الأول: المنع، وقد /274/ يكون في الأصل، إمَّا بمنع كونه معللاً، نحو: النبيذ مشتد فهو حرام كالخمر، فيمنع المعترض كون الخمر معللاً. أو بمنع حكمه، ولا ينقطع المستدل بمجرده على الأصح، نحو: السرجين(1) نجس فلا يباع، كالكلب، فيمنع كون الكلب لا يباع. أو بمنع وجود علته، نحو: الماء مطعوم، فيجري فيه الربا كالبُر، فيمنع كون البر مطعوماً مثلاً. أو بمنع كونها علة وإن وجدت فيه كالسفرجل، وإن سلم أنه مطعوم كالبر، فلا يُسَلَّم أن الطعم علة الربا.
وقد يكون في الفرع بمنع وجود علة الأصل فيه، نحو أُسَلِّم أن الطعم علة الربا في البر وأمنع وجودها في الماء، وعلى المستدل إثباتها بإحدى طرقها المتقدمة.
وقد يكون في الأصل والفرع معاً، بمنع وجودها فيهما، كقولهم في الكلب: يغسل الإناء من ولوغه سبعاً، فلا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير، فيمنع العلة /275/ فيهما.
الثاني: المطالبة بتصحيح العلة، وهو من أقوى الاعتراضات، وجوابه بإثباتها بإحدى طرقها، ولم يعده (الباقلاني) منها؛ لأن الواجب على المستدل في الاجتهاد والمناظرة تصحيح علته قبل أن يطالب بذلك؛ إذ لا يكون آتياً بصورة القياس إلاَّ بعد تصحيحها، فإن سكت عنه فهو مقصر. والمختار وفاقاً (للغزالي): أنه كذلك في الاجتهاد لا الجدل.
الثالث: فساد الوضع والاعتبار، فالأول: ما خالف النصوص والأصول من الأوصاف المعلق عليها ضد الحكم، كتعليل نجاسة سور السبع بأنه: سبع ذو ناب، فكان سوره نجساً كالكلب، فيقال: السبعية علةٌ للطهارة بالنص، فلا يعلق عليها ضد حكمها، وكتعليل سقوط الكفارة في قتل العمد عن العامد بأنه: معنى يوجب القتل ولا يوجبها كالردة، فيقال: الأصول توجب تغليظ الحكم للعمدية فلا يتعلق بها التخفيف /276/؛ لأنه ضد مقتضاها.
__________
(1) السرجين: مخلفات الحيوانات.(1/286)
والثاني: ما حمل فيه الحكم على حكم يخالفه، وقد يكون بمخالفة النص، كتعليل تعليق الطلاق بالنساء(1) بأنه عدد تتعلق به البينونة، فاعتبر بهنَّ(2) كالعدة، فيقال: اعتبار فاسد لمخالفة النص، وهو الطلاق بالرجال.
وقد يكون بمخالفة الأصول، كاعتبار القليل بالكبير، كقياس قليل النجاسة على كثيرها، والصغير بالكثير، كإيجاب الزكاة في مال الصغير، قياساً على الكبير، والحي بالميت، كرفع وجوب المضمضة على الحي قياساً على الميت في غسله، والمبدل عنه بالبدل، كقياس الوضوء على التيمم في وجوب النية، والكافر بالمسلم، كقياس الرقبة الكافرة على المسلمة في صحة الكفارة بها، والغني بالفقير، كإيجاب الجزيَة على الذمي الفقير قياساً على الغني، والمرأة بالرجل، كقتلها بالردة قياساً عليه.
فهذه الوجوه السبعة عدها كثير من /277/ الفقهاء من فسَاد الاعتبار لمخالفتها الأصول.
والمختار: اعتبار الجامع المعتبر، فمتى وجد لزمه الحكم والإ فلا، من غير التفات إلى هذه الوجوه، وجوابُهما(3): بالطعن في النص أو تأويله، ومنع مخالفة الأصول.
الرابع: القول بالموجب، وهو: تسليم ما جعله المستدل علة مع بقاء النزاع في الحكم، كما إذا استدل على وجوب الزكاة في الخيل بأنها حيوان يسابق عليه، فيجب فيه الزكاة كالإبل، فيقال بموجب العلة مع منع وجوب الزكاة فيها.
والمختار وفاقاً للمحققين: أنه اعتراض صحيح مبطل للعلة؛ لانقطاع المتمسَك بها في محل النزاع، بأن موجبها محل النزاع.
الخامس: النقض، وهو: وجود العلة في محل، مع تخلف حكمها منصوصة كانت أو مستنبطة، وقد تقدم مفصلاً.
__________
(1) أي: جعله إليهن، وهذا على سبيل التمثيل.
(2) أي: النساء.
(3) أي: مخالفة النص ومخالفة الأصول.(1/287)
السادس: الكسر، وهو: تأخر حكم العلة عنها في فرع يقوم فيه /278/ معنى لا لفظاً عند المعترض، بأن يرفع وصفاً من أوصافها؛ لظنه أنه لا تأثير له في حكمها، وأن المؤثر ما عداه، أو يبدِله بوصف في معناه، ثم يكسر العلة بعدهما. فالأول: نحو: أن يستدل على وجوب تعيين النية في صوم رمضان بأنه: صَوْمٌ مفروض فيفتقر إلى تعيينها، كالقضاء، فيظن المعترض أنه لا تأثير لصَوْمٌ في ثبوت الحكم، وأن المؤثر ما عداه، فلا يعتبره، ثم يكسرها بالحجج، فإنه لا يجب فيه التعيين.
