وهي تنقسم إلى: مؤثرة، ومناسبة، وشبهية، وطردية.
[المؤثرة وأقسامها]
فالمؤثرة: ما دل عليها السمع على مراتبه، وإن لم يظهر فيها مناسبة. وطرقها ثلاث:
(الأولى): النص، وهو اللفظ الدال على العليَّة صريحاً، فإن لم يحتمل غيرها فقاطع في العليَّة، نحو: لعلة كذا، أو لسبب، أو لمؤثر، أو لموجب، أو لأجل، أو من أجل، أو ما أشبهها، وإن احتمل غيرها فظاهر فيها، نحو: لكذا، أو إن كان أو بكذا، أو إذن، أو ما أشبهها.
(الثانية): تنبيه النص، ويسمى: الإيماء، وليس من النص في الأصح، وهو اللفظ الدال على العليّة على وجه الإيماء، مع ذكر العلة وحكمها، وهو أربعة أقسام/251/:
الأول: ما يدخل فيه فاء التعقيب والتسبيب في كلام الشارع على العلة، وهو الأقل، والحكم متقدم عليها، نحو: (( فإنه يحشر يوم القيامة ملبياً ))(1) أو على الحكم(2) وهو الأكثر، والعلة متقدمة، والحكم حينئذٍ إمَّا: جواب شرط، نحو: ?وإذَا حَلَلْتُم فَاصْطَادُوا?[المائدة:3]، أو ما في معناه، نحو: ?وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوْا?[المائدة:4]. أو غير ذلك، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم لبريرة: (( ملكت نفسك فاختاري ))(3)، أو في كلام الراوي(4)، نحو: سهى فسجد، فقيهاً كان أو غير فقيه، خلافاً (لأبي حنيفة).
__________
(1) قال في (الدراري): الراوي له البخاري ومسلم، في المحرم الذي وقصته ناقته: "لا تمسوه طيباً ولا تخمروا رأسه".
(2) أي: تدخل فاء التعقيب والتسبيب على الحكم.
(3) روى الدار قطني 3/290 عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لبريرة: "اذهبي فقد عتق معك بضعك".
(4) عطف على قوله: في كلام الشارع.(1/271)


الثاني: ما اقترنت فيه العلة بحكم، لولم تكن هي أو نظيرها علةً له لكان ذكر الشارع لذلك الحكم بعيداً، فاقترانها: كقوله صلى الله عليه وآله وسلم للأعرابي القائل: واقعت أهلي في نهار رمضان: (( إعتق رقبة ))(1)، فكأنه قيل: إذا واقعت فكفِّر.
فإن تعددت أوصافها واحتمل أن يكون علة الحكم مجموعها أو بعضها ثم اعتبر بعضٌ وألغي بعضٌ /252/ بدليلي الاعتبار والإلغاء؛ فتنقيح المناط، وتهذيبه، وتجريده، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم - جواباً لمن قال: أيجوز بيع الرطب بالتمر؟ -: (( أينقص إذا جف )) ؟ قالوا: نعم، قال: (( فلا إذاً ))(2). فوقف الحكم على العلة التي قرّرها. واقتران نظيرها: كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه؟ ))(3). جواباً للقائلة: إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج، أينفعه إن حججت عنه؟ وفيه تنبيه على الأصل والفرع والعلة. ومنه - وفاقاً (للجمهور) -: قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعمر لما سأله عن قبلة الصائم: (( أرأيت لو تمضمضت بماء أكان ذلك مفسداً )) (4) ؟ فقال: لا، ليس ينقض. لما توهم عمر من إفساد مقدمة الإفساد، خلافاً (للآمدي).
__________
(1) أخرجه أحمد 2/281، والدارمي 2/19 عن أبي هريرة.
(2) أخرجه أبو يعلى 2/141، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/6، والبيهقي 5/295، والنسائي 7/268 عن سعد بن مالك.
(3) أخرجه عبد بن حميد كما في المنتخب 213، والدار قطني 2/260 عن ابن عباس.
(4) روى البيهقي في السنن الكبرى 4/218 عن عمر بن الخطاب أنه قال: هششت يوما فقَبَّلت وأنا صائم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: صنعت اليوم أمراً عظيماً، قبَّلت وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم"؟ قال: فقلت: لا بأس بذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ففيم".(1/272)


الثالث: ما نهي فيه عما يمنع من وجود الواجب، كقوله تعالى: ?وَذَرُوا البَيْعَ?[الجمعة:9] بعد الأمر بالسعي.
الرابع: ما فرق فيه بين حكمين بصفة مع ذكرهما /253/، نحو: (( للراجل سهم وللفارس سهمان ))(1)، أو ذكر أحدهما فقط منقطعاً من عموم سابق، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( القاتل عمداً لا يرث))(2) بعد نزول آية المواريث العامَّة، وكقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يقضِ القاضي وهو غضبان ))(3) بعد تقدم الأمر بالقضاء مطلقاً. أو(4) بشرط، أو غاية، أو استثناء، أو استدراك، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم ))(5) ?وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ?[البقرة:220] و?إلاَّ أنْ يَعْفُونَ?[البقر:235] ?وَلَكِنْ يُؤآخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانِ?[المائدة:91].
فرع
__________
(1) أخرجه ابن حبان 11/139 عن ابن عمر، وله شواهد كثيرة.
(2) أخرج نحوه الدارمي 2/478، والبيهقي 6/220 عن ابن عباس.
(3) أخرجه احمد 5/36، وابو داود 3/302، وابن الجارود 250 وغيرهم عن أبي بكرة.
(4) عطف على قوله: بصفة.
(5) حكاه القرطبي في تفسير سورة النحل آية (14).(1/273)


