ضروري في أصله؛ كالكليَّات الخمس المراعاة في كل شرع، وهي: حفظ الدين بقتل الكفار، والنفس بالقصاص، والعقل بحد المسكر، والنسب بحد الزنا، والمال بحد السارق والمحارب.
ومكمِّل له، كحد قليل المسكر، ومماثلة القصاص. ويجوز اختلاف الشرائع في المكمّل وما بعده.
والثاني: ما يقع في محل الحاجة، ويلقب بالحاجي، وهو: ما تدعو إليه الحاجة لا الضرورة، ورتبته دون الأول، وهو قسمان:
أصلي، كالبيع والإجارة، والقرض، وتسليط الولي على تزويج الصغيرة، ونحوها، وبعضها آكَد /258/ من بعض، فأما الإجارة على تربية الطفل وشراء المطعوم والملبوس له ولغيره، فقيل ضرورته أصلية، وقيل: ضرورته حاجية؛ لأنَّها قد تكون ضرورية، ومكمل له، كوجوب رعاية الكفارة ومهر المثل في الصغيرة، فإنه أشد إفضاء إلى دوام النكاح، وإن كان المقصود حاصلاً بدونهما.
والثالث: ما يقع في محل التحسين، ويُلَقب بالعادي، وهو ما تدعو إليه رعاية محاسن العادات لا الضرورة ولا الحاجة، ورتبته دونهما، وهو قسمان:
ما لا يعارض القواعد المعتبرة، كتقييد النكاح بالشهادة، وسلب الرق أهليتها(1)، وترك القسم له من الغنائم.
وما يعارضها كشرع الكتابة، فهو مع استحسانه عادة معارض للقواعد؛ لأنه بيع المال بالمال، ولا مكمل له(2).
وقد تجتمع الثلاثة في وصف على رأي كالنفقة، وهي ضرورية للنفس، حاجيَّة للزوجات، تحسينيَّة/259/ للأقارب.
__________
(1) أي: كون الرق سالباً أهلية الشهادة.
(2) أي: للعادي.(1/276)
(والخيالي الإقناعي): ما تُتَخَيَّل فيه مناسبة تُميّزه عن الطرد في أول وهلة، ثم إذا حقق النظر فيه ظهر عدمها حتى لا يزداد على كثرة البحث والتأمل إلا تلاشياً، كتعليل تحريم بيع الميتة بالنجاسة، وقياس الكلب عليها بجامعها، فمناسبتها للتحريم فيها خيالية إقناعية، من جهة أن نجاسة الشيء تناسب إذلاله، ومقابلته بمالٍ يناسب إعزازه، وبينهما منافاة، فمناسبة النجاسة للتحريم متخيلة، لكنها تضمحل مع التأمل؛ لأن معناها كون الصلاة معها غير مجزية، ولا مناسبة بينه وبين التحريم.
(254) فصل وينقسم باعتبار نظر الشارع، إلى: ما عُلِمَ اعتباره، وما علم إلغاؤه، وما لم يعلم فيه واحد منهما.
فالأول أربعة أقسام:
[1] ما تُؤثِّر عينُه في عين الحكم، كتأثير عين المسكر في تحريم الخمر والنبيذ /260/.
[2] وما تُؤثِّر عينه في جنس الحكم، كالتعليل بالصغر في قياس ولاية نكاح الصغيرة على ولاية ما لها، فعين الصغر مؤثر في جنس حكم الولاية.
[3] وما يُؤثِّر جنسه في عين الحكم، كالتعليل بالحرج في قياس الْحَضَر حال المطر على السفر في الجمع، فجنس الحرج مؤثر في عين رخصة الجمع.
[4] وما يُؤثِّر جنسه في جنس الحكم، كالتعليل بجناية العمد العدوان في قياس الأطراف على النفس في القصاص، فجنس الجناية مؤثر في جنس القصاص.(1/277)
(255) فصل والثاني: كجعل ثلاث تطليقات لم يتخللهن رجعة ثلاثاً، دفعاً للتتابع في الطلاق(1)، بعد تقرير كونها واحدة. وتوريث المبتوتة في مرض الموت لئلا ترث(2)، وإيجاب صوم شهرين متتابعين ابتداءً(3) على المجامع في نهار رمضان، الذي يكون الصوم أشق عليه من العتق. وترك حيّ على خير العمل في الأذان ترغيباً في الجهاد(4) /161/. ووضع الحديث للترغيب والترهيب. والكفر لإسقاط المظالم، أو لنحو ذلك، وقطع أذن المؤذي أو شفتيه أو أنفه. أو الضرب بالتهمة لإخراج السرقة. فَجِنْسُ الزجر، والترغيب والترهيب، والسعي في براءة الذمة، وحفظ العرض والمال معتبرٌ، لكن مصادمة الدليل القاطع ـ وهو الإجماع(5) - تمنع من اعتباره هاهنا.
(256) فصل والثالث: المناسب المرسل، ويسمى: القياس المرسل، والاستدلال المرسل، والمصلحة المرسلة، وهو ضرب من الاجتهاد. وقبله: (المالكية) مطلقاً، فأفرطوا ووقعوا في مخالفة النصوص، وخرجوا منه إلى القسم الثاني المردود، كقتل الثلث لإصلاح الثلثين. ورده: (الباقلاني، وطائفة) مطلقاً، ففرطوا، ولزمهم خلو كثير من الوقائع عن الأحكام. والمختار عند (أئمتنا، والجمهور) /262/: قبوله؛ إذا كانت المصلحة غير مصادمَة لنصوص الشارع(6)، ملائمة لقواعد أصوله(7)، خالصة عن معارض(8) لا أصل لها معيّن(9).
