وقياس العكس: تحصيل نقيض حكم الأصل في الفرع؛ لافتراقهما في علة الحكم، كقول (أصحابنا، والحنفية): لَمَّا وجب الصوم في الاعتكاف بالنذر، وجب بغير نذر قياساً على الصلاة، فإنها لَمَّا لم تجب فيه بالنذر لم تجب بغير نذر. وقبله (الجمهور)، وهو المختار، ورده (ابن زيد، وبعض الأصوليين).
فإن أريد جمعهما بحد واحد قيل: تحصيل مثل حكم الأصل أو نقيضه في الفرع، لاشتراكهما في علة الأصل أو لافتراقهما فيها.
[أقسام القياس وأحكامه]
(225) فصل وينقسم القياس [1] باعتبار /223/ موقعه إلى: (عقلي)، ومورده المسائل العقلية. و(شرعي)، وهو المراد.
[2] وباعتبار استعماله إلى: (صحيح)، وهو ما جمع الشروط المعتبرة الآتية. و(فاسد)، وهو بخلافه.
[3] وباعتبار فائدته إلى: (قطعي)، وهو: ما عُلِمَ أصله وعلته ووجودها في الفرع، سواء كان الفرع أولى بالحكم من الأصل أو مساوياً له. و(ظني)، وهو بخلافه.
[4] وباعتبار جامعه إلى: (قياس علة)، وهو ما تذكر فيه العلة الجامعة بين الأصل والفرع، كقياس النبيذ على الخمر بجامع الإسكار. (وقياس دلالة)، وهو ما لم تذكر فيه، وإنما يجمع بينهما بما يلازمها من: خَاصيَّةٍ، كقياس النبيذ على الخمر بجامع الرائحة، أو حكم، كقياس قطع الجماعة بواحد، على قتلها به، بجامع الاشتراك في أحد موجبيها في الأصل، وهو وجوب الدية عليهم. وإلى (قياس معنى)، وهو ما كان جامعه مخيلاً(1). و(قياس شبهٍ)، وهو بخلافه.
[5] وباعتبار ظهوره وخفائه إلى: (جلي)، وهو ما كان الحكم فيه أولى أو مساوياً /224/، مع القطع بنفي تأثير الفارق، كالضرب والتأفيف، والعبد والأمة، وقيل: لا يسمى المساوي قياساً. و(خفي) وهو بخلافه.
(226) فصل والعقلي حجة في العقليات، عند (جمهور أئمتنا، والمعتزلة، وقدماء الأشعرية).
__________
(1) من الإخالة، وهي: الظن، أي: الظن أنه العلة.(1/251)
واختلف في التعبد بالشرعي(1)، فعند (المنصور، وأبي الحسين، والشيخ، وحفيده، والقفال): يجب عقلاً وسمعاً. وعند (جمهور أئمتنا، والمتكلمين): يجب سمعاً، والعقل مجوز فقط. (الظاهرية، والخوارج، والجاحظ، والنظام، والإمامية، والجعفران(2)، والإسكافي)(3): يَمتنع سمعاً. ثم اختلفوا(4)، فقيل: لأنه لا يوجد في السمع ما يدل عليه، وقيل: بل لوروده بإبطاله، وهو رأي (الإمامية)، وادعوا إجماع العترة عليهم السلام على ذلك، وهو غير صحيح. واختلفوا فيه عقلاً، فقيل /225/: جائز، وهو رأي (الظاهرية، والخوارج)، وقيل: ممتنع، وهو رأي الباقين. ثم اختلفوا، فقيل: في شرعنا، وهو رأي (النظام)؛ لأن مبنى القياس على الجمع بين المتماثلات، والفرق بين المختلفات، وشرعنا وارد بخلافه(5). وقيل: في كل شرع، وهو رأي (الإمامية)؛ لأن الأحكام الشرعية لا تُعْرَف
__________
(1) أي القياس الشرعي والخلاف فيه كالخلاف في خبر الواحد، وحكمه حكمه في أنه لا يكفر ولا يفسق منكر حجيَّته، وأن عليه مدار كثير من الأحكام، فيجب النظر وإيفاء الموضوع حقَّه من البحث والتحري؛ لأهمية القول بحجيتهما، أو بعدمها، ولا ينبغي الركون في مثل هذين الأصلين المهمين إلى التقليد.
