العاشر: المعارضة، وقد تكون بعلة أخرى في الأصل مخالفةٍ، كمعارضة الكيل بالطعم أو القوت، وقد تكون بقياس كامل نحو أن يستدل على منع إزالة النجاسة بغير الماء بأنها: طهارة تراد للصلاة، فلا يصح بالخل، كالوضوء. فيعارض بأنها: عين تصح إزالتها بالماء، فتصح بالخل، كالطيب. والمختار وفاقاً (للجمهور): قبولها. وجوابها بإفساد ما عورض به بأحد الاعتراضات المتقدمة، أو بترجيح العلة عليه بما سيأتي.
فأما المعارضة بعلة أخرى موافقة فليست معارضةً، بل مناصرة؛ لجواز تعليل حكم واحد /284/ بعلتين فصاعداً.
الاجتهاد
[14] باب الاجتهاد والتقليد وصفة المفتي والمستفتي
الإجتهاد لغة: بذل الوسع في تحصيل ما فيه مَشَقَّة.
واختلف فيه اصطلاحاً، فعند (الأكثر) أنه: بذل الوسع في تحصيل ظن بحكم شرعي فرعي. (المنصور، وبعض المعتزلة): بذل الوسع في تحصيل حكم شرعي فرعي لا من قبيل النصوص والظواهر. فيشمل ما له أصل معين، وهو القياس، وما لا أصل له معين، كقِيَم المتلفات، وهو بالحد الأول أعم منه بالثاني. (الكرخي): ما لا أصل له معين، وهو أخص من الثاني.
(الشافعي): والاجتهاد والقياس بمعنى واحد. (أئمتنا، والجمهور): بل الاجتهاد جنس والقياس نوعه. والخلاف في تسميته(1) ديناً كالخلاف المتقدم في القياس.
والرأي لغة: ما يُرَى في أمرٍ ما. واصطلاحاً: ما يتوصل به إلى حكم شرعي فرعي ظني/285/، فيشمل القياس والاجتهاد، وقد يستعمل في الحكم.
[المجتهد وشروط الاجتهاد وكيفيته]
(267) فصل والمجتهد: المتمكن من استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية، ولو غير إمام، خلافاً (للإمامية)، أو من غير العترة خلافاً (لظاهر قول الهادي، والناصر).
__________
(1) أي: الاجهاد.(1/291)
والمُجْتَهَد فيه: الحكم الشرعي العملي الظني. (أبو الحسين): بل ما اختلف فيه المجتهدون من مسائل الشرع، ويتميز(1) عن غيره بأن كلاً فيه مصيب على الأصح، وأنه يسوغ فيه التقليد، وأنه لا ينقض الاجتهاد فيه بالاجتهاد.
وعلوم الاجتهاد المطلق(2):
(أصول الدين) - خلافاً (للأكثر) - لتوقف صحة الاستدلال بالسمع عليه.
(وأصول الفقه)، ومنه: القياس، والمراد أركانه، وما يختص بكل منها من الشروط، وخواص العلة. ومُنْكِره(3) الجامع لما عداه من علوم الاجتهاد /286/، قيل: مجتهد، وقيل: ليس بمجتهد. وقيل: إلا منكر الجلي.
(والكتاب)، والمراد: آيات الأحكام، وهي خمسمائة.
(والسنة)، والمراد: ما يتعلق بالأحكام، ولا يجب نقلهما.
(وإجماع الأمة، والعترة عليهم السلام)، والمراد القطعي؛ لئلا يخالفه، وكذا كل قاطع شرعي، ولا يجب نقلها.
(وقضية العقل)، والمراد بها البراءة الأصلية، ونحوها(4) عند انتفاء المدارك الشرعية، ومتمماتها، وهي معرفة الناسخ والمنسوخ.
(والعربية) لغة، وتصريفاً، وإعراباً، وبياناً، ولا بد مع ذلك من ذكاء يتمكن به من استنباط الأحكام.
__________
(1) أي: ما يجتهد فيه.
(2) يعني: بالمطلق مالم يتقيد بمذهب معين، أو فن أو باب أومسألة من مسائل الشرع.
(3) أي: منكر القياس.
(4) وهي ما يسميها السيد محمد باقر الصدر رحمه الله (الأصول العملية)(1/292)
ولا يشترط: العدالة، والذكورة، والحُريَّة، ومعرفة فروع الفقه، وأسباب النزول، وسير الصحابة، وأحوال الرواة جرحاً وتعديلاً، والحد والبرهان من المنطق، خلافاً لزاعمي ذلك. وبالغ (بعض متأخري ساداتنا(1)، والفقهاء، والأصوليين) /287/ في تبعيد الاجتهاد حتى كادوا يحيلونه(2)، وهو خلاف قول (الجمهور).
(268) فصل وكيفية الاجتهاد في الحادثة: أن يُقَدِّم المجتهد عند استدلاله: قضية العقل المبتوتة، ثم الإجماع المعلوم، ثم نصوص الكتاب والسنة المعلومة، ثم ظواهرهما كعمومهما، ثم نصوص أخبار الآحاد، ثم ظواهرها كعمومها، ثم مفهومات الكتاب والسنة المعلومة على مراتبها، ثم مفهومات أخبار الآحاد، ثم الأفعال والتقريرات كذلك، ثم القياس على مراتبه، ثم ضروب الاجتهاد، ثم البراءة الأصلية ونحوها.
