واختلف /306/ في التخريج من مفهوماته، وعلى قياس(1) قوله، فعند بعضهم: لا يضاف إليه. (بعض أئمتنا، والفقهاء): بل يضاف إليه وهو المختار، لكن مع التقييد بأنه تخريج؛ لئلا يوهم الكذب، وليتميز عن نصوصه، ولذلك فرعوا الفروع، ويعبر عنها بالتخاريج والوجوه، وجواز التقليد فيها وعدمه يبني على ذلك(2).
فأما نصه في حادثة على حكم مع نصه في مثلها على نقيضه؛ فلا ينقل حكم أحدهما إلى الأخرى؛ خلافاً (لبعض الشافعيَّة). وكذا قوله بعد النص على حكمها ـ : ولو قال قائل: كذا وكذا؛ لكان مذهباً ـ لا يضاف إليه، خلافاً لهم. وكذا حيث ينص على حكم دون علته، ثم يستنبطها الْمَخَرِّج فيجدها في محل آخر، خلافاً (لبعض علمائنا).
(289) فصل ولا يلزم المقلد بعد وجود نصه وعمومه طلب الناسخ والمخصص، ولو جُوزا، بخلاف المجتهد، فإذا صح له خلاف نصه اتبع الظن الأقوى، وطَلَبَ الرّجْحَانَ عند التعادل. ويعمل بآخر القولين، وأقوى الاحتمالين، فإن التبس؛ فالمختار: رفضهما والرجوع /307/ إلى غيره، كما لو لم يجد له نصاً ولا احتمالاً ظاهراً.
(290) فصل ولا يقبل التخريج إلا من عارف بأدلة الخطاب، والساقط منها والمعمول به، ومذهب المخرَّج له فيها، ولو غير مجتهد(3) في الأصح، وكيفية رد الفرع إلى الأصل عند قياس مسألة على أخرى، وطرق العلة، وكيفيَّة العمل عند تعارضها، ووجوه ترجيحها، لا شروطها وخواصها، ولا كون المخرَّج له ممن يرى تخصيصها أو يمنعه على الخلاف المتقدم.
__________
(1) أي: وفي التخريج على مقتضى قوله نصاً أو أصلاً عاماً.
(2) أي: على أنها قول له أم لا.
(3) أي: لو كان المخرج غير مجتهد.(1/311)
ولا يستقيم لمجتهد قولان متناقضان في وقت واحد، فإن عرف ترتيبهما(1)، فالثاني رجوع عن الأول، وعلى ذلك يحمل ما ينسب إلى (بعض أئمتنا، وغيرهم) من القولين أو الأقوال، وكذا المسألتان المتناظرتان ولم يظهر فرق. وإن جهل(2) حُكيا عنه، ولم يحكم عليه بالرجوع إلى أحدهما بعينه.
وقول (الشافعي) ـ في سبع عشرة مسألة ـ: فيها قولان، أراد: لي فيها قولان، بناء على التخيير عند التعادل، أو: تقدم لي فيها قولان في وقتين، أو: فيها للعلماء قولان /308/، أو: كل مسالة منها عليها أمارتان مختلفتان، يصح أن يتمسك بكل منهما مجتهد.
الحظر والإباحة
[15] باب الحظر والإباحة
ويوصف بهما ما يقع من المكلف المختار غالباً(3)، وهو قسمان: مالا صفة له زائدة على حدوثه، وهو: ما ليس بحسن ولا قبيح، كالفعل اليسير.
وماله صفة زائدة، وهو: قسمان:
ما يذم فاعله، وهو: القبيح المحظور، ويكون ضرورياً، كقبح الظلم والكذب الضار، واستدلالياً كقبح الكذب النافع.
ومالا يذم فاعله، وهو: الحسن، ويكون كذلك(4). ثم هو أربعة أقسام:
واجب، وهو: ما يستحق المدح على فعله، والذم على تركه، كقضاء الدين، وشكر المنعم، ورد الوديعة.
ومندوب، وهو: ما يستحق المدح على فعله، ولا يستحق الذم على تركه، كالإحسان، ومكارم الأخلاق.
