عارض بها بسامة عبد المجيد بن عبدون الفهري المتوفى سنة (529هـ/1134م) المشهورة، والتي رثى بها ملك بني الأفطس، والتي مطلعها:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور
ولها ذيول كثيرة، ذكر زبارة طرفاً منها في (خلاصة المتون)، ولها شروح كثيرة، ونسخها متوفرة، ذكر الأستاذ الوجيه: أن لها عدة نسخ في الجامع الكبير بصنعاء، وفي كل من الأمبروزيانا، وبرلين، والفاتيكان، والمتحف البريطاني.
وله قصيدة في التزود من التعاليم الزيدية، وتخمسيها لأحمد بن سعد الدين المسوري (خطية) ذكرها بروكلمان في المتحف البريطاني.
ومن شعره ما ذكره مترجموه:
وما اشتملت مني عليه ضُلوعُ

وإني وحبي للنبي وآله

يكون لها بعد الأفول طلوع

وإن أفَلَت منهم شموس طَوَالِع

ألذ من الماء القراح بديع

كما قال قيس بن الذَّريح ونظمه

أبِتْ كَمِداً من قولهن صديع

إذا أمرتني العاذلات بهجرها

يؤرقني والعاذلات هُجُوع

وكيف أطيع العاذلات وهجرها

ومن لامني فيه فلست أطيع

أبى الله لي غير التَّشَيُّع مذهباً

ومذهبهم لي رَوْضة ورَبِيع

بني المصطفى لي أسرة وجَمَاعة

وإن حدثوني عنهم فَسَمِيع

أصَمٌّ إذا حُدِّثْتُ عن قول غيرهم

وإن كثرت منهم لدَيَّ جموع

وبالله إني في التَّشَيُّع واحد

قالوا: ومن أعذب ما جرى منه ما أجاب به الإمام الهادي عز الدين بن الحسن رحمه الله، وقد كتب الإمام إلى والده كتاباً فتولى الجواب عن والده، وكتبه والده بخطه وقال: وهذا الجواب للولد إبراهيم، مالي فيه إلا الرقم بالقلم، ومن يشابه أبَاهُ فما ظَلَم، فكان من الجواب هذان البيتان.
تخصك ما هبت صباً وجنوب

أعِزَّ الهدى منا عليك تحية

لَمَا بعدت منا ومنك قلوب

لئن بَعُدَتْ منا ومنك منازل

شيء من صفاته(1/31)


كان السيد صارم الدين على جانب عظيم من العبادة والزُّهد والصبر والخشية لله في السِّر والعَلَن، وكان شغوفاً بالقراءة، لا يفتر عن المطالعة، فقد كان مع كبر السن، وضعف البصر، لا يصبر عن المطالعة، فقد ذكر مترجموه أنه كان يؤتى بالسراج قبل وقت المغرب ليكمل مطالعته.
وذُكِر من عظيم ورعه أنه كان في منزله مكان يفد إليه الطلبة، وكان فيه بساطان من الصدقة، وكان يحتاج المرور فيه، فكان لا يأمن حتى يَطوي البساطين عن موضع مروره؛ لئلا يطأهما.
ومن صفاته الإنصاف عند الحوار، والاطلاع على ما عند مخالفيه، والنظر فيه بروية وتثبت.
وكان حليماً يحسن الظن بالناس، ويحمل مخالفيه على أحسن المحامل، ولا يكفر ولا يفسق بالإلزامات، كما نجد ذلك جلياً في كتبه وقصائده.
وكان الفضلاء في زمانه يعترفون بفضله، ويقرون بشَرَفِه ونبله، فكان القاضي العلامة محمد بن إبراهيم الظفاري يزوره في كل جمعة في غالب الأحوال، وكذلك الفقيه العالم الصالح علي بن يحيى العلفي كان يزوره في كل جمعة، وكان يجهش بالبكاء حال رؤيته.
شيء مما قيل عنه
لم يُخف كل من تحدث عن السيد صارم الدين إعجابه به، وتقديره لمقامه العلمي، مهما كان مذهبه وعصره وبلده، فلم أقف على ذكر عابر، أو ترجمة مقصودة للسيد صارم الدين، إلا وقد تضمنت ثناءً عليه، ومدحاً وتعظيماً له، وذلك يدل على جلالة قدره، وعلو منزلته، ولعل من سعادة المرء وتوفيقه كثرة ثناء الصالحين عليه، لذا رأيت أن أعرض للقارئ الكريم شيئاً مما قيل عنه:
* قال ولده السيد الهادي كما في (مطلع البدور): أربى على الأوائل بكثرة الإطلاع، وملازمة الدرس آناء الليل وأطراف النهار، وإمرار ذهنه على أكثر كتب المتقدمين والمتأخرين، وقلمه على جميع ما وجد من فائدة فيها، وكان ذلك بداعٍ لم يعارضه صارف ولا مانع، وإعراض عن جميع أشغال الدنيا وملاذها مع ما أمده الله لذلك من إعانته.(1/32)


