الأول: ما كان في العقل دليل عليه، وتوقف العلم بصحة الشرع على العلم به(1)، كمعرفة الله تعالى وبعض صفاته، نحو كونه قادراً عالماً غنياً عدلاً حكيماً.
والثاني: ما دل عليه الشرع دون العقل، كوجوب الصلاة ونحوها من أعيان المصالح الشرعية، وكتحريم شرب دون المسكر ونحوه من أعيان المفاسد /314/؛ إذ لا يهتدي العقل إلى معرفتهما.
والثالث: كل ما كان في العقل دليل عليه، ولا يتوقف العلم بصحة الشرع على العلم به.
واختلف في مسائل(2): (المنصور، والقاضي، وأبو الحسين): لا يصح الاستدلال بالشرع على مسألة: (موجود)، و: (نفي التشبيه)، ومسألة: (حي). (أبو رشيد، وأحد قولي الشيخ): بل يصح. (أحد قولي الشيخ): يصح في الأولين دون الثالثة. (الحفيد): يمتنع في (موجود) و: (حي)، ويصح في: (نفي التشبيه)، نظراً لا إلزاماً(3). (بعض المتأخرين): يصح على: (نفي التشبيه) مطلقاً، وأما: (موجود) و: (حي) فإن جعلا وصفاً زائداً على الذات كما يقوله (بعض أئمتنا، والبهاشمة)، جاز، وإن جعلا نفس الذات؛ كما يقوله (أكثر أئمتنا، والملاحمية) لم يجز، وأما: (نفي الرؤية والثاني) فيجوز، خلافاً لبعضهم.
وصحة الاستدلال على الجميع بالعقل ظاهرة.
التعادل والترجيح
[16] باب التعادل والترجيح
(295) فصل الظَّنِّيان المتعارضان؛ إن لم يكن لأحدهما مَزِيَّة على الآخر؛ فهو: (التَّعادل).
واختلف فيه، فمنعه: (الإمام، وأحمد، والكرخي، وأبو الحسين، والحفيد)(4) /315/، وجوزه: (الجمهور).
(أبو طالب، والمنصور، والشيخ، وأكثر الفقهاء): وَيطَّرحان، ويوخذ في الحادثة بغيرهما إن وُجِدَ، وإلا رُجِعَ إلى قضية العقل. (الشافعي، والشيخان(5)، والقاضي، والعنبري، والباقلاني): بل يُخَيَّر بين حكمهما.
__________
(1) أي: بحيث لا تثبت صحة الشرع إلا بعد ثبوته.
(2) هل يصح الاستدلال عليها بالشرع؟
(3) أي: مجرد إلزام للخصم فلا.
(4) لبعد استواء الدليلين من كل وجه.
(5) سقط من (ب): الشيخان.(1/316)
ومنشأ الخلاف(1): هل يجوز خلو واقعة عن حكم شرعي أولا؟ فَمَنْ منعه منع التعادل، ومن جَوَّزَهُ جوز التعادل. (الرازي): ويختلف حال المجتهد على القول بالتخيير، فإن كان اجتهاده لنفسه؛ فله أن يفعل ثانياً غير ما فعله أولاً؛ إذ لا تهمة تطرق إليه في حق نفسه، وإن كان حاكماً فليس له ذلك؛ لما يَعْرِض من التهمة، وإن كان مفتياً خَيَّر المستفتي في العمل بأيهما شاء.
وإن كان لأحد المتعارضين مزية على الآخر؛ فهو: (الترجيح).
وحده: تقوية أحد المتعارضين الظنيين على الآخر.
وفائدته: العمل على أرجحهما.
وهو جائز /316/ واقع إجماعاً، ورواية منعه عن (أبي عبد الله) باطلة(2).
وإنما يصار إليه عند تعذر الجمع بوجه ما، من نسخ، أو تخصيص، أو غيرهما. ويمتنعان(3) في القطعيين عقليين أو شرعيين، فالتعادل؛ لاستحالته بين القواطع، والترجيح؛ لأنه فرع التعارض. وفي القطعي والظني؛ لانتفاء الظن معه(4). ووجوه الترجيح ليست بقاطعة، بل هي محل اجتهاد تختلف بحسب اختلاف المجتهدين.
ويكون الترجيح بين منقولين، كنصين، أو معقولين كقياسين، أو معقول ومنقول كنص وقياس، ثم المنقول إن أوصل إلى تعريف أمر مفرد كماهية الصلاة ونحوها، فهو الحد الشرعي، وإن أوصل إلى تعريف أمر مركب فهو الدليل الشرعي، وتَقَدُّم الأول على الثاني طبعاً(5)، يقتضي تقديمه عليه وضعاً، لكن لما كان معظم الترجيح في الثاني قُدِّم.
[أقسام المرجحات]
__________
(1) في تجويز التعادل وعدمه.
(2) إذ لم يروه عنه أحد من المعتزلة، وهم أعرف بمذهبه، وذكر الجويني أنه بحث عنها في مصنفاته فلم يجدها. انظر (الدراري).
(3) أي: التعادل والترجيح.
(4) أي: مع وجود قاطع فلا حكم للظن.