فإن ذكرت العلة فقط والحكم مستنبط، نحو: ?وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ(1)?(2)[البقرة:286]، وعكسه كالخمر حرام، فقيل: كل منهما إيماء، بناءً على أنه اقتران العلة بالحكم، وإن قُدر أحدهما. وقيل: ليسا بإيماء، بناءً على أنه لا بد من ذكرهما معاً. والمختار وفاقاً (لأكثر المحققين): أن الأول إيماء لا الثاني /254/؛ لأن ذكر علة الحكم كذكره لاستلزامها إياه، كالحل لصحة البيع؛ والعلة الثابتة بالإيماء المناسبَة لحكمها معتبرة اتفاقاً، ولا يشترط - وفاقاً (للجمهور)-: ظهور مناسبتها. ومطلق اعتبارها لا يجوز تغييره، كالغضب(3)، فأما تعيينه من كونه لعينها أو لمعنى تضمنته فيجوز تغييره بأنواع الأدلة.
(الثالثة): الإجماع، خلافاً (للرازي)، كإجماعهم على أن الصغر علة ولاية المال، فإن كان ظنياً فهي ظنية، أو قطعياً فهي قطعية وإن كان مستنده أمارة. وأمَّا حجة الإجماع(4) فستأتي.
[المناسبة وأقسامها]
(251) فصل والمناسبة عند (أئمتنا، والمعتزلة) هي: الظاهرة المنضبطة الثابتة بمجرد مناسبتها لحكمها عقلاً، لحصول مصلحة أو دفع مفسدة كالإسكار للتحريم.
وعند (الأشعرية): الملائمة لأفعال العقلاء عادة.
وتسمى: تخريج المناط. فإن كانت خفيَّة أو غير منضبطة، اعتبر في العِلِّية ملازمها الذي هو /255/ مظنتها؛ لأن الخفيَّة وغير المنضبطة لا يعرِّفان الحكم؛ إذ هما غيب، فلا يعرفان الغيب. والخفيَّة كالعمدية المناسبة للقصاص؛ إذ هي قصد القلب، وهو أمر نفسي لا يدرك، فاعتبر ملازمها وهو الفعل المخصوص المقضي عليه عرفاً بأنه عمد؛ كاستعمال الجارح في المقتل؛ لأنه مظنتها. وغير المنضبطة كالمشقة المناسبة للقصر. فاعتبر ملازمها وهو السفر؛ لأنه مظنتها.
__________
(1) فإن الحل علة لصحة البيع.
(2) فإن الحل علة لصحة البيع.
(3) في قوله (ص): "لا يقضٍ القاضي وهو غضبان".
(4) وهي: السبر والتقسيم.(1/274)


والمناسبة معتبرة عند (أئمتنا، والجمهور)، خلافاً (للمريسي، وأبي زيد، وأصحابه، والمراوزة).
(252) فصل والمقصود من شرع الحكم جلب مصلحة، أو دفع مفسدة، أو مجموعهما، وقد يحصل ذلك يقيناً كالبيع، أو ظناً كالقصاص، وقد يكون الحصول ونفيه متساويين، كحد الخمر، وقد يكون نفي الحصول أرجح، كنكاح الآيسة لمصلحة التوالد(1).
والتعليل بالأولين إتفاق؛ إذ الأول متيقن، والثاني مظنون. ومنع بعضهم التعليل /256/ بالثالث؛ لاستواء الحصول وعدمه، وبالرابع؛ لمرجوحيته، وأثبته (الجمهور) اعتباراً للمظنة، وإن انتفى الظن في بعض الجزئيات؛ كاعتبار السفر للقصر؛ لأنه مظنة المشقة، وإن انتفى ظنها في حق الملِك المترفِّه. فأمَّا لو كان حصول المقصود فائتاً قطعاً كلحوق النَّسب في تزويج مشرقيٍ بمغربية علم عدم تلاقيهما(2)، وكمعرفة فراغ الرحم في استبراء جارية اشتراها بائعها ممن باعها إليه في المجلس(3). فالمختار وفاقاً (للجمهور): منع التعليل به؛ لامتناع شرع الحكم مع القطع بانتفاء حكمته، خلافاً (للحنفية)، وإيجاب الاستبراء في الصورة الثانية تعبّد.
(253) فصل وينقسم المناسب باعتبار نفسه إلى: حقيقيٍّ عقليّ، وخياليّ إقناعي.
(فالحقيقي): ما روعي فيه المصالح الدينية أو الدنيوية مع قوة مناسبته، وكونها لا تزداد على كثرة /257/ البحث والتأمل إلا وضوحاً. وأقسامه ثلاثة:
الأول: ما يقع في محل الضرورة، ويلقب بالضروري، وهو: ما روعي فيه المقاصد التي لا يقوم الدين إلا بحفظها. ومناسبتها في غاية الوضوح وأعلى المراتب، وهي قسمان:
__________
(1) لأن عدد من لا ينجب منهن أكثر من عدد من ينجب.
(2) فإن المقصود - وهو لحوق النسب - غير حاصل قطعاً، فيمتنع التعليل به لامتناع الحكم، وهو التزويج من دون حكمته وهي لحوق النسب.
(3) فإنه يعلم قطعاً فراغ رحمها، ولهذا جعلوا الاستبراء فيها تعبدا.(1/275)

55 / 66
ع
En
A+
A-