ومكروه، وهو: ما يستحق المدح على تركه، كسوء الأخلاق، وقيل: لا يثبت عقلاً، وهو من الحسن على الأصح، وتسميته مكروهاً مجاز.
ومباح، وهو: ما لا يُستحق عليه واحد منهما، كالتمشي في البراري، والتظلل تحت الأشجار /309/، والشرب من الأنهار، وتناول ما ينتفع به الحي ولا مضرة فيه على أحد، كالنابت في غير ملك.
__________
(1) أي: المتقدم والمتأخر.
(2) أي: ترتيبهما.
(3) احترازاَ مما تقدم فيمن توسط أرضاً مغصوبة ثم تاب وأراد الخروج، فهل يوصف خروجه بالتحريم أو الإباحة.
(4) أي: ضرورياً واستدلالياً، ويشمل ما عدا القبح المحظور.(1/312)
واختلف فيه، فعند (أئمتنا، والجمهور) أنه مباح عقلاً، كما ذكر، حتى يرد حظر شرعي. بعض (الإمامية، والبغدادية، والفقهاء): بل محظور عقلاً، حتى ترد إباحة شرعية، وتوقَّف (الأشعري، وبعض الشافعية)، بمعنى: لا يُدرى هل هناك حكم أو لا.؟ ثم إن كان هناك حكم فلا يُدرى: هل هو حظر أو إباحة.؟
[التحسين والتقبيح العقليان]
(291) فصل واتفقوا على ثبوت حسن الشيء وقبحه عقلاً باعتبارين:
الأول: بمعنى ملائمته للطبع كالملاذّ، ومنافرته له كالآلام.
والثاني: بمعنى كونه صفة كمال كالعلم، وصفة نقص كالجهل.
واختلف في حسن الشيء وقبحه باعتبار ثالث، وهو كونه متعلقاً للمدح عاجلاً والثواب آجلاً، والذم عاجلاً والعقاب آجلاً. فعند (أئمتنا، والمعتزلة، وغيرهم): أنهما عقليان بذلك أيضاً(1)؛ إذ لا وجه /310/ لحسن الشيء وقبحه إلا وقوعه على وجه، في الأصح.
وقد يستقل العقل بإدراكه، إمَّا بالضرورة كحسن شكر المنعم، وقبح الظلم، أو بالاستدلال كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع، وقد لا يستقل بإدراكه كالمحسنات والمقبحات الشرعية، كحسن الصلاة ونحوها وقبح الربا ونحوه.
(جمهور الأشعرية): بل شرعيان بذلك(2) قالوا: ولو سلم على التنزل أنهما عقليَّان لم يسلم في مسألتين:
الأولى: وجوب شكر المنعم. وهو جحد للضرورة(3).
والثانية: مسألة حكم الأشياء قبل ورود الشرع، فلا يُدْرِك العقل فيها بخصوصها جهة حسن أو قبح، وإنما حكمها الوقف كما تقدم.
__________
(1) باعتبار أنهما متعلقان للمدح عاجلاً والثواب آجلاً، والذم عاجلاً والعقاب آجلاً.
(2) أي: بالاعتبار الثالث.
(3) تقدم للمصنف آنفاً أن الضروري هو: حسن شكر المنعم، لا وجوبه، فتأمل.(1/313)
وفصَّل (بعض الأشعرية، والحنفيَّة، والحنابلة)، فقالوا: أما حسن الشيء بمعنى كونه متعلقاً للمدح عاجلاً، وقبحه بمعنى كونه متعلقاً للذم عاجلاً فعقليان. وأمَّا حسنه بمعنى كونه متعلقاً للثواب آجلاً، وقبحه بمعنى كونه متعلقاً للعقاب آجلاً فشرعيَّان.
(292) فصل (أئمتنا، والجمهور): ويجب الدليل /311/ على النافي لحكم عقلي أو شرعي غير ضروري(1). (بعض الأصوليين): لا يجب فيهما، وقيل: يجب على نافي العقلي دون الشرعي. وإنما يستدل عليه باستصحاب الحال مع انتفاء الأدلة الشرعيَّة المغيرة للنفي الأصلي(2)، أو بقياس الدلالة، واختلف في الإستدلال عليه بقياس العلة، فجوزه (ابن الحاجب وغيره)، ومنعه (الإمام، وغيره).