ويجب عليه البحث عن الناسخ والمخصص، خلافاً (للصيرفي)، ولا يجب عليه طلب النص في غير بلده، ولا الإحاطة بجميع النصوص.
[المجتهد المقيد]
(269) فصل ودون /288/ المجتهد المطلق المجتهد في فنّ أو باب أو مسألة من الشرع، وينبني ذلك على القول بتجزئ الاجتهاد، وهو اختيار (المؤيّد، والمنصور، والداعي، والأمير علي بن الحسين(3)، والإمام، والشيخ، والغزالي، والرازي، وغيرهم).
__________
(1) كالسيد جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم، وقد أوفى الرد عليه السيد العلامة الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير رحمهما الله في أول العواصم.
(2) بل لقد صار عند بعض قاصري عصرنا يقرب من دعوى النبوة في إحالته وتجهيل من ادعاه، وما أظن تبعيده إلا دخيل على مذهب الزيدية من أتباع المذاهب الأخرى.
(3) الأمير علي بن الحسين بن يحيى بن يحيى بن الناصر الهادوي المعروف بصاحب (اللمع) كتاب في الفقه مشهور عند الزيدية، من أشهر فقهاء الزيدية في اليمن، أقام بصنعاء، وعاصر الإمام أحمد بن الحسين، وتوفي بقطابر سنة سبعين وستمائة.(1/293)
وإنما يَجْتَهِدُ في مختلف فيه، وليس له أن يستقل بقول في مسألة، بخلاف المجتهد المطلق(1).
فأمّا المتمكن من التخريج على نصوص إمامه المتبحر فيها، كبعض المذاكرين(2)، فليس بمجتهد، ويسميه بعضهم: مجتهد المذهب.
والتكليف شرط في الجميع، والعدالة تصريحاً وتأويلاً شرط في الأخذ عنهم(3)، ولا يؤخذ عن كافر التصريح وفاسقه إجماعاً.
[اجتهاد النبي صلى الله على وآله وسلم والاجتهاد في حياته]
(270) فصل ورجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معرفة الحكم الشرعي إلى الوحي متفق عليه، واجتهاده في الآراء والحروب كذلك، وقيل: خلافاً (للشيخين) /289/.
__________
(1) وفي متأخري أئمة الزيدية وعلمائهم من جمع الرتبتين والاجتهادين وهم كثير.
(2) يطلق الزيدية هذا اللقب على جماعة من المهتمين بدراسة نصوص الإمام الهادي وجده وولديه وما تحتمله من التخريجات.
(3) أي في التقليد لا في الاجتهاد، كما تقدم.(1/294)
واختلف في جواز تعبده بالاجتهاد في غيرها، فعند (بعض أئمتنا، والشيخين، وأبي عبد الله): يمتنع عقلاً(1). وعند (أبي طالب، والمنصور، والشيخ، والجمهور): يجوز عقلاً، وتوقف قوم. واختلف المجوزون في وقوعه شرعاً، فقيل: وقع قطعاً، وقيل: لم يقع قطعاً(2)، وهو إطلاق الهادي(3)، وتوقف (الإمام، وأبو الحسين، والشيخ، وحفيده). والمختار: تفريعاً على الوقوع، وأن الحق في واحدٍ ـ أنه لا يجوز عليه صلى الله عليه وآله وسلم الخطأ في اجتهاده. وقيل: يجوز ولكن لا يُقَرَّ عليه، بخلاف غيره فيقر، وقيل: بل ويُقَر. فأما مخالفته صلى الله عليه وآله وسلم فتحرم إجماعاً.
(271) فصل واختلف في التعبد به في حياته صلى الله عليه وآله وسلم، فالمختار ـ وفاقاً (للجمهور) ـ: أن تعبد المعاصر الغائب به جائز عقلاً واقع شرعاً مطلقاً، ومنعه /290/ الأقلون عقلاً وشرعاً مطلقاً، وقيل: إن تضيق وقت الحادثة، وقيل: للولاة بإذن خاص. وتوقف قوم. واختلف في الحاضر، فعند (الجمهور): أنه جائز عقلاً واقع شرعاً، وعند (الشيخين): ممتنع عقلاً وسمعاً. وتوقف قوم. والمختار: جوازه إن أذن له وإلا فلا(4).
__________
(1) لأن الاجتهاد مجرد ظن عند عدم العلم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يمكنه أن يعلم، وعلى هذا فالعقل يقضي بمنع الظن مع إمكان العلم.
(2) في (أ): فقيل: وقع مطلقاً، وقيل: لم يقع مطلقاً. وفي (ج): وقع قطعاً، وقيل لم يقع مطلقاً.
(3) بل هو مقيد عنده بما كان بياناً لمجملات الكتاب ونحوه كالحلال والحرام، وأما غيره فظاهر كلامه في كتاب (تفسير معاني السنة) جواز اجتهاده كحاكم للمسلمين ولي لأمرهم، كما يجوز ذلك في الإمام، بل يجب عليه عنده.
(4) ولعل الأقرب التفصيل وهو أن يقال: إن كان اجتهاداً في فهم النص ولدلاته فجائز، وإن كان في حادثة تضيق وقتها جاز، وإلاَّ رجع إليه صلى الله عليه وآله وسلم.(1/295)