والثاني: نحو: أن يستدل على منع بيع ما لم يره المشتري بأنه: مَبِيْعٌ مجهول الصفة عند العاقد حالة العقد فلا يصح، فيظن المعترض أنه لا تأثير لِمَبِيْع في الحكم؛ فيبدله بمعقودٍ عليه، ثم يكسرها بنكاح من لم يرها الناكح، فهو صحيح مع أنها مجهولة الصفة.
وجوابه ببيان تأثير ما رفع أو أبدل. ولم يعده بعض الخراسانيين في الاعتراضات.
والفرق بين النقض والكسر /279/: أن النقض يَرد على جميع العلة، والكسر يرد على بعضها بعد إسقاط بعض؛ برفعه أو تبديله.
السابع: القلب، وهو أربعة أقسام:
الأول: قلب التصريح، وهو: أن يذكر المستدل علةً للحكم، فَيُعَلِّق عليها المعترض نقيضَه، فلا يكون أحدهما أولى من الآخر، نحو أن /280/ يستدل على اشتراط الصوم في آن الاعتكاف؛ بأنه لبث في مكانٍ مخصوص، فشرطه اقتران معنى به كالوقوف بعرفة، فيقال: لبث في مكان مخصوص، فلم يكن الصوم شرطاً فيه كالوقوف بعرفة.(1/288)
الثاني: قلب الإيهام، وقد يكون من غير تسوية، نحو: أن يستدل على أنه لا يثنى الركوع في صلاة الخسوف بأنها: صلاة شُرع فيها الجماعة، فلا يثنى فيها الركوع في ركعة واحدة، كصلاة العيدين؛ فيقال: صلاة شرع فيها الجماعة، فجاز أن تختص بزيادة، كصلاة العيدين. ومع التسوية(1) نحو أن يستدل عل نفوذ طلاق المكره، بأنه: مكلف قاصد إلى الطلاق، فأشبه المختار، فيقال: مكلف قاصد إلى الطلاق، فيستوي إقراره وإنشاؤه كالمختار.
الثالث: جعل المعلل علةً، والعلة معللاً، نحو: أن يستدل على صحة ظهار الذمي بأنه إنما صح ظهاره لأنه صح طلاقه، كالمسلم فيقال: المسلم إنما صح طلاقه لأنه صح ظهاره.
الرابع: قلب التقديم والتأخير، نحو: أن يستدل على أن المتيمم إذا رأى الماء وهو في أثناء صلاته لا يلزمه استعماله؛ بأنه: مُتَيممٌ رأى الماء بعد تلبسه بالصلاة، فلا يلزمه استعماله، كما لو رآه بعد فراغها؛ فيقال: متيمم رأى الماء قبل سقوطها عن ذمته، فأشبه من رآه قبل الدخول فيها.
وإنما يرد القلب على العلة الشبهيَّة لا المؤثرة ولا المناسبة، والمختار أنه مفسد للعلة.
__________
(1) عطف على: وقد يكون من غير تسوية.(1/289)
الثامن: عدم التأثير /281/، وهو أن يذكر في أوصاف العلة ما لا يقدح فقده في ثبوت الحكم، وقد يكون حشواً، نحو: أن يستدل على تحريم الأمة الكتابية بأنها: مملوكة كافرة، فلا يحل للمسلم نكاحها؛ كالمملوكة المجوسيَّة، فذكر المملوكة في الأصل حشو؛ لأن الحرة المجوسية كذلك، فالتمجس مستقل في التأثير في التحريم. وقد يكون مانعاً من نقض العلة ببعض الفروع، وإن لم يقدح فقده في إثبات حكم الأصل، ويسميه المتكلمون: الاحتراز بمجرد دفع الإلزام، نحو أن يستدل على اعتبار العدد في الاستجمار بالأحجار؛ بأنه طاعة تتعلق بالأحجار لم تتقدمها معصية، فاعتُبر فيها العدد كرمي الجمار. فيقال: لم تتقدمها معصية لا تأثير له في حكم الأصل؛ لأن رمي الجمار يعتبر فيه العدد إجماعاً، سواء تقدمته طاعة أو معصية، لكنه لو أسقط /282/ لانتقضت العلة في الفرع برجم الزاني، فإنه طاعة تتعلق بالأحجار، ولا يعتبر فيه العدد.
والفرق بين الكسر وعدم التأثير - وإن اشتركا في كون سقوط بعض الوصف لا يؤثر في عدم ثبوت قلب الحكم ـ : أن المسقط في الكسر جزء من علة حكم الأصل له تأثير فيه، بخلاف المسقط في عدم التأثير، فليس بجزء منها مؤثر فيه، وإنما يذكر حشواً لئلا تنتقض العلة بفرع توجد فيه دون الحكم. وهو مفسد وفاقاً (للجمهور)، خلافاً (لبعض الشافعية).
التاسع: الفرق، وهو: إبداء معنىً في الأصل فارقٌ بينه وبين الفرع، نحو: أن يستدل على أن التكرار في مسح الرأس غير مسنون، بأنه: مسح في طهارة، فلا يسن فيه التكرار كالمسح على الخف، فيفرق بأنه في الأصل بدل عن حكم مغلظ، وهو: غسل /283/ القدم؛ إلى مخفف، فلذلك لم يسن فيه التكرار، بخلاف الفرع، فإنه فيه ليس ببدل. واختلف في الفرق، فعند (الجمهور) أنه مقبول مطلقاً، وقيل: ليس بمقبول مطلقاً، والمختار: قبوله، إن أخرجه عن المناسبة أو الشبه، وألحقه بالطرد وإلا فلا.(1/290)