فإما: مع الاختيار. فهم وغيرهم على سواء في ذلك.
وإما: مع الإلجاء. فيرتفع التكليف. فتعين أنه بواسطة العصمة .
ولا بد من وقوع ما يريده الله تعالى من أفعاله لتوفر الدواعي إلى ذلك، وانتفاء الموانع .فيجب الفعل مع ذلك، ويجب استمراره. فثبت عصمة جماعتهم من المعاصي، دون آحادهم لوقوعها منهم .فيكون إجماعهم حجة وهو المطلوب. (( و )) بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
( أهل بيتي كسفينة نوح ).(( و )) قوله صلى الله عليه وآله وسلم :
( إني تارك فيكم… ) .الخبرين بكمالهما.
فتمام الأول: من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى.، فنص على أن من اتبعهم فهو ناجٍ. ولا ينجو إلا من هو محق، أو متبع لمحق .وقد وجدنا آحادهم غير محقين، فتعين جماعتهم. وإلا بطل الحديث. وهو صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى. فاقتضى ذلك أن جماعتهم غير خارجين عن الحق. وذلك بواسطة العصمة كما تقدم .فتكون جماعتهم معصومة. فيكون إجماعهم حجة.
وتمام الثاني: الثقلين، ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعثرتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض .وهذا تصريح بأنهم لا يخرجون عن الحق، إذ قد جعلهم قسيم الكتاب، والكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فكذلك أهل البيت عليهم السلام. وإلا لكان صلى الله عليه وآله وسلم قد سوَّى بين الحق والباطل. وهذا محال. والمعلوم أنه قد خرج عن الحق بعض آحادهم. فتبين أن المقصود: جماعتهم. فيكون إجماعهم حجة، كما أن الكتاب حجة. وذلك واضح.
قوله: الثقلين. مفعول به لتارك .وقوله: كتاب الله وعثرتي. عطف بيان. نزَّل العترة والكتاب منزلة الثقلين لعظمهما. وعبَّر عنهما بهما. فتأمل ذلك موفقا إن شاء الله تعالى .(1/51)


قوله (( ونحوهما )) أي: نحو الخبرين من الأدلة الدالة على ذلك، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( فأين تاه بكم عن علمٍ تتوسخ من أصلاب أصحاب السفينة حتى صار في عثرة نبيكم ). وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما إن النجوم أمان لأهل السماء).وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن الجم أمان لأهل السماء ). وغير ذلك مما يؤدي ذلك المعنى كثير.
ولا يبعد أن الأخبار الواردة في هذا تقتضي التواتر المعنوي، بل ذلك واضح. قال الإمام المهدي عليه السلام: ولو أمعن النظر المخالفون في هذه المسألة وجدوا أدلتها أوضح من أدلة إجماع الأمة.
لكن لله القائل شعرا :
لهوى النفوس سريرة لا تعلم ... كم حار فيه عالم متكلم
واعلم أرشدنا الله وإياك: أنه قد ثبت بهذه الأدلة القاطعة أن أهل البيت عليهم السلام هم الفرقة الناجية، فعليك بإتباع جماعتهم، والتشبث بأقوالهم. فيأبى الله أن تكون جماعة أهل بيت نبيه سيد المرسلين هالكين، وغيرهم ناجين. مع ما هم عليه من الورع الشحيح، أتتحرز الكامل عن المآتم، الذي لا يجهله إلا متجاهل.
ولله در القائل حيث يقول :
إذا كان في الإسلام سبعون فرقة ونيف على ما جاء في واضح النقل
ولم يك ناج منهمُ غير فرقة فقل لي بها ياذا التبصر والعقل
أفي الفرق الهُلاُّك آل محمد ... أم الفرقة اللاتي نجت منهم قل لي
فإن قلت في الناجين فالقول واحد وإن قلت في الهلاك حفت عن العدل
فدع لي عليا والأئمة بعده ... وأنت من الباقين في أوسع الحل
إذا كان مولى القوم منهم فإنني ... رضيت بهم لازال في ظلهم ظلي(1/52)


(( وإذا اختلفت الأمة على قولين )) لا يتجاوزونهما (( جاز إحداث قول ثالث )) مخالف للقولين الأولين. (( ما لم يرفع ))ذلك القول الثالثُ (( القولين )) الأولين. مثال ذلك: فسخ النكاح بالعيوب الخمسة: الجنون، والجذام، والبرص _ من جهتهما جميعا – والجبُّ، والعِنَّة _ من جهة الزوج – والقرن، والرتق، والعقل _ من جهة الزوجة .
فقد اختلف فيها على قولين:
فقيل: يفسخ بها كلها .
وقيل: لا يفسخ بشيء منها .
فالتفصيل وهو: أنه يفسخ ببعضها دون بعض، قول ثالث. وهو لم يرفع القولين .إذ وافق في كل مسألة مذهبا .
وكما إذا قال بعض الأمة: بوجوب النية في جميع العبادات.
وقال باقيهم: لا تجب في شيء منها.
فيأتي بعدهم من يقول: بوجوبها في شيء دون شيء. فهذا جائز إذ لم يرفع القولين كما ترى.
وأما إذا رفعهما: فلا يجوز. إذ هو يكون خرقا للإجماع.
مثاله: مسألة الجد مع الأخ.
قيل: يرث المال كله ويسقط الأخ .
وقيل: يقاسم الأخ.
فالقول: بحرمانه قول ثالث رافع للقولين الأولين .إذ قد اتفقنا على أنه لا يُحرَم، فلا يجوز ذلك.
(( وكذلك )) يجوز (( إحداث دليل ثالث )). أي: إذا استدل أهل العصر الأول على مسألة بدليلين، جاز لمن بعدهم إحداث دليل ثالث. (( و )) كذا يجوز إحداث (( تعليل ثالث )). أي: إذا عَلَّل أهل العصر الأول مسألة بعلتين، جاز لمن بعدهم إحداث علة ثالثة. إلا أن تُغَيَّر تلك العلة المستخرجة من بعد الحكم، فإنه يكون كالقول الثالث. فإذا علل أهل العصر الأول بعلتين تقتضيان حكمين مختلفين باختلاف العلتين، وجاء من بعدهم بعلة ثالثة تقتضي خلاف دينك الحكمين، كان هذا كإحداث القول الثالث في الحكم. وقد مر بيانه .(1/53)


