(276) فصل والفتيا فرض كفاية، وأداؤها كالقضاء، وتتعين على من لم يوجد غيره، ويكره المسارعة إليها، سيما في الخلافيات التي وقع فيها التعارض المستوي أو المتقارب، ولم يتضح فيها الأمر.
وإنما يُسْتَفتى: مجتهد عدل تصريحاً وتأويلاً(1)، ويكفى المغرب(2) انتصابه لها من غير قدح ممن يُعْتَدَّ به(3). (المهدي): في بلد شوكته لإمام حق، لا يرى جواز استفتاء المتأول. (الشيرازي): أو خبر عدل(4). (الحاكم): لا بد مع انتصابه من خبر عدلين فصاعداً. وتردد (الباقلاني) في الاكتفاء بهما. (الجويني): يجب أن يعلم كونه مجتهداً. (ابن أبي الخير(5)): يجب العلم بكونه من أهل العلم جملة، ويكفى الظن بكونه مجتهداً.
ويحرم استفتاء من ليس كذلك، وكذا مجهول الحال في الأصح(6).
واختلف في فتوى الفاسق المتأول، فعند (الشيخين): لا تقبل فتواه ولا خَبَره /296/. (المؤيد، والإمام، والكعبي(7)، وجمهور الأشعرية): تقبلان. والمختار - وفاقاً (للقاضي) -: قبول خبره لا فتواه، ويلزمه أن يعمل لنفسه باجتهاده.
والخلاف في قبول فتوى الكافر المتأول وخبره كذلك.
__________
(1) أي سالم عن أسباب الكفر والفسق تصريحاً وتأويلاً.
(2) وهو الذي لم تعرف عدالته واجتهاده.
(3) ينبغي أن يقيد بألاّ يحمله على القدح حامل، من: عداوة، أو قرينة، أو اختلاف مذهب، أو نحو ذلك.
(4) عطف على انتصابه.
(5) في (ب): ابن الحاجب.
(6) أي الذي لم تعرف عدالته ولا ضدها.
(7) الكعبي، هو: أبو القاسم عبدالله بن أحمد بن محمود البلخي، من كبار مشائخ المعتزلة وأذكيائها، له كتب كثيرة، قال ابن النديم توفي في أول شعبان سنة تسع وثلاثمائة، وقيل: سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.(1/301)


(277) فصل ولا يفتي المجتهد إلا باجتهاده دون اجتهاد غيره؛ من حي أو ميت(1)، إلا أن يُسأل الحكاية عنه، وإذا لم يتقدم له الاجتهاد في الحادثة وجب عليه الاجتهاد فيها قبل الفتيا اتفاقاً، وإن تقدم ولم يذكره فكذلك، وإن ذكره لم يجب عليه تجديده، خلافاً (للشهرستاني)، إلا أن يتجدد ما يقتضي الرجوع.
وإذا تكررت للمستفتي لم يلزمه سؤال المفتي ثانياً(2)، ولو استندت إلى قياس على الأصح. ولا يفتي فيما يَحْكُم فيه(3). ولا يلزمه تعريف مستند الفتيا عند (أئمتنا، والجمهور)، خلافاً (للجعفرين). وقيل: إن كان خفياً(4)لم يجب، وللمستفتى سؤاله عنه استرشاداً. وإذا /297/ أفتاه بمجمع عليه لم يخيره ـ في القبول إتفاقاً، ولا يخيره في المختلف فيه ـ بين قوله وبين قول غيره، خلافاً (لأبي الحسين)، فأما إخباره(5) بأن هذا مختلف فيه فجائز اتفاقاً.
وعلى المستفتي في الأصح سؤال غير المفتي؛ إذا لم تسكن نفسه بفتواه.
(278) فصل ويحرم على غير المجتهد أن يفتي باجتهاد غيره إن كان(6) عامياً لا رَشَدَ له، وإن كان له رشد؛ فعند (المؤيد، وبعض الأصوليين): يجوز مطلقاً. وعند (القاضي، والحفيد): لا يجوز مطلقاً، وقيل: يجوز إذا عدم المجتهد، وقيل: يجوز إن كان مطلعاً على المآخذ، واختاره (ابن الحاجب). فأما الحكاية فتجوز إجماعاً(7).
__________
(1) وقيل: يفتى بمذاهب أهل جهته، ولا يخفى أن هذه الأحكام للمفتي تعني الذي يفتي باجتهاده، ونظره أما الذي يفتي برأي غيره فهو الحاكي وليس بمجتهد.
(2) لجواز أن يكون قد تغير اجتهاده بل تكفيه فتواه الأولى.
(3) لأنه يورث التهمة.
(4) أي: مستند الإجماع، وسقط من (ب): وقيل.
(5) أي: المستفتي وخصوصاً إذا كان من ذوي الرَّشد.
(6) أي: المفتي غير المجتهد.
(7) والفرق بين المفتي غير المجتهد والحاكي أن الحاكي يذكر الخلاف أو يسأل عن مذهب معين والمفتي غير المجتهد بخلافه، ولذلك حرمت عليه الفتوى؛ لأنه ليس بأهل ولا هو حاك.(1/302)