باب استصحاب الحال
وهو: دوام التمسك بدليل عقلي أو شرعي حتى يَرِدَ ما يغيره.
(أئمتنا والجمهور): وهو دليل مستقل بنفسه، وقيل: ليس بمستقل، ولكنه مرجح لا غير، وقال (كثير من الحنفيَّة، والمتكلمين): ليس بدليل(3).
__________
(1) كما يجب على المثبت سواء؛ لأن النفي والإثبات في غير ضروري الثبوت أو العدم ممكنان، فيفتقران إلى الدليل، وقولهم: الأصل العدم، إن أرادوا العدم المطلق فمسلم، وإن أرادوا عدم محل النزاع فغير مسلم؛ إذ هو مصادرة على المطلوب.
(2) أي: يستدل على النفي باستصحاب الأصل، وهو النفي، لكن مع انتفاء الأدلة الشرعية، أي ظن عدمها.
(3) هذا ما يوحي به تعريف المصنف المتقدم؛ لأن مجرد البقاء على الدليل ليس دليلاً، وإنما يكون دليلاً على تعريف من عرف الاستصحاب بأنه النفي الأصلي، ولكن عند عدم الدليل الشرعي.(1/314)
وينقسم إلى: (معمول به)، وهو: استصحاب حكم العقل والشرع الثابت في الحالة الأولى في الحالة الثانية،الموافقة، حتى يرد ناقل عن ذلك، فحكم العقل: كاستصحاب البراءة الأصلية حتى يرد مغير، ولذلك حكمنا بانتفاء صلاة سادسة، وصوم غير رمضان /312/. وحكم الشرع: كاستصحاب الملك والنكاح والطلاق، حتى يرد ما يغير حكمها كالبيع والطلاق والاسترجاع. ومنه استصحاب النص والعموم، فيمسك بهما المجتهد إن كان ناظراً(1) حتى يرد ناسخ أو مخصص، وعليه البحث عنهما، وكذا إن كان مناظراً(2)، لكن على خصمه طلبهما، فإن بينهما قُبِل منه وإلا انقطع.
(وغير معمول به) على المختار، وهو: استصحاب حكم الحالة الأولى في الحالة الثانية المخالفة؛ لأجل ثبوته قبلها فقط، كاستصحاب المتيمم لحال الإجماع إذا دخل في صلاته، ثم رأى الماء؛ فيمضي فيه عند (بعض الشافعية) للإجماع على صحتها قبل ذلك، وكاستصحاب النص بعد نسخه، نحو الوصية للأقارب.
فإن تعارض أمران أحدهما يقتضي بقاء الحالة الأولى، والآخر يقتضي خلافه، رجع إلى الأصل(3) إلا أن يترجح معارضه، فإن التبس بقاؤه أو تغيره فالأصل بقاؤه حتى يعلم مغيره إن كان علمياً، أو يظن /313/ إن كان ظنياً.
[حجية الشرائع السابقة]
(293) فصل واختلف في شرع من قبلنا: فعند (المتكلمين، وبعض أئمتنا، والفقهاء): ليس بحجة، وعن (الشافعي): يحتج به، وعنه لا يحتج به، وعنه بشرع إبراهيم عليه السلام دون غيره.
والمختار: أن ما حكاه الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من غير إنكار ولا نسخ ولا خصوص فهو حجة. (الأمير الحسين، والحفيد): يحتج بما عُلِمَ منه.
وعلى القول بأنه حجة إذا اختلف اعتبر حكم الأقرب منه إلى الإسلام، وهو النصرانية.
(294) فصل فيما لا يعلم إلا بالعقل، وما لا يعلم إلا بالشرع، وما يعلم بهما.
__________
(1) أي: يريد النظر للعمل.
(2) أي: يريد النظر للجدل.
(3) وهو الحالة الأولى لا الطارئة.(1/315)