وقال: كان له اطلاع كامل على أخبار المتقدمين والمتأخرين من أهل البيت وغيرهم، وفي علم رجال الحديث، والأنساب العامة والخاصة، وأحوال الناس وأيامهم، والمصنفين، وأسماء الكتب، وأخبار التواريخ، وله مشايخ وطرق في (علم الأسماء)، و(علم الصنعة)، وإجازات في ذلك، وفي سائر العلوم.
* وقال السيد الجليل أحمد بن عبد الله الوزير في (تاريخ بني الوزير) أنَّى للإنسان لِسَانٌ يفصح عن بعض فضائل هذا الإمام، أو قلم ينسخ غلالة أوصافه الحميدة، كلا.. إنها لَتَكِلُّ الألسنة والأقلام، أربى على نحارير علماء الأوائل، وحقق دقائق الفنون تحقيقاً يقال للمتطاول إليه أين الثريا من يد المتناول، وجمع أسباب المَحَامِد والفضائل جمعاً لا يدخل تحت رجاء الراجي، ولا أمل الآمل. إلى أن قال: عطية إلهية، ومنحة سماوية، وسعادة حقيقية، وخصائص مصطفويَّة، والله يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
* وقال العلامة صلاح بن أحمد المهدي في (الدراري المضيئة): الإمام الفهام، والنحرير القمقام عَلم الهدي، أحد مصابيح الدجى، معدلُ ميزان المعقول والمنقولُ، ومفصَّل غوامضُ الفروع والأصول، صدر الأفاضِل، وعمدةُ العلمَاء الأماثِل، صارم الملةِ والدين، العين النَّاظرة في العترة المطهرين، المعظم الممجد، إبراهيم بن محمد، رحمه الله رحمةً واسعة، وغفرَ له مغفرةً جامعة.
* وقال العلامة الجلال في (نظام الفصول): السيد العلامة خَاتَم خنصر العترة النبوية، وخَاتِم محققي طريقتهم السوية، بقية ينابيع العلم الغزير، صارم الدين إبراهيم بن محمد الوزير، رفع الله رتبته في الجنة، وجزاه أفضل ما جزى هادياً إلى سُنَّة.
*وقال ابن أبي الرجال في (مطلع البدور): الإمام الكبير، الحافظ الشهير، ترجم له الأعلام، كولده الهادي بن إبراهيم، والعلامة السيد أحمد بن عبد الله، وغيرهما.(1/33)


