فإن كان الإجماع قطعياً وعلم انحصارها في أقسام معيّنة، وأن كلها باطلة إلا واحد منها فهي قطعية، وإن كانت الثلاثة(1) ظنية أو بعضها فهي ظنية.
وحيث يكون /266/ السبر بالنفي والإثبات، فهو: الحاصر، وإلا فهو غير الحاصر(2)، ولا يفيد العلم.
فإن لم يكن إجماع على أن حكم الأصل معلل، وكان السبر غير حاصر؛ فعند (الجويني) أنه ليس بطريق إلى كونها علة؛ لأنه غير مثمر للظن. (الباقلاني): بل طريق لإثماره الظن. (الإمام): محل اجتهاد. ولا يسمى حينئذ حجة إجماع.
وطرق إبطال ما عدا الباقي ثلاث: الإلغاء، وهو: أن يبيّن المستدل ثبوت الحكم بالباقي دون المبطل. وكون المبطل طردياً، إما مطلقاً، كالطول والقصر(3)، أو بالنسبة إلى ذلك الحكم كالذكورة والأنوثة في العتق(4). وعدم ظهور مناسبة المبطل. ويكفي المستدل قوله للمعترض: بحثت فلم أجد مناسبة ولا ما يوهمها فيما أبطلته، فإن ادعى المعترض أن الباقي كذلك(5) فليس للمستدل بيان مناسبته؛ لأنه انتقال(6)، لكن يُرجح سبره بموافقته للتعديَة.
(الثالث): الطرد والعكس، فالطرد: ثبوت الحكم /267/ عند ثبوت الوصف، والعكس: انتفاؤه عند انتفائه، كالحلاوة في العصير. وتسمى: الدوران، والعلة: مداراً، والحكم: دائراً.
__________
(1) أي: الإجماع والحصر والإبطال.
(2) الحاصر مثل قولنا: إما أن تكون العلة كذا أو لا.. فقد حصلت حقيقة الحصر فيه؛ لأن العلم لا يخلو من النفي والإثبات. ومثال غير الحاصر، قولنا: العلة إما الإسكار أو الاتخاذ من العنب، واعتبر غير حاصر؛ لأن العلة قد تخلو عن أحدهما وتكون غيرهما.
(3) فإنهما لا اعتبار لهما في الشرع أصلاً.
(4) فإنهما طرديان فيه، وإن اعتبرا في غيره.
(5) أي: لم يجد فيه مناسبة ولا ما يوهمها بعد ما بحث.
(6) يعني: انتقال عن السبر إلى الإخالة، وحينئذٍ لا تجد إلا التحكم باعتبار وصف دون وصف. من (النظام).(1/281)


واختلف في دلالته على العليَّة بنفسه، فعند (أبي طالب، والمنصور، وجمهور المعتزلة، وبعض الشافعية): أنه يدل عليها فيؤخذ به في العقليات والشرعيات. (الصيرفي، والشيرازي، والباقلاني): لا يدل عليها، فلا يؤخذ به فيهما. (الإمام، وجمهور الأشعرية): يدل عليها ظناً فيؤخذ به في الشرعيات فقط. والمختار: قبوله فيهما، لكن مع زيادة قيدٍ، وهو: ألا يكون هناك ما تعليق الحكم به أولى.
(260) فصل وتحقيق المناط، إثبات علة الأصل مطلقاً(1) في الفرع، كالنبيذ؛ فمبناه على مقدمتين: أولاهما: ثابتة بالسمع فقط، أو به وبالاستنباط، وذلك في الأصل. والثانية: مدركة بنوع من النظر، وذلك في الفرع /268/.
وتعيين المناط: تعلق الحكم بوصفين فصاعداً على البدل، ثم يعين أحدهما الاجتهاد، كعلة الربا(2).
[العلة الطردية]
(261) فصل والطرديّة: وصف ليس بمؤثر ولا مناسب ولا موهم للمناسبة، كقولهم في منع إزالة النجاسة بالخل: مائع لا تبنى القنطرَة على جنسه؛ فلم يرفع النجاسة كالزيت، وفي كون مس الذكر لا ينقض الوضوء: طويل مجوف؛ فلا ينتقض الوضوء بلمسه كقصبة اليراع، ونحو ذلك. ويسمى: إلغاء المناط، وتعطيل المناط، والطرد المهجور.
ويحمل ما ذكره (الهادي عليه السلام) في كتاب (القياس) وغيره من قدماء الأئمة من ذم القياس وأهله على الطرد ونحوه.
وردها(3) (أئمتنا، والجمهور) مطلقاً؛ لأن التحليل بها مجازفة، وقبلها (بعض(4) الحنفية) مطلقاً مع اطرادها، و(الكرخي) في الجدل لا العمل، وقيل: لا تقبل علة مستقلَّة، بل جزء علة لدفع النقض
__________
(1) أي: مؤثرة أو مناسبة.
(2) حيث اتفق على التعليل بوصفين، وعلى حد الوصفين وهو اختلاف الجنس، واختلف في تعيين الآخر، فقيل: التقدير بالكيل والوزن كما عندنا، وقيل: الطعم، وقيل: القوت.
(3) أي العلة الطردية.
(4) سقط من (أ): بعض.(1/282)