(5) لأن الأول يوصل إلى التصور، والثاني يوصل إلى التصديق، والتصور مقدم على التصديق بالطبع؛ إذ التصديق مركب، والمركب لا يكون إلاَّ من أفراد وهي التصورات.(1/317)
(296) فصل فالمنقولان يكون الترجيح بينهما في: السند، والمتن، والحكم، وفي أمر خارج.
فالسند: بكثرة الرواة؛ لقوة الظن، خلافاً (للكرخي)، بخلاف الشهادة. وبقلة /317/ الوسائط. وبزيادة الفطنة، أو الثقة، أو الورع، كأهل البيت سيما الأربعة المعصومين(1). والفقيه، على غير الفقيه، وإن لم تكن الرواية بالمعنى(2). والأفقه، على الفقيه. والعالم بالعربية على غير العالم بها. والأعلم بها، على العالم بها. وأئمة الأثر، على غيرهم. وصاحب القصة والمباشر والأقرب عند السماع، على غيرهم. ومن ظهرت عدالته بالتزكية، على المستور ـ عند قابليه ـ . ومعروف العدالة بالإختبار، على معروفها بالتزكية. ومعروفها بتزكية من هو أكثر بحثاً أو ورعاً، على معروفها بتزكيه من ليس كذلك. ومعروفها بتزكية العدل مع ذكر سبب العدالة، على المزكى من غير ذكر سببها. والمزكِّى بالتصريح بعدالته، على المزكى بالحكم بشهادته. والمزكى بالحكم بشهادته، على المزكى بالعمل بروايته. ومن عمل بخبره هو أو مزكية، على من ليس كذلك. ومن ليس بمبتدع، على المبتدع. والوعيدي على المرجئي. والأكثر ضبطاً الأقل نسياناً، على من ليس كذلك. والجازم، على الظان /318/. ومن لم يختلط، على من اختلط(3). ولم يعلم هل الرواية عنه في حال سلامته أو اختلاطه. وذو الحفظ، على ذي الكتابة. والمعتمد على الخط مع الذكر، على المعتمد على الخط وحده. والكبير، على الصغير. ومتأخر الإسلام، على متقدمه، وقيل: عكسه. والأكثر ملازمة، على غير الأكثر. والذَّكر، على الأنثى.
__________
(1) وهم: علي وفاطمة والحسن والحسين.
(2) خلافاً لمن زعم أنه لا يرجح إلا في خبرين مرويين بالمعنى، وذلك لأن الفقيه يفهم الرواية وملابساتها أكثر من غير الفقيه حتى وإن كانت الرواية بلفظها.
(3) المختلط، هو: الذي يصيبه شيء من الخرف والذهول المفرط.(1/318)
وقيل: وأهل المدينة، على غيرهم. وأهل مكة على غير أهل المدينة. والحجازي، على العراقي والشامي. والْحُرّ، على العبد. والمختار: أنهم سواء.
ورواية القول، على الفعل. والرواية باللفظ، على المعنى. وما ذكر سببه، على مالم يذكر. والْمُتَّفَق على رفعه، على المختلف في رفعه ووقفه. ومالم ينكره الأصل، على ما أنكره. وسكوته مع الحضور، على سكوته مع الغيبة. والمسند، على المرسل عند الأكثر، وعكَّس (ابن أبان)، وقال (الشيخ، وغيره): سواء. (الحفيد): المسند أرجح إن ادعى الْمُسْنِد عدالة راويه. ومُرْسَل من لا يرسل إلا عن عدل، على مُرسَل من ليس كذلك. ومرسل التابعي، على غيره/319/. ومتواتر المتن ظني الدلالة على ظنيهما. ومالا تعم به البلوى على ما تعم به ـ في الآحاد ـ ومالم يلتبس اسم راويه بضعيف، على الملتبس.(1/319)
(297) فصل والمتن، كالنهي، على الأمر. والأمر، على الإباحة في الأصح. والنهي، على الإباحة. والأقل احتمالاً، على الأكثر. والحقيقة ـ شرعية أو عرفية أو لغويّة ـ، على المجاز. والشرعية، على العرفية واللغوية، والعرفية على اللغوية. والمجاز على المجاز(1)، لقرب جهته، أو رجحان دليله، أو شهرة استعماله، أو مصححه. والمجاز، على المشترك في الأصح كما تقدم. ومُؤَكَّد الدلالة، على ما ليس كذلك. والدَّال بمنطوقه، على الدال بمفهومه. ومفهوم الموافقة، على مفهوم المخالفة، على الأصح. وتخصيص العام المتأخر، على نسخ الخاص المتقدم. والعام الذي لم يخصص، على ما خص. والمقيد، على المطلق. والإجماع، على النص ـ الظنيين ـ. والإجماع المتقدم، على الإجماع الظني المتأخر. ويرجح في /320/ دلالة الإقتضاء بضرورة الصدق، على ضرورة الوقوع شرعاً. وفي الإيماء بانتفاء البعث على غيره. ودلالة الاقتضاء، على الإشارة. ويرجح العام الشرطي، على النكرة المنفية ـ غالباً ـ وغيرها من صيغ العُمُومِ والْجُمُوعِ. و(من) و(ما)، على الجنس باللام.
__________
(1) أي: ويرجح المجاز على المجاز بأحد الأشياء المذكورة.(1/320)