قلت: بل قد يُفرق بينهما بأن يقال: الاتفاق هو الإجماع اللغوي.وهو أعم من الاصطلاحي. إذ لا يشترط في أهله أن يكونوا من أهل الاجتهاد. بخلاف الاصطلاحي.
أو يقال: بينهما عموم وخصوص من وجه، بمعنى: أنه يوجد الإجماع من دون اتفاق.كما إذا لم يكن في العصر من يُعتبر به في الإجماع إلا واحد فقط.ويوجد الاتفاق من دون إجماع. كما إذا أجمع من ليس بمجتهد. ويجتمعان: بأن يجمع المجتهدون. وهذا أولى من الأول. فتأمل! (( والمختار )) عند المحققين (( أنه لا يشترط في انعقاده )) أي: الإجماع (( انقراض )) أهل (( العصر )) المجمعين. ولا يعتبر ذلك، بل إذا اتفقوا ولو حينا لم يجز لهم ولا لغيرهم مخالفته.إذ لم يَعتبر الدليل على كونه حجة ذلك. لأنه عام يتناول ما انقرض عصره، وما لم ينقرض. كما نبينه إن شاء الله تعالى .
وقيل : بل يشترط. وهو باطل لما ذكرنا. ولأنه يلزم أن لا ينعقد إجماع أصلا. لتداخل القرون.
(( و )) المختار أيضا أنه لا يشترط في (( كونه )) دليلا أنه ((لم يسبقه خلاف )). بل إذا اختلف أهل العصر الأول على قولين مثلا، واتفق أهل العصر الثاني على أحدهما، بعد أن استقر خلافهم، فإن الإجماع يصير حجة قاطعة. كما لو لم يسبقه خلاف مستقر .
وقيل: لا يكون حجة حينئذ. إذ الخلاف الأول يتضمن الإجماع على أن كلا القولين حق. فلو أجمع على أحدهما صار إجماعا على أن ذلك الحق خطأ. وهذا لا يصح.
والمختار: هو الأول. لوقوعه، كإجماعهم على عدم جواز بيع أم الولد بعد الخلاف فيه، ونحوه.ولا نسلم أن الخلاف الأول يتضمن ما ذكروا. بل هو مسكت عنه .ومن سلم فهو مشروط بأن لا ينكشف نص قاطع أو إجماع، يقتضي أن أحدهما خطأ .فبطل ما قالوا والله أعلم.(1/46)


(( و )) المختار أيضا (( أنه )) لا يجوز لأهل الحَلِّ والعقد إذا أجمعوا على حكم أن يجمعوا جزافا من غير دليل ولا أمارة. بل (( لا بد له من مستند )) إما دلالة قاطعة، من نَص متواتر أو قياس قطعي، أو أمارة ظنية، كظاهر أي: ة أو نص قطعي، أو آحادا، أو نحوهما. (( وإن لم ينقل )) ذلك المستند (( إلينا )) إذ يجوز ترك نقل المستند استغناءً بالإجماع .فلا إجماع إلا عن مستند، وإلا استلزم الخطأ _ أعني _ كونه غير حجة. وأيضا يستحيل ذلك عادة.
ومنهم: من جَوَّز الإجماع جزافا من غير مستند .لأن العلماء مفوضون من جهته تعالى في الحكم، يحكمون بما شاءوا بعد بلوغ رتبة الاجتهاد.وأيضا لو افتقر إلى الدليل لم يكن للإجماع فائدة. بل الفائدة في الدليل !!
قلنا: لا نسلم التفويض. إذ لا دليل عليه. وفائدة الإجماع: سقوط البحث عن الدليل، وتحريم مخالفته . وأيضا يلزم من ذلك أن لا يكون شيء من الإجماع له دليل. لعدم الفائدة، ولا قائل به. فتأمل .
ومنهم: من منع الإجماع عن الأمارة الظنية. وقال: لا بد من صدوره عن دليل قاطع.
لنا: وقوعه. كإجماعهم على: أن حد الشارب ثمانون بعد أن كان أربعين، فتساهل النساك فلم يمتنعوا. فاستصلحوا زيادة أربعين، وأجمعوا على ذلك، وهو عن اجتهاد.
(( و )) اختار المصنف (( أنه لا يصح أن يكون مستنده قياسا )) وهو ما ثبت له أصل. (( أو اجتهادا )) وهو ما لا أصل له يقاس عليه، وظاهر كلامه أنه سواء كان الاجتهاد والقياس جليا أم خفيا، وعند الأكثر من الأصوليين، واختاره الإمام المهدي _ وهو الأولى _أنه يجوز أن يكونا مستنده إذ هما حجة كالخبر الذي يثمر الظن، وأيضا لم يفصل الدليل على كونه حجة بين المجتهد الواحد والأمة في صحة الاحتجاج به، فلا وجه لإنكار ذلك في الأمة، وأيضا قد وقع كإجماع الصحابة على الزيادة في حد الشارب كما قدمنا .
[ فائدة ](1/47)