(262) فصل ودليل /269/ اعتبار المستنبطة مناسبة كانت أو شبهيَّة، بعد ثبوتها بإحدى طرقها المتقدمة؛ أنَّه لا بد لكل حكم تعبدي من علة وجوباً عند (أئمتنا، والمعتزلة)(1)، وعادة عند (الأشعرية)، والنصوص غير وافية، فوجب العمل بها(2).
وإذا كان طريقها المناسبة العقلية، سمي: قياس الإخالة، أو إيهامها سمي: قياس الشَبَه، أو التقسيم والسبر سمي: قياس السبر، أو الطرد والعكس سمي: قياس الاطراد.
[الطرق الفاسدة لإثبات العلة]
(263) فصل والطرق الفاسدة في إثبات العلة ست، وهي: قولهم: الدليل على هذه العلة اطرادها في معَلَّلاتها. أو عَجِزَ الخصم عن إبطالها(3). أو ما ذكرته تعدية، واعتبار لحكم الفرع بالأصل، فيجب قبوله؛ لاندراجه تحت قوله تعالى: ?فَاعْتَبِرُوا يَا أولِي الأبْصَارِ?[الحشر:2]. أو يدل على صحتها سلامتها عن علة تعارضها. أو مجاورتها للحكم دون غيرها /270/، أو كونها مسلمة بين الخصمين.
(264) فصل ومفسدات العلة: قطعيَّة وظنية.
فالقطعية: قد تكون من جهة الأصل؛ بأن تنتزع من أصل غير قابل للتعليل، أو منسوخ، أو ثابتٍ بقياس.
ومن جهة الفرع؛ بأن تكون علة الأصل غير ثابتة فيه، أو يكون حكمه في قياس الطرد مخالفاً لحكم أصله مطلقاً، أو بزيادة أو نقصان فيه.
أو من جهة طريقها؛ بأن يكون إثباتها لا بدليل شرعي، بل بمجرد التحكم، أو بدليل عقلي، أو يكون الأصل الذي استنبطت منه معارَضاً بقاطع.
__________
(1) لكون الشرائع مصالح.
(2) أي: بالعلة المستنبطة التي لم ينص عليها الشارع بأحد أقسام النص الثلاثة، والمسألة مهمة ومحتاجة إلى النظر، وغلقُ الباب أمام العقل والتعليل كما يراه نفاة القياس مطلقاً تفريط بالغ، وفتح الباب على مصراعيه، بلا حدود، ولا ضوابط كما يروج له البعض إفراط، والحق بينهما مع مراعاة الأهلية لذلك والاختصاص.
(3) يعني: أو قول المستدل: عجز الخصم.. الخ(1/283)