(279) فصل والمستفتي إما أن يجد مفتياً في بلده أولا؛ إن لم يجد وجب عليه الخروج في طلبه حتى يجده، وإن وجد فإما أن يجد واحداً أو أكثر، إن وجد واحداً تعين عليه العمل بقوله وسقط عنه الخروج عند (المؤيد بالله، والحاكم، /298/ والجويني)، والأظهر من كلام غيرهم رجوعه إلى الأكمل حيث كان.
وإن وجد أكثر، فإما أن يتفقوا في الفتيا أو يختلفوا، إن اتفقوا وجب اتباعهم. (أئمتنا، والجمهور): وإن اختلفوا، فإما أن يتفاوتوا عنده في الفضل وهو زيادة العلم والورع، أو يستووا، إن تفاوتوا وكان التفاوت في مجموعهما اتبع الأعلم الأورع، وإن كان في الورع مع التساوي في العلم اتبع الأورع، وإن كان في العلم مع التساوي في الورع اتبع الأعلم، وإن كان بعضهم أعلم وبعضهم أورع اتبع الأعلم. (المؤيد): بل الأورع. (أبو طالب، والبلخي، وأبو الحسين، والقاضي، والباقلاني، وبعض المتأخرين): لا تعتبر الأفضيلة، فالجميع سواء. وينصر القول الأول النظر، والثاني: الأثر(1)، وإن استووا - على بُعْدِ ذلك لامتناعه في الأصح - فالمختار - وفاقاً (للجمهور) -: أنه مخير، وقيل: بالأول، وقيل: بالأخف، وقيل: بالأثقل، وقيل: بالأخف في حقوق الله تعالى، وبالأثقل في /299/ حق العباد، وقيل: مخير في حقوق الله تعالى، ويرجع في حقوق العباد إلى الحاكم.
__________
(1) المقصود بالأول: الأعلم والثاني الأورع، والنظر هو: أن الفتيا بحاجة إلى فضل علم لا إلى فضل ورع، والأثر هو: أن الأخبار في الورع كثيرة وأن المعلوم من حال المستفتين في زمن الصحابة أن كل واحد منهم رجع إلى من شاء.(1/303)


