بأس بذلك.وهذان الشرطان الأخيران عدميان .
(( وأما شروط الحكم هنا )) أي: الذي يثبت بالقياس الشرعي، ولعل هذا القيد لإخراج القياس في مسائل أصول الدين. فإنه يصح أن يكون الحكم فيها عقليا، كما هو مذهب البهشمية في أنه يصح الإحتجاج على وجود الباري بالقياس على أفعالنا، والثابت بالقياس حكم عقلي وهو وجوده تعالى.ولإخراج الحكم الثابت بين المشبه والمشبه به على جهة التقابل. والله أعلم. (( كونه شرعيا )) أي: كونه من الأحكام الشرعية .
إما وجوب، أو تحريم، أو ندب، أو كراهة، أو إباحة، فهذه لا يهتدي إليها العقل إلا بالأدلة الشرعية.
( لاعقليا ).أي: لا يكون الحكم الثابت بالقياس الشرعي عقليا.نحو أن يقال في العين المغصوبة: استيلاء حرَّمه الشرع فيجب كونه ظلما، كالغاصب الأول .فهذا لا يصح، لأن الظلم إنما يثبت حيث يثبت وجهه، وهو كونه ضررا عاريا عن جلب نفع ودفع ضرر، واستحقاق.
(( ولا لغويا )) أي: لا يكون الحكم الثابت بالقياس الشرعي لغويا، نحو أن يقال في اللواط: وطء وجب فيه الحد فيسمى فاعله زانيا، كواطئ المرأة .فهذا لا يصح لأن إجراء الأسماء بالقياس لا يصح، بل لا يصح إثباتها إلا بوضع أهل اللغة، لا بالقياس الشرعي .
وأما (( شروط العلة )) فستة:
الأول: (( أن لا تصادم نصا ولا إجماعا )). بأن يكون ما تثبته في الفرع مخالفا لأيهما .مثال ذلك أن يعلل الشارع امتناع أمر بكونه سهلا، فيقاس عليه أن المَلِك لا يُعتق في كفارة الظهار، لسهولته عليه، فإن هذا الحكم مخالف للكتاب والسنة والإجماع.فلا تصح هذه العلة.(1/66)
(( و )) الشرط الثاني: (( أن لا يكون في أوصافها )) أي: العلة حيث قلنا بتعدد الأوصاف (( مالا تأثير له في الحكم )). بحيث لو قُدِّر عدم ذلك الوصف في الأصل لم يعدم الحكم فيه، بل يثبت مع فقده، فلا بد في كل واحد منها إن يكون مما يبعث على الحكم حيث هي باعثة، أو يدل عليه حيث هي إمارة. كما يقال في الإستدلال على وجوب القصاص في القتل بالمثقل بالقياس على القتل بالمحدد: قتل عمد عدوان. فإن لكل واحد من هذه الأوصاف تأثيرا في اقتضاء الحكم، وهو وجوب القصاص. وإن لم يكن كذلك لم يصح التعليل به، ولو كان تركه مما يؤرث النقض للعلة .
مثال ذلك أن يقال في ضمان التالف من النور بمثله مثلا: مثلي ليس بلبن المصرآة فيضمن بمثله .ويجعل قوله: ليس بلبن المصرآة جزأ من العلة، وهو ليس بباعث على الحكم ولا أمارة عليه، ولو أسقط لانتقض القياس بلبن المصرآة .فمثل ذلك لا يصح أن يكون علة .
(( و )) الشرط الثالث: أن توافق العلةُ الحكمَ و(( لا تخالفه في التغليظ والتخفيف )) لعدم المماثلة .
مثال ذلك أن يقول القائس في التيمم: مسح يراد به الصلاة فيسن فيه التكرار كالوضوء. فيُعترض بأن العلة وهي كونه مسحا تخفيف،
والحكم الموجَب عنها وهو التكرار تغليظ، فلا ملآءمة بين العلة وبين حكمها، فلا تكون باعثة عليه ولا أمارة له، فلا يصح.
أو يعلل كون التكرار في الغسل غير مسنون بكونه غسلا، فإن العلة وهي كونه غسلا تغليظ، والحكم الموجَب عنها وهو عدم التكرار تخفيف. فلا يتلآءمان .