ومن جهة مخالفة وضع القياس، وهي إثبات الأصول به(1)، كقياس العمل بالقياس وخبر الواحد على الشهادة، ويسمَّى: فساد الاعتبار.
والظنية: كتخصيصها، أو تخصيص العام بها عند مانعهما، أو معارضتها بأخرى تدل على نقيض حكمها عند المصوّبة، أو إثباتها بالطرد والعكس /271/ عند من لا يراه طريقاً إلى إثباتها، أو بخبر الواحد عند مشترط القطع بأصلها، أو مخالفتها مذهب الصحابي عند مانعه، أو كون محل القياس فيها الكفارات والحدود عند مانعه فيهما، أو كون وجودها في الفرع مظنوناً عند مشترط القطع بوجودها فيه، أو كونها شبهيَّة عند مانعها، ونحو ذلك من الاختلافات الجارية في أقيسة مسائل الاجتهاد.
واختلف في فحوى الخطاب، وما في معنى الأصل، والاستحسان، هل هي قياس أم لا؟ وقد سبق ذلك الخلاف في الأولين(2).
[الاستحسان]
(265) فصل والاستحسان في أصل اللغة: اعتقاد حسن الشيء. وفي عرفها: الاستحلاء. واختلف فيه اصطلاحاً، فأثبته: (أئمتنا، والحنفية، والبصرية، والحنابلة) /272/، ونفاه: (الشافعية، والأشعرية، والمريسي)، وبالغوا في إنكاره، وشنعوا على (الحنفية)، حتى قال (الشافعي): (( من استحسن فقد شرّع )).
وليس الخلاف في الاستحسان بمعنى: فعل الواجب أو الأولى، ولا في: إطلاق لفظه إتفاقاً، ولا بمعنى: ما تميل إليه النفس، ولا: اتباع الأضعف مع وجود الأقوى على الأصح، وإنما هو في أمر وراء ذلك.
__________
(1) أي: المسائل الأصولية المهمة كإثبات التعبد بخبر الواحد، والقياس بالقياس على الشهادة.
(2) في باب المنطوق والمفهوم.(1/284)


واختلف في حده، فعند: (أبي طالب، والمنصور، والكرخي، وأبي عبد الله): أنه العدول بحكم المسألة عن حكم نظائرها، إلى خلافه لوجه أقوى من الأول. (المؤيَّد، وبعض الحنفية): العدول عن موجب قياسٍ إلى قياسٍ أقوى. (الإمام، وأبو الحسين، والحفيد، وغيرهم): ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ، لوجهٍ أقوى من المتروك يكون في حكم الطاري عليه. وقيل: تخصيص قياس بدليل أقوى منه، وقيل: هو ترك طريقة إلى أقوى /273/ منها، ولا نزاع في الجميع. وقيل: هو: العدول عن حكم الدليل إلى العادة، لمصلحة الناس، كدخول الحمام(1)، ورُدّ بأنها إن كانت حقاً فقد قام دليلها وإلا ردت. وقيل: دليل ينقدح في نفس المجتهد تقصر عبارته عنه، ورُد بأنه إن تحقق فمعتبرٌ، وإلا فليس بمعتبر.
والمختار وفاقاً (للجمهور): أنه لا يتحقق استحسان بمختلف فيه؛ لأن الخلاف إن عاد إلى اللفظ فلا مشاحة في العبارة بعد صحة المعنى من غير إيهام، وإن عاد إلى المعنى فرجوعه إلى الترجيح بين الأدلة الشرعية، وهو متفق عليه، لكن لا بد من دليلين: معدولٍ عنه مرجوح، ومرجوع إليه راجح(2).
[الاعتراضات]
(266) فصل والاعتراضات الواردة على قياس العلة ترجع إلى: منع، أو معارضة، وإلا لم تقبل، ولا يجب معرفتها على المجتهد، ولذلك لم يتعرض لذكرها بعض الأصوليين وهي عشرة:
__________
(1) ولعله ما يدعو إليه بعض المعاصرين سيما إذا كان الدليل ظني الثبوت والدلالة أو الثبوت، والفرق بينه وبين ما قبله أن ما قبله لم يخرج عن مقتضى الدليل بخلاف هذا فقد خرج إلى العادة للمصلحة.
(2) هذا كلام هام ويزاد عليه أنه يكفي في المرجوع إليه أن يكون أصلاً عاماً أو مصلحة عامة قام دليل اعتبارها ثبتت في محل الاستحسان ولا يشترط أن يكون نصاً خاصاً، وفي المعدول عنه أنه لا يكون ثابتاً بنص قطعي من الكتاب أو السنة لا من الإجماع والقياس ففي قطعيتهما نظر.(1/285)

57 / 66
ع
En
A+
A-