(( و )) كذلك يجوز إحداث (( تأويل ثالث )). أي: إذا تأوَّل العصر الأول الظاهرَ بتأويلين، جاز لمن بعدهم إحداث تأويل ثالث. هذا كله إذا لم ينصوا على بطلا نه .أما إذا نصوا على بطلانه، فلا يجوز اتفاقا. والدليل على الجواز: أن العلماء لم يزالوا في كل عصر يستنبطون أدلة وعللا وتأويلات بلا تن كر بينهم في ذلك، فكان إجماعا على جوازه. والله أعلم .
(( وطريقنا إلى العلم بانعقاد الإجماع )) ووقوعه أمور .إذ لا يُعلم ببديهة العقل، ولا باستدلال عقلي قطعا.
فحينئذ الطريق إليه:
(( إما )) السماع لأقاويلهم .
أو (( المشاهدة )) لكل واحد من أهل الإجماع يفعل مثل ذلك الفعل الشرعي، أو يترك ذلك الشيء.ويُعلم من كلٍ منهم أنه تركه لدليل شرعي .إما مقتضٍ للتحريم أو للكراهية .ويُعرف ذلك من قصدهم .
(( وإما النقل )) حيث نقل (( عن كل واحد )) من المجمعين المعتبرين في الإجماع أنه سمع منه أو فعل أو ترك مثل ذلك كذلك .فإنه يكون إجماعا .فإن أثمر النقلُ العلمَ لبلوغ الناقل حد التواتر، فالإجماع قطعي، وإلا فظني. كما سيأتي بيانه.
(( أو )) نقل (( عن بعضهم )). أي: عن بعض الأمة القولُ به، أو الفعل، أو الترك له، كذلك .لكن (( مع نقل رضاء الساكتين )) عنه حتى أنهم لو أفتوا لما أفتوا إلا به، ولو حكموا لما حكموا إلا به.فهذا معنى الرضى. ويعرف رضاؤهم بعدم إنكارهم لما قال به المفتى، أو فعله، أو تركه. ولكن لا يكون عدم الإنكار رضىً إلا بشروط ثلاثة :
الأول: إنتشاره بينهم حتى لم يخف على أحد منهم. فلو لم ينشر لم يكن عدم الإنكار رضىً. لجواز أنهم لو علموا لأنكروه .
الثاني: عدم ظهور سبب التَّقِيَّة، حتى يُعلم أن سكوتهم ليس لأجلها، وإلا لم يكن رضىً .(1/54)


الثالث: كونه مما الحق فيه مع واحد، والمخالف مخطئ آثم. وذلك كالمسائل القطعية. وكذلك المسائل الإجتهادية عند من يقول: إن الحق فيها مع واحد.وأما من يقول: كل مجتهد مصيب فالحق أنه حجة ظنية أيضا، كالخبر الآحادي إذا اجتمعت فيه الشروط. إذ العادة تقضي مع الإنتشار، وعدم التقية، أن ينكره المخالف ويظهر حجته، فيغلب في الظن حينئذ أن سكوتهم سكوت رضىً.
نعم: وقد بين المصنف هذه الشروط بقوله: (( ويعرف رضاؤهم )) _ يعني _ الساكتين (( بعدم الإنكار مع الإشتهار، وعدم ظهور حامل لهم على السكوت، وكونه مما الحق فيه مع واحد )) كما بيناه مفصلا.
(( ويسمى هذا )) أي: الإجماع الذي يثبت بهذه الطريق (( إجماعا سكوتيا )) ولا يخفى وجه التسمية.
(( وهو )) أي: الإجماع الجامع لهذه الشروط كلها (( حجة )). لأنه إذا كان على ما ذكره، كان سكوتهم سكوت رضى قطعا. إذ لو لم يرضوا به لأنكروه، لوجوب إنكار مثله، وإلا كانوا قد أجمعوا على ضلالة. وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ( لن تجتمع أمتي على ضلالة ). فتأمل! ولكن يكون حجة (( ظنية )) لا قطعية (( وإن نقل تواترا )) أيضا. لاحتماله.
(( وكذا القول إن نقل آحادا )) فإنه يكون حجة ظنية. وهو المسمى بالإجماع الآحادي. (( فإن تواتر )) نقل الإجماع غير السكوتي ((فحجة قاطعة )). كالكتاب، والسنة المتواترة. (( يفسق مخالفه )) للوعيد عليه. وناهيك بآية المُشآقة، وهي (( قوله تعالى: ( ويتبع غير سبيل المؤمنين ...الآية ).بكمالها وهي قوله تعالى : {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولِّهِ ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا }. (( لتكونوا شهداء على الناس )). (( ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لن تجتمع أمتي على ضلالة )). ونحوه كثير ففيه تواتر معنوي.(1/55)

11 / 49
ع
En
A+
A-