إذا تواتر خبر وأُجمع على موجب قطعنا بأنه مستند الإجماع، إذا كان نصا صريحا فيما أجمعوا عليه، إذ لا يجوز أن يتواتر إليهم ولا يدعوهم إلى القول بما أجمعوا عليه، ولا يجوز أن يجمعوا لغيره مما لم يتواتر، وأما إذا لم يتواتر بل كان آحادا من أصله، وأُجمع على موجب فلا قطع بأنه مستند الإجماع، إذ يجوز أن يعتمدوا على غيره ولم ينقل استغناءً بالإجماع .
وقيل : بل يُقطع بأنه المستند إذا كان الإجماع على مقتضاه، ولم ينقل ردهم له ولا اعتمادهم على سواه. والله أعلم. (( و))المختار عند الأكثر من العلماء (( أنه لا يصح إجماع )) على حكم (( بعد الإجماع على )) حكم آخر (( خلافه )). وإلا لزم بطلان الإجماع الأول، أو تعارض الإجماعي. وكلاهما باطل .
وقيل: يجوز. ويكون الثاني كالناسخ للأول، وفيه ضعف. إذ الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به كما سيأتي.
(( و )) الصحيح المختار أيضا (( أنه لا ينعقد )) الإجماع (( بالشيخين )) أبى بكر، وعمر. إذ هما بعض الأمة، وليسا بمعصومَين. ولِما عُلم من مخالفة الصحابة لهما في كثير من المسائل.
(( ولا )) ينعقد أيضا (( بالأربعة الخلفاء )) الذين هم: علي عليه السلام، وأبو بكر، وعمر، وعثمان. لمثل ما قلنا في الشيخين. إلا أمير المؤمنين علي، كرم الله وجهه. فإن قوله حجة كالحديث النبوي الآحاد عند أهل البيت، وجمله الزبدية .لما ثبت من عصمته. مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( الحق مع علي وعلي مع الحق اللهم أدر الحق مع علي حيث دار ). وقوله عليه الصلاة والسلام: ( أنا مدينة العلم وعلي بابها ) ونحو ذلك كثير.فدلت هذه الأخبار مع العصمة على أن قوله حجة .
وأما ما روي من مخالفة الصحابة له في كثير من المسائل فجوابه أنا نقول: أن قوله كالخبر الآحاد، وقد تجوز مخالفته حيث يعارضه معارض، فكذلك هذا. فلا يكون ذلك ناقضا لما نقول فتأمل!(1/48)