(2) الجعفران هما: جعفر بن حرب الهمداني المعتزلي من معتزلة بغداد، كان يميل إلى التشيع، له مصنفات كثيرة منها: كتاب (الإيضاح) و(نصيحة العامة). توفي سنة سبع وثلاثين ومائتين. وجعفر بن مبشر، وقد تقدمت ترجمته.
(3) الإسكافي، هو: العلامة أبو جعفر محمد بن عبد الله السمرقندي الإسكافي المتكلم على مذهب المعتزلة، قيل: كان أعجوبة في الذكاء وسعة المعرفة وكان يتشيع، مات سنة أربعين ومائتين. سير أعلام النبلاء 10/550.
(4) أي: القائلين بمنعه سمعاً.
(5) يعني: وشرعنا وارد بالفرق بين المتماثلات، كالغسل من إنزال المني مع أن البول والغائط أقبح منه. والجمع بين المختلفات، كالتسوية بين قتل صيد الحرم عمداً أو سهواً في الفداء.(1/252)
بالعقل، ولأن طريقه الظن، وهو يحتمل الخطأ، ولخفائه وإغناء النصوص عنه(1).
(227) فصل (أئمتنا، والجمهور): وأدلة التعبد به من السمع قطعية، إذ لا يثبت مثله إلا بقاطع. (أبو الحسين، والشيخ، وحفيده، وغيرهم): بل ظنية، وإثبات القطعي العملي بالظني جائز. ويلزمهم مثله في كل قطعي عملي. والتحقيق: أن الخلاف في اعتقاد كونه حجة، وهو أي اعتقاد كونه حجَّة علمي، فلا يثبت إلا بقاطع /226/.
ولا يفسق منكره، خلافاً (للباقلاني)، إذ لا دليل؛ وإن قطع بخطئه.
والمختار وفاقاً (للقاضي، وابن علية، وابن سريج): أنه مأمور به. (الشيخ): إن أريد أن الله تعالى بعثنا على فعله فهو كذلك، وإن أريد أنه أمرنا بصيغة الأمر فمحتمل(2). وأنه(3) من أصول الفقه، خلافاً (للجويني).. ومن الدين مطلقاً خلافاً (لأبي الهذيل). (أبو علي): واجِبُه منه لا مندوبه.
وقد يكون واجباً على الأعيان(4) وعلى الكفاية، ومندوباً فيما يجوَّز حدوثه.
(228) فصل ويمتنع ثبوت كل الأحكام الشرعية به، لأدائه إلى الدور، أو التسلسل بخلاف النص؛ ولأن فيها ما لا يعقل معناه(5).
__________
(1) هذه علل واردة على القياس لو لا العمل بالظن، ولعل التعليل عند الإمامية أنهم لا يقبلون إلا من الإمام لعصمته، فهو المرجع عندهم.
(2) وإنما قال بالاحتمال لمحل قوله تعالى: ?فاعتبروا يا أولي الأبصار?، وهو حجة القائلين بأنه مأمور به.
(3) العطف على: أنه مامور به.
(4) حيث لا يوجد إلا مجتهد، أو تتضيق الحادثة في مسألة واقعية لا فرضية يجوز حدوثها.
(5) أي: لأن في الأحكام ما لا تعرف علته.(1/253)
ويجري عند (أئمتنا، والشافعية) في كل مسائل الفروع القابلة للتعليل(1). وليس في الشرع جمل من الأحكام لا يجوز قيام دليل على عللها - فيمتنع القياس عليها - غير المستثنى(2) خلافاً (للحنفية)؛ فيجوز وإن لم يُضْطَر إليه على الأصح.
ويجوز في غير الجلي، خلافاً /227/ (لداود)، وفي الحدود كإيجاب الحد على اللائط قياساً على الزاني. وفي الكفارات، كإيجاب الكفارة على المفطر بالأكل في رمضان، قياساً على المفطر بالجماع. وفي الرخص كالفطر في سفر المعصية، قياساً على سفر الطاعة. وفي المقادير كتقدير نصاب الخضراوات ونحوها بمائتي درهم، قياساً على أموال التجارة. وثبوت حكم الفرع في هذه الأربعة(3) بالقياس، لا بالاستدلال على موضع الحكم بحذف الفوارق الملغاة، خلافاً (للحنفية)(4).