__________
(1) على سبيل العقوبة.
(2) أي: التي طلقها زوجها ثلاثاً متخلل الرجعة في مرض الموت لئلا ترث، فتورث معارضة له بنقيض قصده.
(3) أي قبل العتق والإطعام.
(4) لئلا يتكل الناس على الصلاة باعتبارها خير العمل، فيتركوا الجهاد.
(5) سقط من (أ): القاطع وهو الإجماع.
(6) كإفتاء الملك بالصوم بدلاً عن الإطعام.
(7) أي: وتكون المصلحة ملائمة لمقتضى أصول الشرع.
(8) كالضرب للتهمة في السَّرقة، فإنها مصلحة لاستخراج السرقة، ولكنها معارضة بعصمة النفوس من الأذى.
(9) لأنها إذا كان لها أصل معين لم تكن مصلحة مرسلة، وإنما قياس من جملة الأقيسة.(1/278)
واشترط الغزالي في قبوله كون المصلحة ضروريّة، كلية، قطعية.
وأمثلته كثيرة، منها: قتل المسلم المترَّس به، وعدم قبول توبة الملاحدة، (كالباطنية)، وتكبير (بعض أئمتنا) أربعاً في صلاة الجنازة اجتهاداً للتأليف، واجتهاده الأصلي أنها خمس، وتقديم المصلحة العامَّة كالجهاد على الخاصة كالقود، وتناول سد الرمق عند تطبيق الجذام للأرض(1) أو لناحية يتعذر الانتقال منها، وتحريم نكاح العاجز عن الوطء من تعصي لتركه، وهذه في محل الضروريات.
ومنها: فسخ امرأة المفقود، وفسخ من عقد لها وليَّان عَقْدُ أحدهما سابق، لكنه لم يعلم، واعتداد من انقطع حيضها لا لعارض معلوم بالأشهر(2)، لما في /263/ التربص من الضرر بها، وأخذ نصف مال المسلم لدفع من يأخذ كله، وهذه في محل الحاجيات.
(257) فصل وتبطل المناسبة بمفسدة تلزم الحكم، راجحة على المصلحة، أو مساوية لها على المختار فيهما، خلافاً لقوم، كالصلاة في الدار المغصوبة؛ إذ لا مصلحة مع مفسدة زائدة عليها أو مثلها.
والترجيح تفصيلاً يختلف باختلاف المسائل، وقد يرجح بطريق إجمالية، وهو أنه لو لم يقدر رُجحان المصلحة على المفسدة المعارضة لزم التَّعبّد بالحكم لا لمصلحة.
[العلة الشبهية]
__________
(1) أي انتشاره بشكل واسع حتى يعم.
(2) متعلق باعتداد.(1/279)
(258) فصل والشَّبَهِيَّة: وصف يوهم المناسبة، ليس بمؤثرٍ ولا مناسب عقلي كالكيل والطهارة، فتتميّز بالقيد الأول عن الطردية؛ لفقد إيهام المناسبة فيها(1)؛ إذ وجودها كالعدم. وبالثاني عن المؤثرة. وبالثالث عن المناسبة؛ لأن مناسبتها عقلية /264/، وهي منزلة بينها وبين الطردية(2)، تشبه كل منهما من وجه، وتخالفه من آخر، ولذلك صَعُبَ حدُّها، ودَقَّ الفرق بينها وبينهما سيما بينها وبين الطردية، وإحالته إلى الذوق أولى. وهي(3) فوقها ودون المناسبة. ولا يصار إليها مع إمكان المؤثرة والمناسبة إجماعاً، فإن تعذرتا صح التعليل بها عند: (أئمتنا، والجمهور)، خلافاً: (لأبي زيد، وأصحابه، والباقلاني، وبعض الشافعية). وسميت: شبهية؛ لأن ما فيها من إيهام المناسبة لحكمها يقتضي ظن اعتبارها كالمناسبة، وعَدَمَ مناسبتها له عقلاً يقتضي عدم ظن اعتبارها كالطردية، فاشتبه أمرها.
ولاعتبار (الجمهور) لها توهّم بعضهم أن بينها وبين الطردية فرقاً ذاتياً كالمناسبة، وهو فاسد؛ لأنهما من جنس واحد وإنما افترقا لما في الشبهيّة من إيهام المناسبَة.
(259) فصل وطريق المناسبة والشبهيَّة الاستنباط، وهو ثلاثة /265/ أقسام:
(الأول): المناسبة العقلية ويخص الأولى. وإيهامها ويخص الثانية، وهي طريق معتبرة عند مثبتي العلل بالاستنباط سيما الأولى.
(الثاني): التقسيم والسبر، ويسمى: حجة الإجماع، وذلك حيث يُجمع على أن حكم الأصل معلَّلٌ من دون تعيين علته، ثم تُحْصَر الأوصاف التي يمكن أنها العلة ويبطل ما لا يصلح بإحدى طرق الإبطال الثلاثة وستأتي؛ فيتعين الباقي لكونه علة. ويكفي(4): بحثت فلم أجد. والأصل عدم ما سواه. فإن بين المعترض وصفاً آخر لزم إبطاله لا انقطاع المستدل. والمجتهد يرجع إلى ظنه.
__________
(1) أي الطردية.
(2) يعني: أن الشبهية منزلة بين المناسبة والطردية.
(3) أي: الشبهية فوق الطردية.
(4) في حصر الأوصاف.(1/280)