(( و )) الشرط الرابع: (( أن لا تكون العلة مجرد الاسم )). نحو أن يعلل تحريم الخمر بكونه يسمى خمرا، فهذه العلة لا تصح. (( إذ )) الاسم (( لا تأثير له )) في اقتضاء الأحكام. ولا دلالة له عليها، لأنها أي: الأسماء، تابعة للإختيار. والمصالح والمفاسد لا يجوز أن تتبع الإختيار. والله أعلم.(1/67)
(( و )) الشرط الخامس: (( أن تطَّرِد )). ومعنى الإطراد: أن يثبت حكمها عند ثبوتها في كل موضع، فلو تخلف عنها لا لخلل شرط ولا لحصول مانع، بطلت عليتها. (( على الصحيح )) المختار.
وقيل: لا يشترط ذلك.
وقد ذكر الإمام المهدي عليه السلام في شرح المعيار: أن الشرط لا خلاف فيه، وأنه إذا تخلف الحكم عنها لا لخلل شرط، ولا لحصول مانع، بطلت عِلِّيتها اتفاقا. فينظر في ذلك.
ومثال عدم اطرادها: أن يعلل _ مثلا _ شرعية التكرار في الوضوء بكونه عبادة تراد للصلاة. فإن حكم هذه العلة وهو التكرار، يتخلف عنها في التيمم .لأنه عبادة تُراد للصلاة ولا يسن التكرار .فتأمل! والله أعلم.
(( و )) الشرط السادس: (( أن تنعكس )). ومعنى انعكاسها أن يعدم الحكم عند عدمها. فلو لم تنعكس لم يصح التعليل بها(( على رأي )). وذلك عند من منع من جواز التعليل بعلتين مختلفتين، أو بعلل مختلفة، كل واحدة منهما أو منها مستقلة باقتضاء الحكم .
وأما من جوَّزه _ وكأن المصنف منهم، ولذلك قال هنا: على رأي، وفي الأول: على الصحيح. فتأمل _ فلا يشترط ذلك .لأنه إذا جاز ذلك صح أن ينتفي الوصف ولا ينتفي الحكم، لوجود الوصف الآخر، وقيامه مقامه لاستقلاله في اقتضاء الحكم، وهذا هو المختار. لوقوع ذلك والوقوع دليل الجواز، إذ لو لم يَجُز لم يقع. وبيان وقوعه أن اللمس والبول والغائط والمذي، علة للحدث الأصغر، وهي مختلفة الحقائق، ويستقل كل واحد منها باقتضاء الحكم .
وكذلك القتل لأجل الردة والقتل والزنا، إذا كان محصنا، فإذا تخلف أحد هذه الأوصاف لم يتخلف الحكم، لوجود وصف آخر مقتض له. فافهم ذلك. والله أعلم .
فهذه الشروط الستة جملة مالا بد من اعتباره في العلة على المختار. وقد زِيد عليها غيرها، ولكنها عندنا ليست بشروط، فلا نشتغل بذكرها. وموضعها البسائط والله أعلم .
(( و )) أعلم أن للعلة أحكاما منها :
أنها (( تصح أن تكون نفيا )). ولو كان الحكم ثبوتا.(1/68)
(( وأن تكون إثباتا )). ولو كان الحكم عدما.
فلذلك أربع صور :
الأولى: أن تكون العلة ثبوتية، والحكم الثابت عنها ثبوتيا، كتعليل تحريم الخمر بكونه مسكرا .
الثانية: أن يكونا عجميين معا، كتعليل عدم نفاذ التصرف من الصبي والمجنون بعدم العقل .
الثالثة: أن تكون العلة وجودية، والحكم الثابت عنها عدما، كتعليل عدم نفاذ التصرف من المسرف بالإسراف .
الرابعة: عكس هذه الصورة، وهي أن تكون العلة عدمية والحكم الثابت عنها وجوديا، وهذه العلة مختلف فيها، والصحيح صحتها.لأن العلل الشرعية إنما هي كاشفة لا موجِبة، كالعلل العقلية.فهي إما أمارة للحكم، أو باعثة .والأمارة الباعثة كما يصح أن تكون إثباتا يصح أن تكون نفيا، ولا مانع من ذلك.