وفيما ليس الفرع فيه أولى بالحكم، خلافاً (للقاساني(5)، والنهرواني)(6).
وفي الأسباب، وفاقاً (لأكثر الشافعية)، وخلافاً (للحنفية)، وهي العلل، كقياس اللواط على الزنى في كونه سبباً لوجوب الحد بجامع الإيلاج المحرم، والأظهر أن الخلاف في الشروط والموانع كذلك(7).
__________
(1) لتخرج التعبديات.
(2) وهي: الأحكام المعدول بها عن سَنَنِ القياس، أي: عن مقتضى الأصول العقلية، وستأتي.
(3) التي هي: الحدود، والرخص، والكفارات، والمقادير.
(4) يعني فقالوا: إن دليل الفرع دليل الأصل بإلغاء الفوارق.
(5) قال في (الدراري): هو بالقاف والسين المهملة، منسوب إلى قرية من قرى الترك.
(6) النهرواني، هو: أبو الفرج المعافى بن زكريا بن يحيى بن حميد بن داود النهرواني، علامة أصولي أديب، له كتاب بعنوان الجليس الصالح، توفى سنة تسعين وثلاثمائة. كشف الظنون1/ 593.
(7) قالوا: لأن العلة والسبب والشرط والمانع كالشرعيات لا يهتدى إلى معانيها بالعقل،وهو كلام جيد.(1/254)
ويمتنع في العادي الخَلقي، كأقل /228/ الحيض والنفاس والحمل وأكثرها. وفي النفي الأصلي خلاف يأتي إن شاء الله تعالى(1).
(229) فصل (أئمتنا، والجمهور): والنص على علة الحكم فعلاً أو تركاً لا يكفي في تعدية الحكم بها إلى غير المحل المنصوص عليه، من دون ورود التعبد بالقياس. (أبو الحسين، وبعض الفقهاء، والظاهرية): يكفي النص عليها فيهما(2)وإن لم يرد التعبد به. (المنصور، وأبو عبد الله، وغيرهما): إن كان النص عليها في الفعل أُشترط ورود التعبد به، وإن كان في الترك لم يشترط ذلك. وفرع (أبو عبد الله، وغيره) على ذلك منع التوبة من بعض المعاصي دون بعض. (المؤيد بالله، والنظام، وأبو هاشم، والكرخي): إلحاق ما وجدت فيه العلة بمحل النص ليس قياساً، بل بطريق عموم اللفظ؛ لأنه كالمنصوص عليه.
[أركان القياس وشروطها]
(230) فصل وأركانه أربعة /229/: الأصل، وحكمه، والفرع، والعلة. فأما حكم الفرع، فهو ثمرة القياس، فلو جعل ركناً فيه لتوقف على نفسه.
فالأصل، لغة: ما تفرّع عليه غيره. واختلف فيه اصطلاحاً، فعند الأصوليين والفقهاء: أنه محل الحكم المشبّه به(3). (أبو طالب، والمنصور، والشيخ، والمتكلمون): بل دليله. وقيل: حكمه(4)، وقيل: العلة الثابتة في محل الوفاق(5). (أبو الحسين): وإذا كان الأصل ما يبنى عليه غيره فلا بُعْدَ في الجميع.
والحكم، لغة: المنع. واصطلاحاً: ما أثرت فيه العلة. ويسمى في الأصل معللاً، وأما قولهم: ويسمى في الفرع معلولاً. فوهم، وقد يسمى محل حكم الأصل: معللاً بواسطة حكمه.
(131) فصل وشروط حكم الأصل الصحيحة خمسة:
الأول: ثبوته، فلا يقاس على أصل منسوخ لزوال اعتبار الجامع، خلافاً لشذوذ.
__________
(1) في باب الحضر والإباحة.
(2) أي: في الفعل والترك.
(3) وهو الخمر في قياس النبيذ عليه، فإنه محل التحريم.
(4) وهو التحريم في المثال السابق.
(5) وهي الإسكار في المثال السابق.(1/255)