(280) فصل والأحوط الأخذ بما أُجْمِع عليه، ويحرم الأخذ بالأخف اتباعاً للهوى إجماعاً. (أئمتنا، والجمهور): وكذا للمفتين، فيحرم تتبع الرخص، خلافاً (للمروزي، وابن عبد السلام(1)، ونصره القاسم المحلي)(2). وقال (الإمام محمد بن المطهر)(3): يجوز تتبع رخص العترة عليهم السلام فقط، لغير المقلد.
ومرجع الفرق ـ بين تتبع الرخص للهوى، أو لاتباع المفتين ـ إلى القصد، وهو خفي، وفاعل ذلك مخطئ لا فاسق في الأصح، وقول (المنصور): تتبع الرخص زندقة. متأول.
(281) فصل (أئمتنا، والجمهور والمعتزلة، والحنابلة): ولا يجوز خلو الزمان عن مجتهد. (الإمام، والأشعرية، وأكثر الفقهاء): يجوز. (ابن دقيق العيد)(4): لا يجوز مالم يتداعى الزمان بتزلزل القواعد.
[التقليد أقسامه وأحكامه]
__________
(1) لعل المراد به العز بن بن عبد السلام، وهو: العلامة الفقيه الشافعي الشهير: عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم الدمشقي، الملقب بسلطان العلماء، توفي سنة ستين وستمائة. معجم الأعلام 419.
(2) القاسم المحلي، هو: القاسم بن أحمد بن حميد بن أحمد بن محمد المحلي الصنعاني الهمداني، من كبار علماء الزيدية في القرن الثامن، قال ابن أبي الرجال: وسماه بعض العلماء (رازي الزيدية) لتبحره في العلوم، كانت وفاته بصنعاء، لم أقف له على تاريخ وفاة.
(3) محمد بن المطهر، هو: الإمام المهدي لدين اللّه محمد بن الإمام المطهَّر بن يحيى، أحد أئمَّة الزيدية باليمن، له مؤلفات وأخبار كثيرة، توفي بحصن ذمرمر سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
(4) ابن دقيق العيد، هو: العلامة محمد بن علي بن وهب بن مطيع تقي الدين ابن دقيق العيد المصري، من كبار علماء الشافعية، توفي في صفر سنة اثنتين وسبعمائة ودفن بالقرافة الصغرى، ودقيق العيد لقب لجده وهب. طبقات الشافعية 2/229.(1/304)


(282) فصل والتقليد: قبول قول الغير بلا مطالبة بحجة /300/، فإن كان في كل مسائله فهو الالتزام، وإلا فلا، فكل ملتزم مقلد ولا عكس(1).
وأصله القبح عقلاً وشرعاً، إلا فيما خصه الدليل(2).
والاستفتاء: السؤال عن حكم الحادثة، فكل مقلد مستفت ولا عكس.
والتنقل: الرجوع إلى قول مجتهد بعد تقليد غيره، وفيه خلاف يأتي.
واختلف فيما يجوز فيه التقليد، فعند (المؤيّد، وابن عياش، والحشوية، وبعض الفقهاء، والتعليمية)(3): يجوز مطلقاً. (البغدادية): لا يجوز مطلقاً. (القاسم): مقلد المحق ناج. (أبو علي، والشيرازي): لا يجوز في أصول الدين وأصول الشرائع، وما عليه قاطع من الفروع. (العنبري ومتابعوه): لا يجوز في أصول الشرائع. (أبو القاسم): يجوز لمن لم يبلغ رتبة النظر، كالنساء والعبيد. وتوقف (البيضاوي) في التقليد في الأصول، وقيل: النظر فيه حرام.
__________
(1) يعني أن التقليد أعم؛ إذ يكون في كل المسائل أو في بعضها، بينما الالتزام أخص؛ لأنه في كلها.
(2) لأنه رتبة دنيئة يأباها العاقل الحر، ودعاء الشرع إلى النظر والبرهان، وتحذيره عن التقليد شمس لائحة الجبين.
(3) التعليمية، قال في (الدراري): وهم الباطنية على ما قاله القاضي عبد الله، سموا بذلك لأنهم لا يقولون بالنظر ولكن العلم عندهم ما يحصل من إمامهم ليعلمه لهم ولا يعمل أحد بخلافه، وقال الديلمي: التعليمية من الباطنية، وإنما لقبوا بذلك؛ لأن مذهبهم إبطال النظر والاستدلال والدعوة إلى الإمام المعصوم، ويقولون: الحق إمَّا أن يعرف بالرأي أو بالتعليم، وباطل أن يعرف بالرأي لتعارض الآراء واختلاف العقلاء، فلم يبق إلا أن يعرف بالتعليم.(1/305)

61 / 66
ع
En
A+
A-