* وقال السيد صارم الدين إبراهيم بن القاسم في (طبقات الزيدية): كان السيِّد صارم الدين مبرزاً في علوم الاجتهاد جميعها، متألهاً مشتغلاً بخويصة نفسه، حافظاً للإسناد، وإماماً للزهاد والعباد، مستدركاً على الأوائل، جامعاً لأسباب الفضائل، مطلعاً على أخبار الأوائل والأواخر، مربياً على نحارير العلماء.
* وقال السخاوي في (البرق اللامع): كهل فاضل من أدباء صنعاء الموجودين بعد السبعين وثمانمائة.
* وقال الشوكاني في (البدر الطالع): العلامة الكبير، مصنف الهداية، والفصول اللؤلؤية، برع في جميع الفنون، وصار المرجع في عصره، والمشار إليه بالفضل.
* وقال العلامة أحمد بن محمد الشرفي في ( اللآلئ المضيئة): كان من عيون العترة عليهم السلام وأعلامهم وفضلائهم في أوانه.
* وقال العلامة عبد الله بن الإمام الهادي الحسن القاسمي في (الجواهر المضية): كان مبرزاً في العلوم جميعها، حافظاً للإسناد، وإماماً للزهاد، متطلعاً على أخبار الأوائل والأواخر، له المصنفات المفيدة.
* وقال الزركلي في (الأعلام): فاضل من مُجْتَهِدِي الزيدية في اليمن، كان له اشتغال بالتاريخ.
* وقال زبارة في (خلاصة المتون): هو إمام المعقول والمنقول، وصاحب التصانيف المفيدة .. له إطلاع كبير على أخبار الأولين والآخرين.
من المحن التي أصابت المؤلف في آخر عمره
يذكر في كتب السير والتاريخ أن السيد صارم الدين ابتلي في السنوات الأخيرة من عمره بمحن شتى، ومن ذلك أن السلطان عامر بن عبد الوهاب الطاهري استهدف بيته بالمنجنيق عند ما حاصر صنعاء سنة (910 هـ/1505م)، وبعد استيلائه عليها، أخذ ولديه الهادي وأحمد كرهائن مع الأمير أحمد بن الناصر، وأراد أن يلحقه بهم، فأقسم بالله أنه لن ينزل، فتركه السلطان، وبَرَّت قسمه بعد علم السلطان بما له من المنزلة الرفيعة، ثم أراد السلطان أن يتقرَّب إليه بمعونة فرفضها.(1/34)


فأما الهادي فأُخذ إلى "رداع" ثم نقل إلى تعز حيث توفي بها سنة (923 هـ/1517م).
وأما أحمد فأخذ إلى تعز، فأقام على التدريس بجامع تعز، وهنالك عاودته الأمراض، وكان والده يرق له كثيراً.. وكتب إلى والده:
من تعز زاد قلبي وصبا
وقضينا من هواها عجبا
فَرْخُ قمري تغنى طربا
أم تناسيتن ما قد ذهبا
باقتران مثلما أيدي سبا

كلما هبت جنوب وصبا
ياليالينا التي قد سبقت
يا رعاكن إلهي كلما
هل أراكن بعهدي حُفَّظا
ثم حال الحول منا بعدها
ومن جوابات والده عليه قصيدة منها:
سلام خليل غاب عنه خليله
تضمن ما يشفي القلوب فصوله
وشق به أمر البعاد وهوله

على أحمد منا سلام مضاعف
وقفنا على نظم أتى منه رائق
وبالغ في شكوى تفرق شملنا

وفاة المؤلف وشيء من مراثيه
توفي رحمه الله قبل العشاء الآخرة من ليلة الأحد ثاني عشر شهر جمادى الآخرة سنة (914هـ/ 8 أكتوبر 1508م) بصنعاء، وقبره رحمه الله في جربة الروضة في صنعاء عند قبور أهله رضي الله عنهم، وهو مشهور مزور، وفجع الناس بموته، واهتزت له البلاد اليمنية طولاً وعرضاً، واجتمع أناس بالجوامع للقراءة عليه ثلاثة أيام. وفيه من يقول شعراً في مبلغ عمره:
قد كاد يبلغها تماماً أوقد
أو كاتباً أو ساجداً في المسجد

إلى الثمانين انتهى سنينه
لم يُلق إلا قارياً أو مُقْرِياً

ورثاه السيد البليغ المفوه عز الدين محمد بن المرتضى بن محمد بن علي بن أبي الفضائل فقال:
ووقع الخطوب المعضلات العظائم

نعم هكذا موت العلى والمكارم

حكى المصطفى مستغرباً في العوالم

وغربة هذا الدين حتى غدا كما

ومذهب يحيى بن الحسين بن قاسم

نعزِّي بإبراهيم دين محمد

وتحقيق أخبار وضبط تراجم

وتصنيف كتب في العلوم مفيدة

صحيح رواه محكماً كل عالم

وكل حديث ثابت الأصل مسند

وتصريف ألفاظ وخط رواقم

ونحوٌ حكاه سيبويه وشيخه

وعلم المعاني بعده أي هايم

ونبكي أعاريض الخليل بن أحمد(1/35)

7 / 66
ع
En
A+
A-