مثالها: تعليل كون المعجز معجزا، وهو أمر وجودي، بالتحدي بالمعجز مع انتفاء المعارض.فهذه علة جزؤها عدمي، وما جزؤه عدمي فهو عدمي. وقد عُلل بها وجودي .والخصم يوافق في صحة هذه العلة. فيصح ما قلنا وبطل قوله .وكذا تعليل صحة إملال ولي الصبي عن دينه، بعدم بلوغ الصبي.وتعليل جواز ضرب الزوجة بعدم الإمتثال وغير ذلك كثير ما في البسائط.
(( و )) منها أنها تصح أن تكون (( مفردة )) اتفاقا، كقولنا في الوضوء: عبادة فتجب فيه النية كالصلاة .ونحو ذلك كثير.
(( و )) يصح أيضا أن تكون (( مركبة ))من أوصاف متعددة، كتعليل وجوب القصاص بقولنا: قتل عمد عدوان.
فهذه الأوصاف بمجموعها علة في وجوب القصاص .ولا مانع من ذلك على الصحيح، إذ الوجه الذي تثبت به عِلِّية الوصف الواحد تثبت به علية الأوصاف المتعددة، من نص، أو مناسبة، أو شَبَهٍ، أو سَبْر، أو استنباط. والله أعلم.
(( و )) منها أنها تصح (( أن تكون )) العلة (( خلقا في محل الحكم )) إما لازما كالطعم في الربويات عند من علل به، وإما مفارقا كالصغر إذا علل به فساد البيع، أو نحوه .(1/69)
(( و )) من أحكام العلة أيضا أنها (( قد تكون حكما شرعيا )) وذلك كتعليل عدم صحة بيع الكلب بكونه نجسا، وكتعليل نجاسة رطوبة الكافر بكفره، وهذا لا مانع منه على الصحيح.
(( وقد يجيء عن علة )) واحدة (( حكمان شرعيان ))، أو أكثر أيضا. مثال ذلك: تعليل تحريم دخول المسجد، والقرآءة، والصلاة، والصوم، والوطء، بالحيض. فهذه أحكام متعددة عن علة واحدة، من غير شرط كما ترى.
وقد يأتي عنها مطلقة حكم . ومشروطة حكم آخر .كالزنا فإنه يوجب الجلد بمجرده، والرجم بشرط الإحصان.
(( ويصح تقارن العلل )) المتعددة بحكم واحد، وذلك كالقتل، والردة، والزنا، إذا اقترن وجودها، فإنها علة في القتل.
(( و )) يصح أيضا (( تعاقبها )). وهو بأن تقتضي علة حكما، ثم تقتضي علة أخرى ذلك الحكم. مثاله: تعليل تحريم الوطء بالحيض، فإذا انتهت مدته علل بعدم الغسل، فإنه يتعقب الحيض في اقتضاء تحريم الوطء.
(( ومتى تعارضت العلل )) وتعارضها: بتساويها في بادئ الرأي مع تنافيها في الإقتضاء بأن يقتضي بعضها خلاف ما يقتضيه معارضتها (( فالترجيح )) حينئذ واجب. وسيأتي وجوهه في باب الترجيح إن شاء الله تعالى.
(( وطرق العلة )) أي: الطرق التي يعرف بها كون العلة علة (( أربع )):
أولها: (( الإجماع وذلك أن ينعقد )) الإجماع من الأمة، أو من أهل البيت عليهم السلام (( على تعليل الحكم بعلة معينة )). قوله: معينة. احتراز من حجة الإجماع كما سيأتي.
وهذا الطريق واضح لا إشكال فيه. ومثال ذلك: الإجماع على أن علة وجوب الحد على الشارب شرب المسكر، و أن علة معاقبة تارك الصلاة تركها، ونحو ذلك كثير.
وثانيها: (( النص. وهو )) قسمان:
1_ (( صريح )).
2_ (( و غير صريح )).
(( فالصريح )) وهو: ما دل بوضعه أي: (( ما )) صُرِّح فيه بالعلة، أو(( أُتِيَ فيه بأحد حروف التعليل )) .
فالأول: (( مثل: العلة كذا، أو )) كي يكون كذا، أو إذا يكون كذا .(1/70)