(( ولا )) ينعقد أيضا (( بأهل المدينة )). أي: مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .(( وحدهم إذ هم بعض الأمة )). والأدلة إنما تناولت كل الأمة .
وروي عن مالك: أنه حجة.
فقيل: على جهة التعميم.
قيل: بل مراده أن روايتهم مقدمة على رواية غيرهم .
وقيل: بل مراده أن إجماعهم حجة في المنقولات المستمرة، كالأذان والإقامة .وهذه التأويلات من أصحاب مالك لما استضعفوا هذه المقالة.وفي كلها بعدٌ لا يخفى على المتأمل. والله أعلم.
احتج مالك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إن المدينة طيبة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد ) والباطل خبث فينتفي عنها. والجواب: أن هذا دليل على فضلها. لِما عُلم من وجود الباطل فيها كالفسق والمعاصي .ولا يدل ذلك على انتفاء الخطأ عما اتفق عليه أهلها بخصوص، فلا يدل على أن إجماع أهلها حجة.
ابن الحاجب: العادة تقضي بأن مثل هذا الجمع المختص من العلماء، لا يجمع إلا عن دليل راجح.
قلنا: يلزم مثله في غيرها من الأمصار، كمصر وبغداد. وأيضا أكابر الصحابة كانوا خارجين عنها، وذلك يستلزم أن لا يُعتد بخلافهم لأهل المدينة. كعلي عليه السلام، وابن مسعود، وغيرهما. وفي هذا من البعد مالا يخفى على أحد. والله أعلم.
(( قال الأكثر )) من الأمة أكثر المعتزلة، وبقية الفرق غير الزبدية، وروي عن القاسم عليه السلام (( ولا )) ينعقد الإجماع أيضا (( بأهل البيت عليهم السلام )). وهم: عثرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذين هم: علي، وفاطمة، والحسنان، عليهم السلام في عصرهم. ومن كان من أولاد الحسنين من قبيل الآباء من المؤمنين المجتهدين
(( وحدهم لذلك )).أي: لأنهم بعض الأمة .(1/49)


واعلم: أنه لا خلاف هنا في أن المقصود بأهل البيت عليهم من ذكرنا. فهم الذين وقع الخلاف في كون إجماعهم حجة دون غيرهم، وهم الذين يعبرون عنهم أيضا بالعثرة على الصحيح .لأن عثرة الرجل: أقاربه الأدنون. ذكره في الضياء.فلفظ القرابة يعم الأخوة والأولاد، وغيرهم كبني الأعمام. وبقوله: الأدنون. يخرج ما عدى الذرية، لأنهم أدنى الأقارب إليه. أي: أقربهم. وهو أيضا مشتق من: العتيرة. وهو: الكَرمة التي يخرج منها العنقود في العنب.فإذا كانت العتيرة متولدة من الشجرة لأنها زيادة تخرج في عرض الغصن، فيخرج العنقود من تلك الزيادة، علمنا أنهم إنما استعاروها لما يشبهه في ذلك وهي الذرية. إذ هي المشبهة فيه دون غيرها. فيكون الرجل كالشجرة، والذرية كالثمرة المتولدة من أصلها .فتبين بهذا أن العترة هم ذريته صلى الله عليه وآله وسلم. إذ لا يوجد وجه التشبيه إلا فيهم دون غيرهم من الأقارب .
قيل: وقد أجمع أهل اللغة على ذلك. فيكون إجماعهم حجة في هذا. والله أعلم.
(( وقال أصحابنا )) الذين هم الزيدية كآفة، والشيخان أبو علي، وأبو عبد الله البصري، وقاضي القضاة، وهو المختار عند أئمة أهل البيت عليهم السلام : بل هو حجة قطعية كإجماع الأمة. لما ثبت بالأدلة القطعية أن (( جماعتهم معصومة )). (( بدليل )) قوله تعالى: { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا }. وهم المقصودون بالآية. بدليل خبر الكساء. ووجه الإستدلال بالآية: أن الله تعالى أخبر بإرادة تطهيرهم من الرجس، وهي المعاصي. إذ الرجس يحتمل معنيين لا ثالث لهما:
أحدهما: ما يستخبث من النجاسات والأقذار .
والثاني: ما يستخبث من الأفعال القبيحة. أي: ما يستحق عليه الذم والعقاب .
ولا يُمكن حمله على الأول، لأنهم فيه وغيرهم على سواء، فينجس منهم ما ينجس من غيرهم .وجماعتهم وآحادهم في ذلك على سواء. فيتعين الثاني. وإرادة ذلك إنما هو بواسطة العصمة. إذ لو كان بغير واسطة:(1/50)

10 / 49
ع
En
A+
A-